ويطلق القنوت على السكوت والخشوع، أي: وقوموا لله مخلصين في صلاتكم في قيامها وجميع أحوالها، خاشعين له بقلوبكم وجوارحكم، غير متكلمين بما ليس منها، كما قال زيد- رضي الله عنه: «كان أحدنا يكلم صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام».
وكما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ أي: خاشع ذليل بين يدي ربه، وقال تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 43].
والقنوت والخشوع لب الصلاة، ولهذا جاء في الحديث: «أن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها»[20].
قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾.
لما أمر عز وجل بالمحافظة على الصلوات بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها وأكد ذلك - أتبع ذلك ببيان كيفية أدائها حال الخوف والقتال، وأنها تصلَّى كيفما أمكن، وفي ذلك تخفيف على الأمة، وتأكيد لأمر الصلاة أيضًا، حيث لم يعذَر في تركها ولا في تأخيرها عن وقتها في أشد الأحوال حال الخوف والقتال والتحام الصفوف.
قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن»: شرطية، ﴿ خِفْتُمْ ﴾: فعل الشرط.
والخوف: توقُّع حصول مكروه بأمارة معلومة أو مظنونة، كما في حال القتال والمسايفة والتحام الصفوف.
وحذف المتعلق في قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ﴾؛ ليعم كل خوف، من عدو، أو سبع، أو فوات ما يتضرر الإنسان بفواته، وغير ذلك.
﴿ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ الفاء: واقعة في جواب الشرط «إن»، أي: فصلوا حال كونكم رجالًا أو ركبانًا، و«رجالًا» جمع: «راجل»، وهو: من يمشي على رجليه، أي: حال كونكم ماشين على أرجلكم.
«وركبانًا» جمع: راكب أي: حال كونكم راكبين على الخيل والإبل، أو البغال والحمير، أو السيارات أو الطائرات، أو السفن أو غير ذلك من المراكب.
أي: فصلوا على أي حال كنتم رجالًا أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها؛ لأن في إباحة الصلاة ماشيًا أو راكبًا إيذانًا بالصلاة حيث توجه الماشي أو الراكب، ولو كان ذلك إلى غير جهة القبلة.
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: «فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها».
قال نافع: «لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»[21].
وفي رواية عن ابن عمر قال: «فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبًا، أو قائمًا، تومئ إيماءً»[22].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه، فذلك قوله: ﴿ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾»[23].
وبنحو من هذا فسر الآية جمع من السلف من الصحابة والتابعين[24].
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة الخوف عند التحام القتال والمسايفة تكون ركعة واحدة؛ لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة»[25].
قوله: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾؛ أي: فإذا زال الخوف عنكم واطمأننتم.
﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فاذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، بأنواع الذكر كلها، ومن ذلك الصلاة التي هي من أعظم الذكر، وفيها أعظم الذكر، القرآن، والتكبير والتسبيح والتحميد، وغير ذلك، وذلك بإقامتها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].
وقال تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ الكاف للتشبيه، وهي في محل نصب صفة لمصدر محذوف، و«ما» مصدرية، أي: كتعليمه إياكم. ويجوز كونها موصولة، أي: كالذي علمكم إياه.
والمعنى: فإذا أمنتم فاذكروا الله على الصفة التي علمكم أن تؤدوا الصلاة عليها حال الأمن، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].
ويجوز كون «الكاف» للتعليل، أي: اذكروا الله لتعليمه إياكم.
﴿ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: الذي لم تكونوا تعلمونه.
[1] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة- تحريم الكلام في الصلاة (539)، وأبو داود في الصلاة- النهي عن الكلام في الصلاة (949)، والترمذي في الصلاة- نسخ الكلام في الصلاة (405)، وأحمد (4/ 368).
[2] أخرجها البخاري في الجمعة (1200)، وفي التفسير (4534).
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (1199)، وفي فضائل الصحابة- هجرة الحبشة (3662)، ومسلم في المساجد – تحريم الكلام في الصلاة (538)، وأبو داود في الصلاة (923)، وأحمد (3/ 409).
[4] أخرجه أبو داود في الصلاة (924)، والنسائي في السهو (1221)، وأحمد (3/ 377، 415، 435).
[5] أخرجها النسائي في السهو (1220)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 381).
[6] انظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 435).
[7] انظر: «فتح الباري» (3/ 89).
[8] كما جاء في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال له حين تكلم في الصلاة: «إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله» أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (537)، وأبو داود في الصلاة (930)، والنسائي في السهو (1218).
[9] انظر: «المسند المتصل من أسباب النزول» ص (39).
[10] أخرجه البخاري في التوحيد (7534)، ومسلم في الإيمان (85)، والنسائي في المواقيت (610)، والترمذي في الصلاة (173).
[11] أخرجه البخاري في الدعوات (6396)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (627)، وأبو داود في الصلاة (409)، والترمذي في التفسير (2984)، وابن ماجه في الصلاة (684).
[12] أخرجه الترمذي في الصلاة (182)، (5/ 12، 13) - وقال الترمذي: «حديث حسن».
[13] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (628)، والترمذي في الصلاة (181)، وابن ماجه في الصلاة (686).
[14] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (574)، ومسلم في الموضع السابق (635)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الموضع السابق (554)، ومسلم في الموضع السابق (633)، وأبو داود في السنة (4729)، والترمذي في صفة الجنة (2551)، وابن ماجه في المقدمة (177)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في الموضع السابق (552)، ومسلم في الموضع السابق (626)، وأبو داود في الصلاة (414)، والنسائي في الصلاة ((478)، والترمذي في الصلاة (175)، وابن ماجه في الصلاة (685)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[17] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (553)، والنسائي في الصلاة (474)، وابن ماجه في الصلاة (694).
[18] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (830)، والنسائي في المواقيت (521)، وأحمد (6/ 73).
[19] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (629)، وأبو داود في الصلاة (410)، والنسائي في الصلاة (472)، والترمذي في التفسير (2982).
[20] أخرجه أبو داود في الصلاة (796)، وأحمد (4/ 319)، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه.
[21] أخرجه البخاري في التفسير (4535)، ومالك في النداء للصلاة (442).
[22] أخرجها مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (839).
[23] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 450).
[24] انظر: «جامع البيان» (4/ 386 – 392)، «تفسير ابن أبي حاتم» (2/ 450)، «تفسير ابن كثير» (1/ 436).
[25] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (687)، وأبو داود في الصلاة (1247)، والنسائي في الصلاة (456)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1068)، وأحمد (1/ 237).
وانظر: تفصيل القول في صفة صلاة الخوف الكلام على قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ﴾ [النساء: 101، 102].