عرض مشاركة واحدة
  #430  
قديم 30-04-2023, 05:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3871 الى صـ 3885
الحلقة (430)


[ ص: 3871 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[116-117] ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم .

ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم

أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله . فـ ( الكذب ) مفعول ( تقولوا ) وقوله : هذا حلال وهذا حرام بدل من ( الكذب ) واللام صلة للقول ، كما يقال : لا تقل للنبيذ إنه حلال ، أي : في شأنه وحقه . فهي للاختصاص . وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان ، لا حكم مصمم عليه . أو : هذا حلال مفعول ( تقولوا ) و ( الكذب ) مفعول ( تصف ) واللام في : لما تصف تعليلية ، و ( ما ) مصدرية . ومعنى تصف : تذكر . وقوله : لتفتروا بدل من التعليل الأول . أي : لا تقولوا : هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب ، أي : لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة . وليس بتكرار مع قوله : لتفتروا على الله الكذب لأن هذا لإثبات الكذب مطلقا ، وذلك لإثبات الكذب على الله . فهو إشارة إلى أنهم ، لتمرنهم على الكذب ، اجترؤوا على الكذب على الله ، فنسبوا ما حللوه وحرموه إليه . وعلى هذا الوجه - كون الكذب مفعول ( تصف ) - ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ؛ لجعله عين الكذب . ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة ، [ ص: 3872 ] حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها ، فـ ( تصف ) بمعنى توضح . فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب . فالتعريف في الكذب للجنس . كأن ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته ، وعليه قول المعري :


سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا


ونحوه : ( نهاره صائم ) إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص ؛ لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه . و ( وجهها يصف الجمال ) لأن وجهها لما كان موصوفا بالجمال الفائق ، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه ، الذي يعرف منه . حتى كأنه يصفه ويعرفه ، كقوله :


أضحت يمينك من جود مصورة لا بل يمينك منها صور الجود


فهو من الإسناد المجازي . أو نقول : إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال . فهو استعارة مكنية . كأنه يقول : ما بي هو الجمال بعينه ، ومثله ورد في كلام العرب والعجم . هذا زبدة ما في (" شروح الكشاف ") .

وما في الآية أبلغ من المثال المذكور ، لما سمعت . أفاده في " العناية " . واللام في : لتفتروا لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية ؛ إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا ، بل لأغراض آخر يترتب عليها ما ذكر . وجوز كونها تعليلية ، وقصدهم لذلك غير بعيد . وفي قوله تعالى : إن الذين يفترون الآية . وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد له لا في الدنيا ولا في الآخرة . أما في الدنيا ، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب . وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي [ ص: 3873 ] أو حلل شيئا مما حرم الله . أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيه .

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا .

قال في (" فتح البيان ") : صدق رحمه الله . فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله ، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية ، أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : عسى رجل يقول : إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا . فيقول الله عز وجل : كذبت ، أو يقول : إن الله حرم كذا وأحل كذا : فيقول الله له : كذبت .

قال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية ، وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه ، ويقال في المسائل الاجتهادية : إني أكره كذا وكذا ، ونحو ذلك .

ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم إلخ ، بين ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضا شيء مما حرمه المشركون ؛ تحقيقا لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

[118-119] وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .

وعلى الذين هادوا يعني اليهود : حرمنا ما قصصنا عليك من قبل أي : [ ص: 3874 ] في سورة الأنعام في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما الآية وما ظلمناهم أي : فيما حرمنا عليهم : ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي : فاستحقوا ذلك . كقوله : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا ، فتذكر . قالوا : في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم . فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلا ما فيه مضرة لها . وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه ، عقوبة لهم بالمنع ، كاليهود .

ثم بين تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله :

ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أي : العمل فيما بينهم وبين ربهم : إن ربك من بعدها أي : التوبة : لغفور رحيم

ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد ، ورفض الوثنية ، وتبرئة لمقامه ، مما كانوا يفترون عليه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[120-121] إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم .

إن إبراهيم كان أمة أي : إماما يقتدى به ، كقوله تعالى : إني جاعلك للناس إماما أو كان وحده أمة من الأمم ؛ لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره : قانتا لله أي : خاشعا مطيعا له ، قائما بما أمره : حنيفا أي : مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق : ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه أي : قائما بشكر نعم الله عليه ، مستعملا لها على [ ص: 3875 ] الوجه الذي ينبغي ، كقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى أي : قام بجميع ما أمره الله تعالى به : اجتباه أي : اختاره واصطفاه للنبوة : وهداه إلى صراط مستقيم وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، على شرع مرضي .
القول في تأويل قوله تعالى :

[122-123] وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .

وآتيناه في الدنيا حسنة أي : من الذكر الجميل ، كما قال : وجعلنا لهم لسان صدق عليا ومن الصلاة والسلام عليه ، كما قال : وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية : وإنه في الآخرة أي : في عالم الأرواح : لمن الصالحين أي : المتمكنين في مقام الاستقامة ، بإيفاء كل ذي حق حقه ، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة .

ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين أي : بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين ، شرفناه وكرمناه بأمرنا ، باتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع . كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها ، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها ، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع ، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق . قاله القاشاني .

وفي (" الإكليل ") : استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان ، وما كان من شرعه ، ولم يرد به ناسخ .

[ ص: 3876 ] لطيفة :

قال الزمخشري : في : { ثم } هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الكرامة ، وأجل ما أولي من النعمة ؛ اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته ، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة ، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .

قال الناصر : وإنما تفيد ذلك : { ثم } لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان ، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة ، بحيث يكون المعطوف على رتبته أشمخ محلا مما عطف عليه . فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام ، قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا ، وأرفع رتبة ، وأبعد رفعة ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي ، الذي هو سيد البشر ، متبع لملة إبراهيم ، مأمور باتباعه بالوحي ، متلوا أمره بذلك في القرآن العظيم . ففي ذلك تعظيم لهما جميعا . لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر ، على ما مهدناه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[124] إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .

إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه يعني اليهود ، فرض عليهم تقديسه وإراحة أنفسهم ودوابهم فيه من الأعمال . فاعتدوا فيه واحتالوا لحله .

قال القاشاني : أي : ما فرض عليك ، إنما فرض عليهم . فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك ، بل اتباع إبراهيم ، وقوله تعالى : وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي : بالمجازاة على اختلافهم ، يعني إفسادهم وزيغهم عن طريق الحق .
ثم بين تعالى أدب الدعوة إلى دينه الحق ، بقوله :

[ ص: 3877 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[125] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة . وهو الدليل الموضح للحق ، المزيح للشبهة : والموعظة الحسنة أي : العبر اللطيفة والوقائع المخيفة ، ليحذروا بأسه تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن أي : جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة ، من الرفق واللين ، وحسن الخطاب ، من غير عنف ، فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم . وقوله تعالى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين أي : عليك البلاغ والدعوة بالصفة المبينة ، فلا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات ، فإنه ليس عليك هداهم ؛ لأنه هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه ، فيجازي كلا منهما بما يستحقه . أو المعنى : اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة . فإن الله تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعداده المكتسب . وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلي . فما شرعه لك في الدعوة ، هو الذي تقتضيه الحكمة . فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين . أفاده أبو السعود .

تنبيه :

دل قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن على الحث على الإنصاف في المناظرة ، واتباع الحق ، والرفق والمداراة ، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل ، وأن لا غرض سواه .

وقوله تعالى :

[ ص: 3878 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[126] وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .

وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين أي : الزموا سيرة العدالة ، لا تجاوزوها . فإنها أقل درجات كمالكم . فإن كان لكم قدم في الفتوة ، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة ؛ فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم ، وعارضوه بالعفو مع القدرة ، واصبروا على الجناية ، فإنه : لهو خير للصابرين ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه ، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال : ( لهو خير لكم ) بل قال : لهو خير للصابرين للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر . فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب . فلم يتكدر بظهور صفة النفس . وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه . فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس . وتنكسر سورة غضبه فيصلح . وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف ، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا ، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها ، فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني . أفاده القاشاني .

