وَقَالَ فِي الحَجِّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، إلى قوله تعالى ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73 - 74].
وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].
وَقَدْ ثَبُتَ في الصحيحينِ منْ حَدِيثِ ابنِ مسعودٍ: «أَنَّ حَبْرًا مِنْ اليَهُودِ قَالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحمدُ! إِنَّ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ، والأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، والجِبَالَ والشَّجَر عَلَى إِصْبَعٍ، والَماءَ والثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، وَيَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية».
وفي الصحيحينِ أَيْضًا عن أبي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ويَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، أَيْنَ مِلُوكُ الأَرْضِ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الُمتَكَبِّرُونَ؟».
وكذلك في الصحيحينِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: «يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الُمتَكَبِّرُونَ؟».
وفي لَفْظٍ لمُسلِمٍ قَالَ: «يَأْخُذُ الجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَاوَاتِهِ وأَرْضَهُ بِيَدِيهِ جَمِيعًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُهُما ويَبْسُطُهما، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الَملِكُ، أَنَا الجَبَّارُ، وَأَنَا الَملِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟! وَأَيْنَ الُمتَكَبِّروُنَ؟!» وَيَمِيلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، حَتَى نَظَرَتُ إلى الِمنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هو بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟
وفي السُّنَنِ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولَِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، لا يَمُرُّ بآيَةِ رَحْمَةٍ إلا وَقَفَ فَسَأَلَ، ولا يَمُرُّ بِآيةِ عَذَابٍ إلا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رِكُوعِهِ: «سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ والَملَكُوتِ والكِبْرِيَاءِ والعَظَمَةِ»، ثُمَّ يَسْجُدُ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذلك، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً» رَواه أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، والترمذيُّ في الشَّمَائِلِ[30].
فَقَالَ في هذا الحَدِيثِ: «سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ والُملَكُوت والكِبْرِيَاءِ والعَظَمَةِ» وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ نُوزِعَ الرَّبُّ فيها، كَمَا قَالَ: «أَيْنَ الُملُوكُ؟! أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟! أَيْنَ الُمتَكَبِّرُونَ؟!».
وَقَالَ عز وجل: «العَظَمَةُ إزَارِي، والكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْها عَذَّبْتُهُ»[31].
وَنُفَاةُ الصِّفَاتِ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهم لَا يُمْسِكَ شَيْئًا، وَلَا يَقْبِضُهُ وَلَا يَطْوِيهِ، بَلْ كُلٌّ مُمْتَنِعٌ عَليهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَيْضًا في الحَقِيقَةِ يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ لِوَجْهَينِ:
أَحَدُهما: إِنَّ الإنْزَالَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ، واللهُ تَعَالَى عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي العُلوِّ فَلَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 114]، ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر: 1]، إلى غَيْرِ ذلك.
وقَوْلُهم: إنَّهُ خَلَقَهُ في مَخْلُوقٍ ونَزَلَ مِنْهُ بَاطِلٌ؛ لَأَنَّهُ قَالَ: ﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾، وَلَمْ يَجِئْ هذا في غَيْرِ القُرْآنِ، والحَدِيدُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُطْلَقًا، ولَمْ يَقُلْ مِنْهُ، وهو مُنَزَّلٌ مِنَ الجِبَالِ، والَمطَرُ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، والُمرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّحَابِ، وهو الُمزْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ﴾ [الواقعة: 69].
والثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَكَانَ صِفَةً لَهُ وكَلَامًا له؛ فَإِنَّ الصِّفَةَ إذا قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُها عَلَى ذَلِكَ الَمحلِّ، ولأَنَّ اللهَ لا يَتَّصِفُ بالَمخْلُوقَاتِ، وَلَوِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لاتَّصَفَ بِأَنَّهُ مُصَوِّتٌ إِذَا خَلَقَ الأَصْوَاتَ وَمُتَحَرِّكٌ إِذَا خَلَقَ الحَرَكَاتِ في غَيْرِهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ...».
