«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... ﴾
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:282، 283].
رغَّب عز وجل في الآيات السابقة في الإنفاق في سبيله وأكد ذلك، ثم أتبع ذلك بذم الربا وأهله وتحريمه، وشدد في ذلك، ثم أتبع ذلك بذكر ما يستغنى به عن الربا من المعاملات المباحة والمداينة الشرعية، مما به حفظ الأموال وصيانتها، وعدم استغلال الفقراء وأكل أموالهم بالباطل.
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم، وأقصر آية فيه: ﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ [المدثر: 21].
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ الآية.
وصدر الخطاب بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام.
ونادى- عز وجل- المؤمنين بوصف الإيمان تكريمًا وتشريفًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وامتثال ما بعده من الأوامر والنواهي، وأن ذلك من مقتضيات الإيمان.
أي: يا أيها الذين صدقوا بقلوبهم وألسنتهم بما جاء من الحق والشرع، وانقادوا لذلك بجوارحهم فجمعوا بين التصديق والإقرار، وبين القبول والإذعان والانقياد.
﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾ «إذا» ظرفية شرطية غير عاملة. والتداين والمداينة: التفاعل من الدين، و«الدين» ما ثبت في الذمة، من ثمن مبيع أو أجرة، أو صداق، أو قرض، أو عوض خلع، أو سَلَم، أو غير ذلك.
﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي: إلى وقت محدد معلوم بينكم، إلى سنة، أو سنتين، أو إلى سنة كذا، أو شهر كذا، أو يوم كذا، كما قال صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وهم يسلفون السنة والسنتين والثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»[1].
﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾: جواب الشرط «إذا»، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية، أي: فاكتبوا هذا الدين المؤجل إلى أجله، سدًّا للذرائع المؤدية إلى النزاع والاختلاف؛ لأن الوقاية خير من العلاج، ولهذا قال في آخر الآية: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾، فلله ما أحكم هذا التشريع وما أعدله وأعظمه.
والأصل في الأمر الوجوب، وجمهور العلماء على أن الأمر بالكتابة للإرشاد، وليس بواجب؛ لما في ذلك من التيسير على الناس، ورفع المشقة عنهم، إذ ليس كل أحد يقدر على الكتابة، بل ولا على الإشهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»[2].
ويقوي القول بعدم الوجوب؛ قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283].
﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ ﴾ الواو: عاطفة، واللام: للأمر، وهو للوجوب، ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ أي: بينكم أيها المتداينون، أي: بحضور الدائن والمدين، فلا تصح الكتابة بحضور أحد الطرفين دون الآخر.
﴿ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ «كاتب» نكرة، يعم أي كاتب، أي: وليكن الكاتب الذي يكتب بينكم كاتبًا ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾، يكتب ما تم بينكم من عقد الدين؛ تاريخه ومقداره، وعوضه، وأجله ووقت حلوله، وشاهديه، وغير ذلك.
وقوله: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾ أي: بالقسط والحق، والصدق المطابق للواقع، من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تبديل، ولا غير ذلك.
قال ابن كثير[3]: «وقوله: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾؛ أي: بالقسط والحق، ولا يجر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه، من غير زيادة ولا نقصان».
﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ ﴾؛ أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة أن يكتب لغيره، إذا طلب منه ذلك.
﴿ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾ الكاف: للتشبيه، وهي: صفة لمصدر محذوف، و«ما» موصولة، أي: كتابة مثل الذي علمه الله إياه من صفة الكتابة، ومن العلم الشرعي في كتابة الوثائق.
ويجوز كون «الكاف»: للتعليل، أي: ولا يمتنع كاتب أن يكتب للناس وينفعهم بكتابته، كما مَنَّ الله عليه وعلمه، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 198].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الصدقة أن تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق»[4].
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»[5].
﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ الفاء للتفريع، واللام: للأمر، وجملة ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ فيها توكيد، لما قبلها، وحث على المبادرة إلى الكتابة، وفيها توطئة وتمهيد لما بعدها.
﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ الواو في الموضعين: عاطفة، واللام فيهما للأمر.
ومعنى قوله: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾؛ أي: وليمل ﴿ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾، وهو: المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين ونوعه وصفته وأجله وغير ذلك، وفي هذا دليل على أن القول في ذلك هو قول المدين.
و«الإملال» و«الإملاء»: لغتان بمعنى واحد، فأهل الحجاز وبنو أسد يقولون: «أملَّ» وبنو تميم يقولون: «أملى»، يقال: أمللت عليه، ومنه قوله هنا: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾، ويقال: أمليت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5].
ومعنى الإملال والإملاء: أن يلقي على سامعه كلامًا ليكتبه عنه، أو يرويه أو يحفظه.
﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾: الفعل «يتق» مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة «الياء» والكسرة دليل عليها.
والخطاب في هذه الجملة والتي بعدها للمملي؛ أي: وليتخذ وقاية من عذاب الله ربه، بأن لا يملي إلا حقًّا، ولا يقول إلا صدقًا.
وفي قوله: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ ترغيب وترهيب أي: وليتق «الله» المعبود العظيم «ربه» خالقه ومالكه المتصرف فيه، والمنعم عليه بسائر النعم، رغبة ورهبة، وخوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه.
﴿ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: ناهية، ﴿ يَبْخَسْ مِنْهُ ﴾؛ أي: ينقص منه، ﴿ شيئًا ﴾: نكرة تفيد العموم؛ أي: ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئًا أيًّا كان، ومهما قل، لا في كميته، ولا في كيفيته، ولا في نوعه.
﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا ﴾؛ أي: لا يحسن التصرف في ماله، محجورًا عليه أو غير محجور عليه.