تنبيهات :

الأول : في (" الإكليل ") : قال ابن العربي : في الآية جواز المماثلة في القصاص خلافا لمن قال : لا قود إلا بالسيف . ويستدل بها لمسألة الظفر ، كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعي ؛ أنهما استدلا بها عليها . ولفظ النخعي : سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم ؟ قال : إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه . ثم قرأ هذه الآية . ولفظ ابن سيرين : إن أخذ منكم رجل شيئا ، فخذوا مثله .

[ ص: 3879 ] قال ابن كثير : وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم ، واختاره ابن جرير . فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق .

الثاني : قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة . وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد ، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلا منهم » . فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله ! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط . فأنزل الله الآية هذه ، إلى آخر السورة .

قال الحافظ ابن كثير : هذا مرسل وفيه مبهم لم يسم . ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولا عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه ، وقد مثل به . فقال : « رحمة الله عليك . إن كنت لما علمت ، لوصولا للرحم ، فعولا للخيرات . والله لولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع . ( أو كلمة نحوها ) . أما والله ! على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك » . فنزلت هذه الآية . فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني عن يمينه ، وأمسك عن ذلك .

قال ابن كثير : وهذا إسناد فيه ضعف ؛ لأن صالحا ( أحد رواته ) هو ابن بشير المري ، ضعيف عند الأئمة . وقال البخاري : هو منكر الحديث . وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبي بن كعب ، قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم . فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم . فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - فنزلت الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نصبر ولا نعاقب » .

[ ص: 3880 ] أقول : بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول - في مقدمة التفسير - يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة ؛ ولا إلى ما روي من هذه الآثار ؛ إذ به يتضح عدم التنافي ، والتقاء الآثار مع الآية فتذكره .

الثالث : قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها ثم قال : فمن عفا وأصلح فأجره على الله الآية . وقال : والجروح قصاص ثم قال : فمن تصدق به فهو كفارة له انتهى .

ثم أكد تعالى الأمر بالصبر ، ليقوي الثبات والاحتمال ، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[127-128] واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

واصبر وما صبرك إلا بالله أي : بمعونته وتوفيقه : ولا تحزن عليهم أي : على الكافرين ، أي : على كفرهم وعدم هدايتهم : ولا تك في ضيق مما يمكرون أي : في ضيق صدر مما يمكرون من فنون المكايد

إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون تعليل لما قبله . أي : فإنه تعالى كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم ؛ لأنه تعالى مع المتقين والمحسنين بالمعونة والنصر والتأييد ، فيحفظهم ويكلؤهم ويظهرهم على أعدائهم . قال ابن كثير : [ ص: 3881 ] هذه معية خاصة كقوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وقوله لموسى وهارون : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى وأما المعية العامة فالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا

قال أبو السعود : تكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه ، من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى . وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث . كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة فيهم . وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية . والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في زمرتهم دخولا أوليا . وإما هو صلى الله عليه وسلم ومن شايعه . عبر عنهم بذلك ، مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين . وفيه رمز إلى أن صنيعه صلى الله عليه وسلم مستتبع لاقتداء الأمة به ، كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما ، عند التعزية بأبيه العباس :


اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس


وبعد هذا البيت :


خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس


قال ابن عباس : ما عزاني أحد من تعزيته .

وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار : أوص . قال : إنما الوصية من المال ، فلا مال لي . وأوصيكم بخواتيم سورة النحل . . .
[ ص: 3882 ] سورة الإسراء

وتسمى سورة بني إسرائيل وسورة سبحان، ولم يحك خلاف في كونها مكية.

نعم استثنى بعضهم منها: ويسألونك عن الروح وآية وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله تعالى إن الباطل كان زهوقا وآية قل لئن اجتمعت الإنس والجن الآية ، وقوله وما جعلنا الرؤيا الآية ، وقوله إن الذين أوتوا العلم من قبله لما ذكروه في أسباب نزولها. ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى، وآياتها مائة وإحدى عشرة.

[ ص: 3883 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

[1] سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .

سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير

يمجد تعالى نفسه بقوله : سبحان وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله ، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره . وقوله تعالى : الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام أي : سيره منه ليلا . و ( أسرى ) بمعنى ( سرى ) يقال : أسراه وأسرى به وسرى به . فهمزة ( أسرى ) ليست للتعدية ، ولذا عدي بالباء . وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في ( أسرى ) لإفادة السرعة في السير ، ولذا أوثر على ( سرى ) .

والإسراء سير الليل كله ، كأسرى ، فقوله تعالى : ليلا للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود . مثل : أسعفت مرامه . مع أن الإسعاف قضاء الحاجة . أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر . وقد استظهره الناصر في " الانتصاف " قال : ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضمونا لغيره ، قوله تعالى : لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية ، وكذلك المفرد . فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين ، وهو التثنية ، مراد مقصود ، وكذلك أريد الإيقاظ ؛ لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله : إنما هو إله واحد ولو اقتصر على قوله : { إنما هو إله } لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له . والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية .

[ ص: 3884 ] وقيل : سر قوله : { ليلا } إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه . أي : أنه كان في بعض الليل ، أخذا من تنكيره . فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا للتعميم ، فلا تقول : أرقت الليل ، وأنت تريد ساعة منه ، إلا أن تقصد المبالغة . بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك . فلما عدل عن تعريفه هنا ، علم أنه لم يقصد استغراق السرى ، وهذا هو المراد من البعضية . وجوز بعضهم أن يكون ( أسرى ) من ( السراة ) وهي الأرض الواسعة . وأصله من الواو ، أسرى مثل أجبل وأتهم ، أي : ذهب به في سراة من الأرض ، وهو غريب . وفي تخصيص الليل إعلام بفضله ؛ لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى ، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل . والمراد ( بعبده ) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم . وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عز وجل وانقياده لأوامره - ما لا يخفى .

والعبد لغة : الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة ، كالعبادة والعبودة .

قال ابن القيم في (" طريق الهجرتين ") : أكمل الخلق أكملهم عبودية . وأعظمهم شهودا . لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين . ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : « أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك » .

ثم قال : ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة ، وأعظمهم عنده جاها ، وأرفعهم عنده منزلة ؛ لتكميله مقام العبودية والفقر . وكان يقول : « أيها الناس ! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ، إنما أنا عبد » . وكان يقول : « لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » . وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته : مقام [ ص: 3885 ] الإسراء ، ومقام الدعوة ، ومقام التحدي . فقال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال : وأنه لما قام عبد الله يدعوه وقال : وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة : أن المسيح يقول لهم : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فنال ذلك بكمال عبوديته لله ، وبكمال مغفرة الله له . انتهى .

وقوله تعالى : من المسجد الحرام يعني مسجد مكة المكرمة . سمي حراما ، كبلده ، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره ولا كلئه . وقوله سبحانه : إلى المسجد الأقصى هو مسجد بيت المقدس ، وكان يعرف بهيكل سليمان ؛ لأنه الذي بناه وشيده و : الأقصى بمعنى الأبعد . سمي بذلك لبعده عن مكة ، وقوله تعالى : الذي باركنا حوله أي : جوانبه ببركات الدين والدنيا ؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء ومهبط وحيهم ومنمى الزروع والثمار . فاكتنفته البركة الإلهية من نواحيه كلها . فبركته إذن مضاعفة ؛ لكونه في أرض مباركة ، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى . والمساجد بيوت الله . ولكونه متعبد الأنبياء ومقامهم ومهبط وحيه عليهم ، فبورك فيه بركتهم ويمنهم أيضا .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.38 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.28%)]