عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-08-2023, 04:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,511
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الفهم الصحيح للحياة (قواعد - ونتائج)

رأى في غِرارِ النومِ أضغاثَ أحلامِ[11]



أيها الإخوة الكرام، ومن قواعد الفهم الصحيح لهذه الحياة: أنها حياة مَشُوبة بالأكدار، مَحْفُوفة بالأخطار، بلاياها كثيرة، ومنغِّصاتها كبيرة، لا يسلم الإنسان فيها من مؤلم، ولا يأمَن من مُخوِّف، مهما كان سلطانه أو قوته أو غِناه، أو توافرت وسائل الراحة بين يديه.

فبينا يكون في أحسن أحواله، وأجمل ما يكون من نعيم باله، إذ بالمكاره تُقْبِل بحشودها، فتَعِيث في أرض راحته فسادًا، وتملأ صفاءَ نفسه كَمَدًا وكَدَرًا.

فيا أيها العاقل، لا تظنَّ أن أحدًا يَسْلَم من غَصَصِ الدنيا، وأنها ستمُرُّ عليه بلا عناء؛ فالدنيا "موضوعة على الكَدَر، فالبناء إلى النقض، والجمع إلى التفرُّق، ومن رام بقاءَ ما لا ينبغي، كان كمن رام وجودَ ما لا يوجد، فلا ينبغي أن يُطلَب من الدنيا ما لم تُوضَع عليه"[12].

قال ابن الجوزي رحمه الله: "ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر؟! هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأُخرِج منها، ونوح سأل في ابنه فلم يُعْطَ مراده، والخليل ابتُلي بالنار، ويعقوب بفقد الولد، ويوسُف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا، وأما ما لقِيَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش، فمعلوم، فالدنيا وُضِعت للبلاء، فينبغي للعاقل أن يوطِّن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلُطْفٌ، وما لم يحصل فعلى أصل الخَلْقِ والجِبْلَة للدنيا"[13].

لهذا سلِّم - أيها الإنسان - لهذا القدر المحتوم على الدنيا، فوطِّن نفسك على هذا الطبع لهذه الحياة، و"لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار؛ فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها، وواجب نعتها"[14].
ومن رام في الدنيا حياة سليمة
من الهمِّ والأكدار رام محالا[15]




قال بعض البلغاء: "الدنيا لا تصفو لشاربٍ، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تخلو من محنة، فأعرِض عنها قبل أن تُعْرِض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذَّاتها تفنى، وتَبِعاتها تبقى"[16].


ومُكلِّف الأيام ضد طِباعِها
مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
فالعيش نومٌ والمنِيَّة يقظة
والمرءُ بينهما خيالٌ سارِ
والنفس إن رضِيَت بذلك أو أبَتْ
منقادة بأزِمَّةِ المقدارِ
فاقضُوا مآرِبَكم عجالًا إنما
أعماركم سَفَرٌ من الأسفار[17]


أيها الإخوة الفضلاء، ولما كانت الدنيا بهذا الطبع الدائم، فلْنُصحِّحِ الأفهام عنها بأن لذَّاتها لا تدوم، والتمام في مُتَعِها لا يكون، فأي لذة فيها - مهما كانت - فهي ناقصة، ومكدِّرة، وسريعة الذَّهاب، وتعقُب بعض المكاره.

قال بعضهم:
لذَاذَاتُ دنياك مسمومة
فما تأكل الشَّهْدَ إلا بسُمْ
إذا تمَّ أمرٌ بدا نقصًه
توقع زوالًا إذا قيل تمْ[18]



قال بعض العلماء: "ينبغي للعبد ألَّا ينكر في هذه الدنيا وقوعَ هذه المصائب على اختلاف أنواعها، ومن استخبر العقل والنقل، أخبراه بأن الدنيا مارستان[19] المصائب، وليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فكل ما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها وإن أحسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، ومن خاض الماء الغَمْرَ لم يخلُ من بَلَلٍ، ومن دخل بين الصفين، لم يخْلُ من وَجَلٍ، فالعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي، كيف ينكر اللسع؟! وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضَرِّ النفعَ"[20].

إذا علمت هذا، فإن اللذات الصافية من المنغِّصات، والسالمة من المكدِّرات، والبعيدة عن سوء التَّبِعات - إنما هي لذَّات الآخرة فحسب، فاعمل لها، وجهز نفسك لاستحقاقها، واصبر على ما فاتك من لذات الدنيا، وما نغص عليك منها، فإنه ما فعل ذلك إلا لإصلاح حالك، وسلامة مآلك، فارضَ بما قضى تَنَلْ منازل الرضا؛ "قال بعض العارفين: ارضَ عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيَك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك، فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفةَ عين فتسقط من عينه"[21].

نسأل الله أن يضيء أفهامنا، ويصلح أعمالنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فيا أيها المسلمون، ومن قواعد الفهم الصحيح للحياة الدنيا: أنها تتقلب وتتبدل، ولا تبقى على حال، ولا تستقر على قرار.

فلا أمانَ لعزِّها من الذل، ولا لقوتها من الضعف، ولا لقدرتها من العجز، ولا لغِناها من الفقر، ولا لصحتها من المرض، ولا لأمنِها من الخوف، ولا ليُسْرِها من العسر، ولا لفرحِها من العناء، ولا لسعادتها من الشقاء.

فمن الذي فرِح بمولود ولم يبكِ على مفقود؟
ومن الذي سلِم وما سقِمَ؟
ومن فرِح وما حزِن؟

إن الإنسان "لو فتَّش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلًى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حَبْرَةً إلا ملأتها عَبرةً، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبَّأت له يوم شرور؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة تَرحة، وما مُلِئَ بيتٌ فرحًا إلا ملئ تَرَحًا، وقال ابن سيرين: ما كان ضحِكٌ قط إلا كان من بعده بكاء، وقالت هند بنت النعمان: لقد رأيتُنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تَغِبِ الشمس حتى رأيتنا، ونحن أقل الناس، وأنه حق على الله ألَّا يملأ دارًا حَبْرةً إلا ملأها عَبرةً، وسألها رجل أن تحدِّثه عن أمرها فقالت: أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا"[22].

قال الله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

وهذه الحال من التقلُّب والتداول للدنيا تدعو الإنسان إلى توطين نفسه على مجيء المكارِهِ بعد المحابِّ؛ حتى تهون عليه، ولا يشتد عليه الضر إذا جاءه مفاجئًا.
ثمانية لا بد منها على الفتى
ولا بد أن تجريَ عليه الثمانيهْ
سرورٌ وهمٌّ واجتماع وفُرْقة
ويسر وعسر ثم سُقْم وعافيهْ


ويدعوه هذا التبدل كذلك إلى ألَّا يَبْطَرَ في مسرَّاته، وتوافر قدراته، ولا يتعدى على أحد ظلمًا؛ فالأيام دول، والدهر قلب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]