إِلَى أَنْ قَالَ: «فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الجَهْمِيَّةَ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَأَنَّهُم دَاخِلُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا قُدْرَتَه لَا عَلَى فِعْلٍ، وَلَا عَلَى الكَلاَمِ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا عَلَى نُزُولِهِ، وَعَلَى إِنْزَالِهِ مِنْهُ شَيْئًا، فَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِقُدْرَةِ اللهِ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِيرًا لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا، وَيَلْزَمُهم أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، فَيَلْزَمهُم الدُّخُولُ في قَوْلِهِ: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73، 74].
فَهُمْ يَنْفُونَ حَقِيقَةَ قُدْرَتِهِ فِي الأَزَلِ، وحَقِيقَةُ قَوْلِهم: إِنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، والقُدْرَةُ التي يُثْبِتُونَها لا حَقِيقَةَ لَهَا.
وَهَذَا أَصْلٌّ مهُمٌّ، مَنْ تَصَوَّرَهُ عَرَفَ حَقِيقَةَ الأَقْوَالِ البَاطِلَةِ، وَمَا يَلْزَمُها مِنْ اللَّوَازِمِ، وعَرَفَ الحَقَّ الذِي دَلَّ عليهِ صَحِيحُ الَمنْقُولِ، وصَرِيحُ الَمعْقُولِ، لا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأصُولِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ كُلِّ الأصُولِ، والضَّالُّونَ فيها لَّما ضَيَّعُوا الأُصُولَ حُرِمُوا الوُصُولَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَحَقَّقَتِ الحَقَائِقُ، وَأُعْطِيَ النَّظَرُ والاسْتِدْلَالُ حَقَّهُ مِنَ التَّمَامِ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ هو الحَقُّ، وهو الُموَافِقُ للمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الذي لَمْ يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُسَمَّى مَعْقُولًا وهو مُشْتَبِهٌ مُخْتَلِطٌ.
كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ [الأنعام: 159]، قَالَ: «هُمْ أَهْلُ البِدَعِ والشُّبُهَاتِ، فَهُمْ فِي أُمُورٍ مُبْتَدَعَةٍ في الشَّرْعِ، مُشْتَبِهَةٍ في العَقْلِ».
إِلَى أَنْ قَالَ: «والَمقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى تَنَازُعِ النَّاسِ في مَسْأَلَةَ (القُدْرَةِ)، وفي الحَقِيقَةِ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لا يُثْبِتُ للهِ قُدْرَةً، وَلَا يُثْبِتُهُ قَادِرًا، فَالجَهْمِيَّةُ - وَمَنْ تَبِعَهم - والُمعْتَزِلَةُ والقَدَرِيَّةُ والُمجَبِّرَةُ والنَّافِيَة حَقِيقَةُ قَوْلِهم: إِنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا وَلَيْسَ لَهُ الُملْكُ، فإِنَّ الُملْكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هو القُدْرَةَ أو الَمقْدُورَ أَوْ كِلاهُما.
وعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَابُدَّ مِنَ القُدْرَةِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ له القُدْرَةَ حَقِيقَةً لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُلْكًا! كَمَا لا يُثْبِتُونَ لَهُ حَمْدًا!»[32].
2- فِي وُجُودِ الَمخْلُوقَاتِ، التي لا تُحْصَى بتَعَدُّدِ أَشْكَالِها وبِتَنَوُّعِ أَصْنَافِها، بُرْهَانٌ سَاطِعٌ وَآيةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ بَيَانَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ جَمَّةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ في تَتِمَّةِ كَلَامِهِ السَّابِقِ:
«والَمقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَدْلٌ لَا يَظْلِمُ، وَعَدْلُهُ إِحْسَانُهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ فهو إِحْسَانٌ إلى عِبَادِهِ، ولهذا كَانَ مُسْتَحِقًّا للحَمْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ولِهذَا لَـمَّا ذَكَرَ فِي سُوَرَةِ النَّجْمِ أَنْوَاعًا مِنْ مَقْدُورَاتِهِ[33] ثُمَّ قَالَ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَنْعُمَ؛ مِثْلُ إِهْلَاكِ الأُمَمِ الُمكَذِّبَةِ للرُّسُلِ، فإِنَّ في ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَنَصْرِهِ للرُّسُلِ، وَتَحْقِيقِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ في مُتَابَعَتِهم، والشَّقَاوَةَ في مُخَالَفَتِهم مَا هو مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ.
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ هُوَ مِنْ آلائِهِ مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْها أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيهِ، وَعَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَغَيْرِ ذلك، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الإِيمَانُ والعِلْمُ وذِكْرُ الرَّبِّ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ أَفْضَلُ ما أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ في الدُّنْيَا، وكُلُّ مَخْلُوقٍ يُعِين عليها ويَدُلُّ عليها، هذا مَعَ ما في الَمخْلُوقَاتِ مِنَ المنَافِعِ لِعِبَادِهِ غَيرِ الاسْتِدْلَالِ بها، فإنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ لَّما يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُه مِنَ الآيَةِ، وقَالَ: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾، والآلاءُ: هِي النِّعَمُ، والنِّعَمُ كُلُّها مِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْسِهِ الُمقَدَّسَةِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَنُعُوتِهِ وَمَعَانِي أَسْمَائِهِ، فَهِيَ آلاءُ آيَاتِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ آلَائِهِ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ آياتِهِ فَهُوَ مِنْ آلَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ وَالِهدَايَةَ والدِّلَالَةَ على الرَّبِّ تَعَالَى وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَدِينِهِ، والهُدَى أَفْضَلُ النِّعَمِ.
وأيضًا: فِفِيها نِعَمٌ وَمَنَافِعُ لِعِبَادِهِ غَيْرُ الاسْتِدْلَالِ، كَمَا فِي خَلْقِ الشَّمْسِ والقَمَرِ والسَّحَابِ والمَطَرِ والحَيَوَانِ والنَّبَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّها مِنْ آياتِهِ، وفيها نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ غَيْرُ الاسْتِدْلَالِ، فَهِيَ تُوجِبُ الشُّكْرَ لما فيها مِنَ النِّعَمِ، وَتَوجِبُ التَّذَكُّرَ لِمَا فيها مِنَ الدَّلَائِلِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62].
وَقَالَ: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8]، فَإِنَّ العَبْدَ يَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ دَاعِي الشُّكْرِ ودَاعِي العِلْمِ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ دَاعٍ إلى شُكْرِها، وقَدْ جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، واللهُ تَعَالَى هو الُمنْعِمُ الُمحْسِنُ الَّذِي مَا بِالعِبَادِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ.
وَقَدْ ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 63] الآية، فَهَذِهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ، وفي النِّعَمِ قَالَ: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82]، أَيْ: شُكْرُكم وشُكْرُ ما رَزَقَكم اللهُ ونَصِيبُكم تَجْعَلُونَهُ تَكْذِيبًا، وَهُو الاسْتِسْقَاءُ بالأَنْوَاءِ»[34].
3- اخْتَلَفَ النَّاسُ في تَفْسِيرِ ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20]، مَعَ تَصْدِيقِهِم بِخَبَرِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الُممْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّينِ! قَالَهُ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ ابنُ حَزْمٍ.
وَطَائِفَةٌ تَقُولُ: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ يُخَصُّ مِنْهُ الُممْتَنِعُ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الَمقْدُورِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ!
وَقَدْ حَكَى القَوْلَينِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله وَخَطَّأَهما، ثُمَّ قَالَ: «والصَّوَابُ وَهُوَ القَوْلُ الثَّالِثُ الذي عليه عَامَّةُ النُّظَّارِ، وهو: أَنَّ «الُممْتَنِعَ لِذَاتِهِ» لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ في الَمعْدُومِ؛ فإنَّ الُممْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحْقُّقُهُ في الخَارِجِ، ولا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا في الخَارِجِ، ولَكِنْ يُقَدَّرُ اجْتِمَاعُهما في الذِّهْنِ، ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الخَارِجِ؛ إِذْ كَانَ يَمْتَنِعُ تَحْقُّقُهُ فِي الأَعْيَانِ، وتَصَوُّرُهُ في الأَذْهَانِ، إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ الحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الشَّيْءِ، فَهَلْ يُمْكِنُ فِي الخَارِجِ أَنْ يَجْتَمِعَ السَّوَادُ والبَيَاضُ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، كَمَا تَجْتَمِعَ الحَرَكَةُ والسُّكُونُ، فَيُقَالُ: هَذَا غَيْرُ مُـمْكِنٍ، فَيُقَدَّرُ اجْتِمَاعُ نَظِيرِ الُممْكِنِ ثُمَّ يُحْكَمُ بامْتِنَاعِهِ، وَأَمَّا نَفْسُ اجْتِمَاعِ البَيَاضِ والسَّوَادِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ ولا يُعْقَلُ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لا في الأَعْيَانِ ولا في الأَذْهَانِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1]».
ثُمَّ قَالَ: «الَمسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ المَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الخَارِجِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَقَدْ يُطْلِقُونَ إِنَّ الشَّيْءَ هو الَموْجُودُ، فَيُقَالُ عَلَى هَذَا: فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا إِلَّا عَلَى مَوْجُودٍ، ومَا لَمْ يَخْلُقْهُ لا يَكُونُ قَادِرًا عليه، وهذا قُوْلُ بَعْضِ أَهْلِ البِدَعِ، قَالُوا: لا يَكُونُ قَادِرًا إلا على مَا أَرَادَهُ دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ، ويُحْكَى هذا عنْ تِلْمِيذِ النظَامِ».
إِلَى أَنْ قَالَ: «والتَحْقِيقُ أَنَّ الشَيْءَ اسْمٌ لِـمَا يُوجَدُ فِي الأَعْيَانِ ولِمَا يُتَصَوَّرُ في الأَذْهَانِ، فَمَا قَدَّرَهُ اللهُ وعَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هو شَيْءٌ في التَّقْدِيرِ والعِلْمِ والكِتَابِ وإنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا في الخَارِجِ، ومِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، ولَفْظُ الشَّيْءِ في الآيةِ يَتَنَاوَلُ هذا وهذا، فهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ - مَا وُجِدَ وكُلُّ ما تَصَوَّرَهُ الذِّهْنُ مَوْجُودًا، إِنْ تَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا - قَدِيرٌ، لا يُسْتَثْنَى من ذلك شَيْءٌ، ولا يُزَادُ عليه شَيْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4].
وَقَالَ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ [الأنعام: 65].
وَقَدْ ثَبُتَ في الصحيحين أَنَّهَا لمَّا نَزَلَتْ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أعُوذ بوجْهكَ» فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: 65] الآية قَالَ: «هَاتَانِ أَهْونُ».
فهو قَادِرٌ عَلَى الأُولَيَينِ وإنْ لَمْ يَفْعَلْهما، وقَالَ: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18].
قَالَ الُمفْسِّرُونَ: لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَذْهَبَ بِهِ حتى تَمُوتُوا عَطَشًا، وَتَهْلِكَ مَوَاشِيكُم، وتَخْرُبَ أَرَاضِيكُمْ، ومَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 68 - 82]، وَهَذَا يَدَلُّ على أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا لا يَفْعَلُهُ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ جَعَلَ الَماءَ أُجَاجًا وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَمِثْلُ هذا: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: 13].
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: 99].
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة: 253]، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ أَشْيَاءَ وهو لَمْ يَفْعَلْها، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عليها لَكَانَ إذا شَاءَها لَمْ يُمْكِنْهُ فِعْلُها.
الَمسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَيَدْخُلُ في ذلك أَفْعَالُ العِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ العِبَادِ، وَأَكْثَرُ الُمعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَ العَبْدِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ.
الَمسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ في ذلك أَفْعَالُ نَفْسِهِ، وَقَدْ نَطَقَتِ النُّصُوصُ بهذا، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: 81]، ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4]، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
والقُدْرَةُ على الأَعْيَانِ جَاءَتْ في مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [ق: 16].
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ [البلد: 5]، وَجَاءَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ.
أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ [الزخرف: 41]، فَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْدِرُ عليهم أَنْفُسِهم، وهذا نَصٌّ فِي قُدْرَتِهِ على الأَعْيَانِ الَمفْعُولَةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: 45].
و﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ بِمْفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الجَبَّارُ عَلَيْهِمُ الُمسَيْطِرُ، وذلك يَسْتَلْزِمُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87] - عَلَى قَوْلِ الحَسَنِ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ جَعَلَهُ مِنَ القُدْرَةِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ المُوصِي لِأَهْلِهِ: «لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَلَمَّا حَرَّقُوه أَعَادَهُ اللهُ تَعَالَى وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبُّ! فَغَفَرَ لَهُ»[35]، وهو كَانَ مخطئًا فِي قَوْلِهِ: «لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي» كَمَا يَدُلُّ عَلَىْهِ الحَدِيثُ، وَأَنَّ اللهَ قَدِرَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لِخَشْيَتِهِ وَإِيمَانِهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ هذا الجَهْلَ والخَطَأَ الذي وَقَعَ مِنْهُ.