﴿ أَوْ ضَعِيفًا ﴾ في بدنه كالصغير والشيخ الكبير والمريض، أو في عقله كالمعتوه والمجنون.
﴿ أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو ﴾ «أن» والفعل «يمل» في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به لـ«يستطيع»، وفاعل «يمل» مستتر، والضمير «هو» للتوكيد.
والمعنى: أو لا يقدر أن يملي هو؛ لخرس في لسانه، أو لجهل، لا يعرف معه وجه الصواب، ونحو ذلك.
﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾؛ الفاء: واقعة في جواب الشرط ﴿ فَإِنْ كَانَ ﴾؛ لأنه جملة طلبية، واللام: للأمر.
﴿ وَلِيُّهُ ﴾ أي: الذي يتولى أمره وشأنه؛ من قريب كأب أو جد أو أخ أو ابن أو غيرهم، أو من وصي أو وكيل، وغير ذلك.
﴿ بِالْعَدْلِ ﴾؛ أي: إملاءً بالعدل والقسط، من غير زيادة في الدين، أو نقص منه.
وقال هنا: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾؛ لأن المملي هنا وهو الولي يُتصور منه الزيادة والنقص، محاباة لهذا أو هذا، بخلاف ما إذا كان المملي هو المدين، فإن المتصور منه النقص فقط؛ ولهذا قال في حقه: ﴿ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾.
﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ﴾ الواو: استئنافية، والاستشهاد طلب الشهود.
﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ الخطاب للمؤمنين، وحقيقة الشهادة: الحضور والمشاهدة وسماع ما تم بين الطرفين.
أي: اطلبوا لزيادة توثيق الدين- مع كتابته- شهيدين من رجالكم الذكور البالغين العدول الأحرار، كما هو الحال في جميع الحقوق المالية، والبدنية والحدود، لابد فيها من شاهدين، ما عدا الزنا فلابد فيه من أربعة شهود، تأكيدًا في الستر، وصيانة للأعراض.
﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ﴾، أي: فإن لم يكن الشاهدان رجلين، أي: ذكرين بالغين.
﴿ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾: جواب الشرط ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا ﴾، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية ﴿ فَرَجُلٌ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فالشهود رجل وامرأتان، أو مبتدأ خبره محذوف، أي: فرجل وامرأتان يشهدون.
ويحتمل أن الجواب قرن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية والتقدير: فليكن رجل وامرأتان، أو فليشهد رجل وامرأتان.
والرجل: هو الذكر البالغ ﴿ وَامْرَأَتَانِ ﴾؛ أي: أنثيان بالغتان.
وفي الآية تخيير بين شهادة الرجلين، وشهادة الرجل والمرأتين، وفيها ترتيب بتقديم شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين إشارة إلى أنه الأولى.
فالأولى أن يكون الشاهدان على البيع رجلين؛ لأن شهادة الرجل الواحد أقوى من شهادة المرأتين، لأن حفظ النساء وضبطهن من حيث العموم دون حفظ الرجال وضبطهم، وهذا لا ينافي أن يكون في النساء من هن أحفظ وأضبط من بعض الرجال.
يضاف إلى ما سبق تعذر حضورهن مجالس القضاء غالبًا، فإن شهد على البيع رجل وامرأتان كفى ذلك.
﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ﴾ «ممن»: جار ومجرور، «من» الأولى: حرف جر، و«من» الثانية: اسم موصول، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لما قبله، أي: كائنون ممن ترضون من الشهداء، والخطاب للمؤمنين، أي: ممن ترضون أيها المؤمنون.
﴿ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ «من»: بيانية، أي: من الذين ترضونهم ﴿ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ وهم الشهداء العدول، كما قال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم ﴾ [الطلاق: 2].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب»[6].
قال ابن كثير[7]: «فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود وهذا مقيّد، حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط، وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد مرضيًّا».
﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ قرأ حمزة بكسر همزة: «إن»، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ أن ﴾.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الذال وتخفيف الكاف: «فتُذْكِرَ»، وقرأ الباقون بفتح الذال وتشديد الكاف: ﴿ فَتُذَكِّرَ ﴾، إلا أن حمزة رفع الراء: ﴿ فَتُذَكِّرَ ﴾.
مأخوذة من التذكير، أي: من الذكر ضد النسيان، أي: إن نسيت إحداهما الشهادة، أو بعضها ذكرتها أو نبهتها الأخرى.
وفي الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ دون أن يقول: «فتذكرها الأخرى» إشارة إلى أن النسيان قد يحصل لكل منهما لشيء من الشهادة، فتذكر كل منهما الأخرى بما نسيت.
وفي قوله: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ بيان الحكمة في جعل شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وهو كون المرأة عرضة للنسيان أكثر بسبب نقصان عقلها، وضعف حفظها وضبطها.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة منهن جزلة[8]: وما لنا يا رسول الله- أكثر أهل النار؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: «أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين»[9].
قال ابن تيمية[10]: «فبيّن أن شطر شهادتهن إنما هو؛ لضعف العقل، لا لضعف الدين. فعلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال، وإنما عقلها ينقص عنه. فما كان من الشهادة لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل. وما يقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هو في أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها، من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والنفاس، والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل».
وفي قوله: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ أيضًا: دلالة على أن الشاهد إذا نسي الشهادة فذكره بها غيره أنه ليس له أن يرجع إلى قول من ذكره ويقلده، حتى يذكر ذلك بنفسه بعد تذكيره.
﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ ﴾؛ أي: ولا يمتنع الشهداء ﴿ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ «ما» زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى، أي: إذا ما دعوا وطلب منهم تحمل الشهادة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾.