الحادي عشر: أن كثيرًا من الشبهات قائمة على الجهل والقول على الله بغير علم؛ قال الشيخ بكر أبو زيد واصفًا حالهم: (اندلعت قضية التعالم في الوجود، لا سيما في صفوف المسلمين، وهي رمز للعدول عن الصراط المستقيم، وأضواء التنزيل، ووسيلة القول على الله العزيز الحكيم، فتجسَّدت أمامنا أدلة مادية قامت في ساحة المعاصرة على ما ذر قرنه من الخَوضِ في الشريعة بالباطل، وما تُولَّد عنه من فتن تغلي مراجلها على أنقاض ظهور الركالة)[39].
ومما عُلِمَ ضرورةً عند ذوي العقول أن تحدُّثَ المرء فيما لا يعرف ولا يُحسن: جهل مُغرِب وسَفَهٌ مطبِق.
لكن علماء الأصول حَمَوا حصن الشريعة بتقعيد علم أصول الفقه؛ فكشفوا به سبل الغاوين، ونقضوا طرق المبطلين، فلا يتقحَّم متقحِّم إلا بيَّنوا سبيله، ونقضوا حُجَّته[40].
الثاني عشر: ترِد بعض الشبهات بسبب الخطأ في فهم الخطاب؛ فإن (معظم الأغاليط والاشتباهات ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها)[41].
وأكثر آفات الناس من الألفاظ، ولا سيما في بعض المواضع التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه والتعبير المطابق، فيتولد من ضعف التصور وقصور التعبير نوعُ تخبيطٍ، ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم بحسب قصورهم وبعدهم عن العلم[42].
يقول ابن حزم: (والأصل في كل بلاء وعَمَاء وتخليط وفساد: اختلاط الأسماء ووقوع اسم واحد على معانٍ كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته؛ فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال، وهذا في الشريعة أضرُّ شيء وأشده هلاكًا لمن اعتقد الباطل إلا من وفَّقه الله تعالى)[43].
ولما كان الحال كذلك، كان لعلم الأصول بكافة فصوله وأبوابه قَدَمُ السبق في ضبط أصول فهم الخطاب، وتحرير معاني النصوص وتفسيرها، وبيان مجملها وإيضاح مُشكِلها، وتحقيق المعنى المراد منها.
الثالث عشر: غلب على كثير من أصحاب الشُّبَهِ نزعة المعارضة للنصوص بحجة العقل وموجبه؛ وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات الصحيحة، وجدتَ من الجهليات الفاسدة[44].
أما الأصوليون، فإنهم لم يغفُلوا منزلة العقل ويُهملوها؛ إذ هو أداة الفهم واستنباط المعاني، فأفردوا كتبًا لباب الاجتهاد، وبيَّنوا أثر العقل ومحله في ذلك؛ كنصب الأدلة، وإعمال الأقيسة، وتحقيق مناطات الأحكام الشرعية، ونحو ذلك[45].
مع ذلك فقد جعلوا له حدًّا ومعيارًا ضابطًا؛ فلا يجاوز حدَّه، ولا يتعدى طَوره، فلا يستقل بتشريع أو ينفرد بنظر مُنْبَتٍّ عن أصول وقواعد الشريعة؛ لعدم اهتدائه إلى دقائق ذلك، وإدراك حقائقه تفصيلًا[46].
الرابع عشر: اعتماد أصحاب الشُّبَهِ بتَّ النصوص بعضها عن بعض؛ وهذا يؤول إلى:
• التصديق ببعض النصوص دون بعض؛ فكانوا كأهل الكتاب الذين قال الله فيهم: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].
• واتباع المتشابه، فكانوا كالذين في قلوبهم زيغٌ؛ الذين قال الله فيهم: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7].
أما أهل الأصول، فإن منهجهم قائم على تأليف النصوص، ورد المتشابه إلى المحكَم، فتلقَّوا نصوص الوحي بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والباطل؛ حيث جعلوها عِضِين[47]، وأقروا بعضها، وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين[48].