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: 20 - 23] عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ القُدْرَةِ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ القُدْرَةَ عَلَى الَمخْلُوقِينَ وإنْ كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أيضًا على خَلْقِهِ، فالقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِهِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، والقُدْرَةُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهِ، وَجَاءَ أَيْضًا الحَدِيثُ مَنْصُوصًا فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأبي مَسْعُودٍ لمَّا رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدَهُ: «للهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا»[36]، فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى عَيْنِ العَبْدِ، وَأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ قُدْرَةِ العَبْدِ».
ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي قُدْرَةِ الرَّبِ والعَبْدِ فَقَالَ:
«وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قُدْرَةِ الرَّبِّ وَالعَبْدِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كِلا النَّوْعَينِ يَتَنَاوَلُ الفِعْلَ القَائِمَ بالفَاعِلِ وَيَتَنَاوَلُ مَقْدُورَهُ، وهذا أَصَحُّ الأَقْوَالِ، وبه نَطَقَ الكِتَابُ والسُّنَّةُ، وهو: أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ القُدْرَتَينِ يَتَنَاوَلُ الفِعْلَ القَائِمَ بالقَادِرِ ومَقْدُورِهِ الُمبَايِنِ لَهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا دَلَّ على ذلك في قُدْرَةِ الرَّبِّ.
وَأَمَّا قُدْرَةُ العَبْدِ: فَذِكْرُ قُدْرَتِهِ عَلَى الأَفْعَالِ القَائِمَةِ به كَثِيرَةٌ، وهذا مُتَّفَقٌ عَليه بَيْنَ النَّاسِ الذي يُثْبِتُونَ للعَبْدِ قُدْرَةً، مِثْل قَوْلِهِ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 42] الآية.
وَقَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطَعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك»[37].
وَأَمَّا الُمبَايِنُ لَمحِلِّ القُدْرَةِ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدِيرًا﴾ [الفتح: 20، 21]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَرُوا على الأَوَّلِ، وهَذِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْها وَقَتًا آخَرَ، وَهَذِهِ قُدْرَةٌ عَلَى الأَعْيَانِ، وقَوْلِهِ: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ [القلم: 25 - 32].
وَأَيْضًا فَالقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الَمفْعُولَاتِ الخَارِجَةَ مَصْنُوعَةٌ لهم، ومَا كَانَ مَصْنُوعًا لهم فَهُوَ مَقْدُورٌ بِالضَّرُورَةِ والاتِّفَاقِ، والُمنَازِعُ يَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ خَارِجًا عَنْ مَحِلِّ قُدْرَتِهم مَصْنُوعًا لهم، وهذا خِلَافُ القُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: 37]، وقال: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ [هود: 38]، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الفُلْكَ مَخْلُوقَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مَصْنُوعَةٌ لبني آدَمَ، وَجَعَلَها مِنْ آيَاتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: 41]، ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ [الحج: 65][38]، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ [الزخرف: 12]، وَقَالَ: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 95، 96].
فَجَعَلَ الأَصْنَامَ مَنْحُوتَةً مَعْمُولَةً لهم، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُهُمُ، وَخَالِقُ مَعْمُولَهم؛ فَإِنَّ (مَا) هَهُنَا بِمَعْنَى: الذي، والُمرَادُ خَلَقَ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الأَصْنَامِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا للمَعْمُولِ وفيه أَثَرُ الفِعْلِ دَلَّ على أَنَّه خَالِقٌ لِأَفْعَالِ العِبَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ فَضَعِيفٌ جِدًّا.
وَقِيلَ: بَلِ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى الَمخْلُوقِ الُمنْفَصِلِ، لا يَقُومُ به فِعْلٌ يَقْدِرُ عليه، والعَبْدُ لا يَقْدِرُ إلا على ما يَقُومُ بذاتِهِ، لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وهذا قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ ومَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الأَئِمَّةِ: كالقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وابنِ عقيلٍ الزاغَونِي، وغَيْرهم.
وَقِيلَ: إِنَّ العَبْدَ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَالرَّبُّ لا يَقْدِرُ إلا على الُمنْفَصِلِ وهو قَوْلُ الُمعْتَزِلَةِ، وقِيلَ: إِنَّ كِلَيْهِمَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ دُونَ الُمنْفَصِلِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَ: كِلَاهما يَقْدِرُ على الُمنْفَصِلِ دُونَ الُمتَّصِلِ[39].
[1] انظر: النهاية في غريب الحديث (4/ 22)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 657)، واشتقاق أسماء الله للزجاج (ص: 137)، ولسان العرب (5/ 74).
[2] أخرجه مسلم (2653).
[3] الترمذي (2156).
[4] لسان العرب (5/ 74)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 657)، والفائق (3/ 8).
[5] النهاية في غريب الحديث (4/ 22).
[6] اشتقاق أسماء الله (ص: 48).
[7] انظر تفصيل هذه المراتب في: شفاء العليل (ص: 29)، وما بعدها.
[8] شفاء العليل (28).
[9] النونية (1/ 257).
[10] النهج الأسمى (2/ 110 - 131).
[11] اشتقاق أسماء الله للزجاجي (ص: 48).
[12] النهاية (4/ 22).
[13] تفسير الأسماء (ص: 59).
[14] شأن الدعاء (ص: 86).
[15] المنهاج (1/ 191) وذكره ضمْن الأسماء التي تتبع إثباتَ الابتداعِ والاختراع له، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 21).
[16] الاعتقاد (ص: 63).
[17] جامع البيان (1/ 124).
[18] المصدر السابق (1/ 383).
[19] المنهاج (1/ 198) وذكره في الأسماء التي تتبع نفيَ التشبيه عن الله تعالى جدُّه، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 41).
[20] النونية (2/ 218).
[21] تيسير الكريم (5/ 301).
[22] جامع البيان (27/ 67).
[23] تفسير الأسماء (ص: 59).
[24] إلى هنا قاله البيهقي في الاعتقاد (ص: 63).
[25] شأن الدعاء (ص: 86).
[26] المنهاج (1/ 194)، وذكره في الأسماء التي تتبع إثباتَ الابتداعِ والاختراع، ونقله البيهقي (ص: 28).
[27] حكى هذا الاتفاقَ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في مجموع الفتاوى (8/ 7) وسيأتي ذكر اختلافهم في تفسير (الشيء).
[28] انظره في: خلْق أفعال العباد للبخاري مع اختلاف يَسير (ص: 117) بتحقيق الشيخ بدر البدر.
[29] أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 177) عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس به. ولم يذكر رواية الوالبي، وهو علي بن ربيعة: ثقة، وعزَاه السيوطي في الدر (3/ 313) إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
[30] وسنده عندهم حسَن.
[31] أخرجه أبو داود (4/ 490) وابن ماجه (2/ 4174) وغيرهما عن أبي هريرة، وسندُه صحيح، وأخرجه مسلم (4/ 2023) بنحوه عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة.
[32] مجموع الفتاوى (8/ 18 - 30) مختصرًا.
[33] وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾ [النجم: 42 - 55]، وفيها مِن ذكْر قُدْرته وفعْلِه وتصرُّفه في الخلْق والإيجاد، والبعْث والمعاد، وإهلاك الأمم والإيعاد، لذكْرَى لِمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بأنه الله الواحد القادر على كل شيء.
[34] مجموع الفتاوى (8/ 31 - 32).
[35] أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء (6/ 494) وفي الرقاق، باب الخوف مِن الله (11/ 312، 313)، والنسائي في الجنائز (4/ 113) عن ربعي بن خراش، عن حذيفة به، وفي التوحيد (132/ 466)، والنسائي (4/ 113) عن أبي هريرة به، ورواه البخاري (6/ 514)، (13/ 466، 467) عن أبي سعيد الخدري به.
[36] رواه مسلم في كتاب الإيمان (3/ 1280، 1281)، وأحمد (4/ 120).
[37] أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (2/ 587) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
[38] في مطبوعة الفتاوى: ﴿ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ... ﴾ وهو خطأ، فالآية أولها: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحج: 65].
[39] مجموع الفتاوى (8/ 7 - 18).