عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29-08-2023, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,061
الدولة : Egypt
افتراضي القبائلية وفقه النسب والانتساب

القبائلية وفقه النسب والانتساب
د. سعد بن مقبل الحريري العنزي



مدخل:
الناس في مواقفهم من مسألة النسب والانتساب، طرفان ووسط، فهناك الغالي الذي جعل من النسب معقدًا للولاء والبراء، وهناك الجافي الذي تنكَّر للنسب ورأى أن القضية برمتها جاهلية، فلبَّس الحق بالباطل، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة: 42].


والصواب أن الإسلام عقيدة وشريعة قائم على قاعدة الوسطية التي تجمع بين الثنائيات بميزان قسط، والذين لا يدركون أثر هذه القاعدة يشتطُّون في فَهْمِهم ذات اليمين وذات الشمال، وتمثل قاعدة الوسطية سِرَّ اطِّراد منهج السلف الصالح في أصول الدين وفروعه، فموقفهم من السمع والعقل، ومن الدنيا والآخرة، ومن الروح والجسد، وغيرها من الثنائيات تجد التكامل في النظر، بناءً على تكامل النصوص الشرعية وعلاقة بعضها ببعض، وأن الوحي المتمثل في الكتاب وصحيح السنة لا يمكن أن يتناقض أو يتعارض ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82].


فهذه المسألة يجب ألا نخلط فيها بين العصبية المقيتة، وبين نعمة شرف النسب بشرط اقترانها بالإيمان، وأهل العلم من أرباب التحقيق نبَّهوا إلى هذا الجانب؛ يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين، ويعلم أن النداء بروابط القوميَّات لا يجوز على كل حال، ولا سيَّما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد، أو أنه جمود وتأخُّر عن مسايرة ركب الحضارة، نعوذ بالله من طمس البصيرة، وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمتُّ إلى الإسلام بصِلَة"؛ انظر: أضواء البيان (3/ 46).


يقول الله تعالى: ﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود: 91]، بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيَّه شعيبًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعَه الله من الكُفَّار، وأعَزَّ جانبه بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كُفَّار.


وهو دليل على أن المُتمسِّك بدينه قد يعينه الله ويُعِزُّه بنصرة قريبه الكافر، كما بيَّنه تعالى في مواضع أُخَر؛ كقوله في صالح وقومه: ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [النمل: 49].


ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءًا، ولا شهدوا ذلك ولا حضروه خوفًا من عصبته؛ فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكُفَّار، وقد قال تعالى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى: 6]؛ أي: آواك بأن ضمَّك إلى عمِّك أبي طالب.


وذلك بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية، ولا صلة له بالدين ألبتة، فكونه جل وعلا يمتنُّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسِّك بدينه بنصرة قريبه الكافر.


ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم، ظهر فيه أثر عدم العصبة، بدليل قوله تعالى عنه: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80]، وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين.


ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف وبنو نوفل بن عبد مناف عرف النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصبية نسبية لا صلة لها بالدين؛ فأعطاهم من خُمْس الغنيمة مع بني هاشم، وقال: "إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" ومنع بني عبد شمس وبني نوفل من خُمْس الغنيمة، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي"؛ انظر: أضواء البيان (2/ 198).


يقول صاحب كتاب "المحاضرات في اللغة والأدب":
"ثم قد يفيض شرف الإنسان حتى يستطيل على من قبله من سلفه فتَحْيا رسومهم بعدما كانت دائرة، وتعمر ربوعهم بعدما كانت غامرة، والذروة العليا أيضًا فيمن عاد شرفه على من قبله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.


وقد أشار إليه الشاعر ابن الرومي بقوله:
قالوا أبو الصقر من شيبانَ قلتُ لهم
كلَّا لَعَمْري ولكن منه شيبانُ
تسمو الرجالُ بآباءٍ وآونَة
تسمو الرجالُ بأبناءٍ وتَزْدانُ
وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَى حَسَبٍ
كما علت برسولِ اللهِ عدنانُ


وادعى هذا الوصف الشاعر أبو الطيب فقال:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي افتخرت لا بجدودي




أما شرفه هو في بابه فلا ينكر، وأما شرف قومه به فالشعر أعذبه أكذبه، وإلَّا فالحكم على الشيء فرع تصوُّره، نعم، كان من عادة العرب أنه إذا نبغ شاعر في قوم اعتزوا به، واحتموا عن الشعراء، فلو تحقق لأبي الطيب قوم لكانوا كذلك".


ويقول صاحب كتاب "المحاضرات في اللغة والأدب (1/ 15)":
واعلم أن الناس في هذا الباب ثلاثة:
الأول: رجل كان أصيلًا ثم قام هو أيضًا يشيد بنيانه ويحوط بستانه، كالذي قبله، فهذا أكرم الناس وأولاهم بكل مفخر، وفيه كان قوله صلى الله عليه وسلم: في نبي الله يوسف " الكَرِيم ابْن الكَرِيمِ ابن الكريم ابن الكريم" كما في البخاري ومسلم، والذروة العليا في هذا الصنف هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أصيلًا بحسب النبوءة من عهد إبراهيم وإسماعيل، ثم لم تزل أسلافه في شرف وسؤدد، ومجد مخلد، معروف ذلك لهم عند الناس، وأنهم أهل الحرم، وجيران الله، وسَدَنَةُ بيته، مع إكرام الضيف، وإعمال السيف، وغير ذلك من المفاخر العظام، والمآثر الجسام، وقد اختصَّهم الله بين العرب بالاحترام والتوقير، وجعل لهم رحلة الشتاء والصيف آمنين لا يعرض لهم لصٌّ ولا مغير، فأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف كما أخبر به تعالى في كتابه، وذكر ذلك بعض بني أسد، فقال:
زعمتم أن أخوتكم قريش
لهم إلْف وليس لكم إلافُ
أولئك آمنوا جوعًا وخوفًا
وقد جاعت بنو أسد وخافوا



أي: أخطأتم في هذا الزعم؛ لأنكم لستم مثلهم.