أثر المعرفة بمقاصد الشريعة في مواجهة الشبهات:
إذا استقرَّ عند المرء أن الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح للمكلَّفين، وأنها مشتملة على الخيرات والبركات، والعدل والإحسان، وأنها قد نَهَتْ عن كل ما ينافي ذلك ويضاده من الشرور والمفاسد، وأنها جاءت لتكون هدًى ونورًا ورحمةً للناس؛ إذا أحكم المسلم هذا الأصل على قدر رفيع، استيقن (حفظ الشريعة، وعصمتها عن التغيير والتبديل)[49].
(فالمضطلع بأصولها، المستشعر أنها تنزيل من حكيم حميد، نزل بها الروح الأمين على قلب أكمل الخليقة لنجعلها نورًا نمشي به في الناس، يتجنب مصارع الضلال، ولا يُلِمُّ بشيء من التصورات الباطلة إلا نسف غبارها نسفًا، فيستبين سبيل الحق الذي لا غبار عليه)[50]، ويطرح كل مقالة فاسدة شبَّه بها المبطلون، حتى وإن عَرَضَتْ شُبهة لم يدرك جوابها تفصيلًا، فقد أدرك جوابها إجمالًا[51].
الخلاصات والنتائج:
يمكن إجمال خلاصات ونتائج ما مضى قوله في أمور؛ منها:
• أن علم أصول الفقه من العلوم جليلة القدر، عظيمة الأثر، متعدية النفع.
• من المهم بيان آثار العلوم في بعض المسائل، وإعمالها في القضايا المعاصرة.
• من المهم إخراج بعض العلوم من ساحة النظرية إلى ساحة التطبيق؛ لتتجلى فائدتها، وتُجنى ثمرتها.
• أن جمهور مسائل الأصول تعزز الإيمان في قلب المرء ويطمئن لذلك؛ فيستقر لديه أن هذه الشريعة كاملة عظيمة، لم يألُ علماؤها جهدًا في القيام بحقها، وتأصيل القواعد التي تحمي سورها من الناكبين عن سواء الصراط.
• من أهم السبل للتعامل مع الشبهات ومواجهتها هي حسن التأصيل والتقرير المتين للحق.
• أن شريعة الله محفوظة من التغيير والتبديل، وإن طاشت إليها أيدي المبطلين.
• أن الله قد قيَّض لهذا الدين أفذاذًا، قاموا له بما استطاعوا؛ فنصروه ونزَّهوه عن تحريف الغالين، ودفعوا عنه تأويل الجاهلين والمبطلين.
• أن الدفاع عن شريعة الله حمل وأمانة؛ فيستدعي ذلك عُدَّة وبصيرة وجَلَدًا.
• أن الدفاع عن شريعة الله لا ينحصر في فئة خاصة من الناس، بل على كل من آتاه الله مَكِنةً وبصيرة أن يدرَأَ عنها لُوثات الباطل، وأوضار الضلال.
هذا، ونسأل الله أن يجعلنا من حُماة شريعته، وأنصار كلمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
[1] التمهيد للإسنوي (43).
[2] ينظر: الوجيز في أصول الفقه الإسلامي للزحيلي (1/ 35).
[3] قواعد الأصول ومعاقد الفصول للقطيعي (48)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 44).
[4] أصول الفقه لابن مفلح (1/ 15).
[5] حقيقة القولين (103).
[6] مدارج السالكين لابن القيم (1/ 65).
[7] ينظر: الإبهاج في شرح المنهاج لعبدالكافي السبكي وولده عبدالوهاب (15).
[8] الموافقات (2/ 93)، وانظر: الرسالة للشافعي (50)، والبرهان للجويني (1/ 169)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 468).
[9] ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (180)، ومجموع الفتاوى له (1/ 246)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 45).
[10] ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام (2/ 337)، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/ 111).
[11] نفائس الأصول (1/ 100).
[12] الغياثي للجويني (334).
[13] ينظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم (2/ 890)، ومفتاح دار السعادة له (1/ 394-396)، ومجموع الفوائد واقتناص الأوابد ضمن مجموع مؤلفات السعدي (21/ 224).
[14] ينظر: فيض القدير للمناوي (4/ 185).
[15] الردود لبكر أبو زيد (11).
[16] درء تعارض العقل والنقل (1/ 357).
[17] ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله للدكتور عياض السلمي (21، 22).
[18] ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (3/ 310)، وشرح الأصبهانية له (60).
[19] ينظر: المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها للدكتور عبدالله القرني (5-6).
[20] ينظر: المنهج الدلالي الأصولي وأثره في حفظ الشريعة للدكتور محمد التركي (12).
[21] ينظر: تعظيم النص الشرعي مكانته ومعالمه للدكتور حسن بخاري (85).
[22] ينظر: نظرات في الإسلام للدكتور محمد عبدالله دراز (6-7)، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للدكتور محمد الجيزاني (23)، ولمحات من محاسن الإسلام لمحمد العرفج (23).
[23] ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله للدكتور عياض السلمي (20-21).
[24] ينظر: ترياق للدكتور مطلق الجاسر (44).
[25] الموافقات للشاطبي (5/ 221)
[26] منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/ 302).
[27] يقول الشيخ يوسف الغفيص في محاضرة له بعنوان تكوين الملكة الأصولية: (الشافعي خَشِيَ أن يقود الاستحسان إلى التحكم والتخرُّص في الشريعة، لا سيما وأن بعض الأحناف قالوا: إنه معنًى يقع في نفس المجتهد لا يمكنه الإفصاح عنه، وهم لا يقصدون أنه تقدير من عنده، وأنه تخرص وتحكم، وإنما قصدوا أن المعنى الذي نقل عن القياس الجلي: ليس مسمًّى بوجه معين، ومن الأوجه التي حملت الشافعي ألَّا يقبل دليل الاستحسان هو عدم انتظامه بقانون ومعيار واضح).
[28] الاعتصام (3/ 67).
[29] مذكرة في أصول الفقه (200)، وللاستزادة ينظر: الاستحسان ليعقوب الباحسين (14) وما بعدها.
[30] ينظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للدكتور محمد الجيزاني (23).
[31] ينظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني للألوسي (1/ 91).
[32] ينظر: الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان لمحمد الخضر حسين (6/ 5) ضمن موسوعة الأعمال الكاملة، وأصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله للدكتور عياض السلمي (21).
[33] ينظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (232).
[34] التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 261).
[35] ينظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للمعلمي (2/ 395).
[36] ينظر على سبيل المثال: المغني لابن قدامة (9/ 472)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 17)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 425)
[37] التسليم للنص الشرعي والمعارضات الفكرية المعاصرة لفهد العجلان (68).
[38] مدارج السالكين لابن القيم (2/ 438).
[39] التعالم (24) ضمن المجموعة العلمية.
[40] ينظر على سبيل المثال: رد الأصوليين على من أنكر الإجماع: في كتاب البرهان للجويني (1/ 675) وما بعدها، وقواطع الأدلة للسمعاني (1/ 462)، وروضة الناظر لابن قدامة (441).
ومن أنكر القياس: في كتاب شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 269)، وأضواء البيان للشنقيطي (4/ 812).
[41] شفاء الغليل للغزالي (420).
[42] ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (3/ 471).
[43] الإحكام (8/ 101).
[44] ينظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 169).
[45] ينظر: التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه للدكتور عايض الشهراني (1/ 139).
[46] ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 96).
[47] قال الراغب الأصفهاني في المفردات (571) في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ [الحجر: 91]: (أي: مفرَّقًا).
[48] ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/ 270)، وأعلام الموقعين لابن القيم (1/ 102).
[49] الموافقات للشاطبي (2/ 93).
[50] السعادة العظمى لمحمد الخضر حسين (24/ 56) ضمن موسوعة الأعمال الكاملة.
[51] ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (10/ 129)، ومجموع الفوائد واقتناص الأوابد ضمن مجموع مؤلفات السعدي (21/ 227).