عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 29-08-2023, 09:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,131
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القبائلية وفقه النسب والانتساب



ووصفُ الإنسان وسعيُه هو الشأنُ، والنسبُ زيادة، فإلغاء النسب رأسًا جور، والاقتصار عليه عجز، والصواب ما قال عامر بن الطفيل:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر
وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر من وراثة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب




فقوله: "وإن كنت ابن سيد عامر" تعريض بالنسب وإعلام بمكانته منه، وقوله: "أبى الله أن أسمو بأم ولا أب"؛ أي: فقط دون شيء يكون مني ليوافق ما قبله، فمراده أني لا أكتفي بالنسب وأخلو عن استحصال الحمد وابتناء المجد.


ومثل هذا قول الشاعر:
لسنا وإنْ أحسابُنا كرمت
يومًا على الأحساب نتَّكِل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا



وقال الآخر:
أنا الفارس الحامي حقيقة وائل
كما كان يحمي عن حقائقها أبي




وقال زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي المعروف:
وما يكُ من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل يُنبتُ الخطِّيُّ إلَّا وشيجه
وتغرس إلَّا في منابتها النخل



وقال الملك الراضي من ملوك بني العباس:
لا تعذلي كرمي على الإسراف
ربح المحامد متجر الأشراف
أجري كآبائي الخلائف سابقًا
وأشيد ما قد أسَّسَتْ أسلافي




وهذه دعوة لكل من ينتسب لرجل صالح أو سيد أو كريم أو شجاع أو غير ذلك من مكارم الأخلاق ألا يكون غاية ما يفعله الفخر بمآثر الآباء والأجداد دون أن تكون له همة في طلب معالي الأمور والسعي في تحصيلها.


ومن البر لآبائنا وأجدادنا أن نتحدث عن مكارمهم، وفي نظري من المهم جدًّا أن يكون على جانبين:
الأول: من الناحية العلمية النظرية بذكر ما عرف عنهم من مكارم الأخلاق، بحسب الاستفاضة والشهرة التي يتناقلها الناس، وهذا من لسان الصدق وجميل الأثر الذي يتمناه الصالحون، كما قال إمام الموحِّدين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84].


ويعطاه أولياء الله المتقون؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50]، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يعني الثناء الحسن"؛ انظر: تفسير ابن كثير (ج 5/ ص 237).


وما خلَّده الأولون من مكارم الأخلاق، وتجارب الحياة، جدير بالمنصف أن يوقف عليها الآخرين وهو يتكلم في حياة الأولين، فكيف إذا كانوا من المسلمين؟! فلعدم مبالاة بعض الناس إما لجهلهم أو لخطأ في تصوُّرهم للحق في هذه المسألة ضاعت قصص ومواقف وأحداث جديرة بأن تكتب وتُدوَّن؟!


الثاني: من الناحية العملية الواقعية.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: شرف النسب من ثلاث جهات:
إحداها: الانتهاء إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعادله شيء.


الثانية: الانتماء إلى العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه.


الثالثة: الانتماء إلى أهل الصلاح المشهور والتقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف: 82].


قال المفسر والمؤرخ ابن كثير رحمه الله في كتابه: البداية والنهاية (1/ 299): "قيل: إنه كان الأب السابع، وقيل: العاشر، وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته".


وقال الحافظ العالم ابن رجب الحنبلي في كتابه "جامع العلوم والحكم (21/ 9): "قال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدنَّ في صلاتي مِنْ أجلِك، رجاءَ أنْ أُحْفَظَ فيكَ، ثم تلا هذه الآية ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا".


وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (7/ 354) عند حديث الْمِسْوَر رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ يقول: "إِنَّ بَنِي هِشَامِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي في أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي، وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِي بَضْعَةٌ مِنِّي، يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا".


قال ابن بطال رحمه الله: "وفيه: بقاء عار الآباء في أعقابهم وأنهم يعيرون به، ولا يوازون الأشراف كما عيَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنت أبي جهل وهي مسلمة بعداوة أبيها لله، فحط بذلك منزلتها عن أن تحل محل ابنته، وكذلك السابقة إلى الخير والشرف في الدين تبقى في العقب فضله، ويرعى فيهم أمره، ألا ترى قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا.


الوقفة الثالثة:
حين يتكلَّم المرء عن تاريخ شخص ما فهو بين أمرين: إمَّا أن يتكلم بعلم وعدل، وإما أن يتكلم بجهل وظلم.


والله أمرنا أن نتكلم بعلم ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] وبالعدل ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام: 152].


والله تعالى حذرنا أن نتكلم بجهل، فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].


ومعنى الآية كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم. وقال قتادة رحمه الله: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.


قال إمام المفسرين الطبري رحمه الله (ج 17/ ص 447): "وهذان التأويلان متقاربا المعنى؛ لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادِّعاء سماع ما لم يسمعه، ورؤية ما لم يره".


وحرم علينا أن نتكلم بظلم، فقال جل وعز: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف: 85]، والشاهد من الآية: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وتفسير الآية كما قال الطبري رحمه الله (ج 12/ ص 555): "ولا تظلموا الناس حقوقهم، ولا تنقصوهم إياها".


الوقفة الرابعة:
جرت سنة الله تعالى أنه لا يخزي أهل المكارم الفاضلة، ولا يبتر سبحانه ذكر أرباب الشيم الكاملة؛ ومن هنا فليس بمقدور أحد أن يغالب سنة الله الغالبة، ولايخالف مشيئته النافذة، ومن اعتقد أنه بإمكانه أن يلحق العار بأهل الفخار، أو يخفي بدثار الحسد شعار الأسد، فهو كمن يريد أن يحول بين الناس وبين التأثر بقانون الجاذبية على الأرض، وأنَّى لمثل هذه المحاولات النجاح، فالناس مجبولون على حب الجميل من الخلال والحسن من الفعال.


ومصداق ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه وهو التعبُّد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك "فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 1 - 3]".


فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: "زمِّلوني زمِّلوني"، فزَمَّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجيَّ هم؟"، قال: نعم، لم يأت رجل قطُّ بمثل ما جئت به إلا عُودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي"؛ والحديث أخرجه البخاري ومسلم.


والشاهد من الحديث قول خديجة: "والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".


قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه، ولا يسلط عليه الشيطان....فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه، وأنه لا يضيع أجر المحسنين"؛ انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (ج 1/ ص 300-299).


الوقفة الخامسة:
الله تعالى بعلمه وحكمته قد فطر الناس جميعًا على محبة مكارم الأخلاق، ومحبة أهلها، والثناء بها عليهم، وهذا هو شأن أصحاب الفطر والعقول السليمة، لا أرباب الفطر والفهوم السقيمة، ومن يظن أنه يمكن أن يبغض إلى الناس صاحب المكارم، فلا يروا له فضلًا، ولا يحكوا عنه نبلًا. فقد صادم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو أشبه بمن يطالب الناس أن يبغضوا جمال الطبيعة، فيصموا آذانهم عن خرير مياهها، وأن يغضوا أبصارهم عن بديع مناظرها، فلا يحتفظوا بصورها، ولا يلتقطوا مشاهدها، فالرَّسام الماهر والشاعر الباهر حين يرسم الأول خياله الباصر، ويكتب الآخر وجدانه الناظر، نجد منعهم من المحال؛ لأنهم هكذا فطروا إلا حين تطمس الفطرة، ويغيب العقل، على نحو قول الشاعر العربي:
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن




وتأمل معي هذا الحديث عن عروة ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا قبل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج؛ فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر..."؛ الحديث بطوله في البخاري.


والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.07%)]