ثم لما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم رد بدر شرفهم فجرًا، وجدول كرمتهم بحرًا، بل جعلهم قرار كل مجد، ومركز كل حمد، وقد أكمل به الله تعالى الدين، فكذلك أكمل به سائر المحامد والمحاسن، قال صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاقِ " وهو صلى الله عليه وسلم لبنة التمام، فشرفت به قريش خصوصًا والمِلَّة كلها عمومًا صلى الله عليه وسلم، ومجد وعظم، وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا كله بقوله: "إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ ولدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى مِنْ ولدِ إسْمَاعِيلَ بَني كِنَانَةَ، واصْطَفَى مِنْ بَنِي كنَانَةَ قُرَيْشًا، واصْطَفَى منْ قُرَيْشٍ بَني هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي منْ بَني هَاشِمٍ".


والثاني: رجل لا أصل له ينتمي إليه، ولا حسب يُعَرِّجُ عليه، ولكن انتهض في اقتناء المآثر، واقتناص المفاخر، حتى اشتهر بمحاسن الخلال، وصار في عداد أهل الكمال.


والثالث: رجل له أصل وقديم شرفٍ ثم لم يبنه ولم يجدده، وهو إما أن تخفى عوامله فلم يبن ولم يهدم، مع أنه بالحقيقة من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والمراد أن يرجع إلى غمار الناس فلا يحدد المآثر، ولا يخرج إلى المعايب، فهذا لا فضيلة له إلَّا مجرد النسب والفخر العظاميّ، وإما أن يهدمه بملابسة ضد ما كان أولًا، فهذا بمنزلة من هدم الدار ثم حفر البقعة أيضًا فأفسدها، فهذا مذموم بما جنى على نفسه وبما جنى على حسبه ونسبه. والذروة العليا في هذا الصنف اليهود والنصارى ونحوهم، فقد هدموا أنسابهم وأحسابهم بشر الخصال، وهو الكفر، نسأل الله العافية.


ومن هذا النمط من يخلف آباءه الصالحين بالفسق وكثرة الرغبة في الدنيا والكبر والدعوى وغير ذلك من القبائح كما هو شأن كثير من أولاد الصالحين في زماننا، نسأل الله العافية، وفي هذا الصنف قيل:
لئن فخرت بآباء لهم شرف
لقد فخرت ولكن بئس ما ولدوا




وشرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، فربما يكون الأصل رفيعًا، والفرع وضيعًا، كما قال الشاعر:
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهلة




وقفات مع الموضوع:
الوقفة الأولى:
العناية بالأنساب من وظائف أهل العلم والفضل:
فمن المعاصرين: والد شيخنا الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي عضو هيئة كبار العلماء، والشيخ د.محمد حفظه الله (قد درست عليه في كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية، وفي درسه في الحرم المدني) يقول الشيخ وهو يتحدث عن علم والده بالأنساب ويلوم نفسه على التقصير فيه: "وكان له باع في علم الأنساب، والحقيقة أنني قصَّرت فيه ولم آخذه عنه، ويعلم الله ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول هذه القبيلة تنتمي إلى كذا، فيتحمَّل أوزار أنساب أمم هو في عافية منه"، فترك الشيخ لعلم الأنساب تورُّعًا منه حفظه الله.


وأيضًا ممن عني بالأنساب وتراجم النسَّابين العلَّامةُ عضو هيئة كبار العلماء الشيخ: بكرُ بنُ عبدالله أبو زيدٍ -رحمه الله - في كتابهِ "طبقات النسَّابينَ" وغيرهُ.


الحديث عن مكارم الآباء والأجداد ليس مذمومًا شرعًا:
ومن أمثلة حديث العلماء عن مكارم آبائهم وأجدادهم ما رواه الإمام أحمد في (مسنده): عن عبدالله بن الزبير، قال: لما كان يوم الخندق كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم الذي فيه نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أطم حسان، فكان عمر يرفعني وأرفعه، فإذا رفعني عرفت أبي حين يمُرُّ إلى بني قريظة، فيقاتلهم.


وقال هشام بن عروة: عن أبيه، قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيماء الزبير.


وعن أبي جعفر الباقر قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزلت الملائكة كذلك.


وفيه يقول عامر بن صالح بن عبدالله بن الزبير:
جَدِّي ابْنُ عَمَّةِ أَحْمَدٍ وَوَزِيْرُهُ
عِنْدَ البَلاءِ وَفَارِسُ الشَّقْرَاءِ





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]