وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «التهلكة عذاب الله»[23].
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»[24].
وهذا هو الهلاك الحقيقي؛ لما في ذلك من التعرض لعذاب الله- عز وجل- ودخول النار، والحرمان من ثوابه وجنته، وذلك حسب كبر الذنب وصغره، وكون صاحبه يخلد في النار أو لا يخلد.
كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
وهذا الهلاك هو الذي عناه الصحابي الجليل سلمة بن صخر رضي الله عنه لما وقع على امرأته في نهار رمضان، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا مرعوبًا يقول: «يا رسول الله، هلكت وأهلكت». قال صلى الله عليه وسلم: «وما أهلكك؟» قال: «يا رسول الله، وقعت على امرأتي، وأنا صائم»[25].
ولا يمتنع أن يشمل النهي في الآية أيضًا: المعنى الأول وهو التسبب لإهلاك النفس بالموت، بقتل الإنسان نفسه، بأي سبب من الأسباب؛ لأن النفس وديعة عند الإنسان، يجب عليه المحافظة عليها، وحملها على ما فيه سلامتها في دينها ودنياها، والنَّأيُ بها عن مواقع الزلل والخطر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سُمًّا، فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»[26].
ومن أسباب قتل النفس المحقق: استعمال المخدرات والدخان، كما ثبت ذلك من خلال الطب والإحصائيات المتزايدة للوفيات بسبب ذلك.
ولا يدخل في قتل النفس المبارزة في جهاد الكفار، ولا ما فيه إظهار شجاعة المسلمين وقوتهم، كأن ينغمر المجاهد في صفوف الكفار، ويحمل عليهم؛ ليريهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وليرهبهم ويرعبهم، كما حصل هذا من أحد الصحابة المهاجرين في القسطنطينية- كما جاء في سبب النزول.
وعن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: «إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]، إنما هذا في النفقة».
وفي رواية: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتوب». وفي رواية عنه: «التهلكة: أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر الله لي»[27].
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾: «ليس في القتال، ولكن حبسك النفقة في سبيل الله؛ لأنه عرضة تهلكة»[28].
وإذا كان دخول المجاهد بين صفوف الكفار، وحمله عليهم جائزًا؛ لإظهار قوة المسلمين وشجاعتهم وإرهاب الكفار وإرعابهم، فليس من الجائز أن يفجر الإنسان نفسه ليقتل غيره، وربما من غير المقاتلين ومن النساء والصبيان، كما هو واقع من يفعلون هذا، فهذا من الانتحار وقتل النفس بغير حق.
وفرقٌ بين من يدخل في صفوف الكفار، فيَقْتُلُ من استطاع منهم- مع احتمال أن ينجو بنفسه، وبين من يقتل نفسه لعل أحدًا منهم أن يموت معه، فهذا ليس من الجهاد في شيء، بل من قتل النفس والانتحار، وقد قال الله- عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29].
وهذا تشويه لمفهوم الجهاد في الإسلام، بل تشويه للإسلام وأحكامه، وخروج عما كلف الله به، وعلى تحريم هذا عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، وليس مع من يرى جواز ذلك دليل ولا تعليل صحيح؛ ولهذا لا يجوز أن يُفتى الناس بذلك ويُغرر بهم.
قوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾ من عطف العام على الخاص؛ لأن الأمر بالإحسان أعم من الأمر بالإنفاق؛ لأن الإحسان يشمل الإنفاق وغيره، كما يشمل الإحسان بفعل الواجب والمستحب.
وقد يحمل الأمر بالإنفاق على الواجب، ويحمل الأمر بالإحسان على المستحب، والأول أعم وأولى.
أي: وأحسنوا في عبادة الله- عز وجل- إخلاصًا لله- عز وجل- ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال- عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وقال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]؛ أي: أخلص العمل لله- عز وجل- وهو محسن باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[29].
فالذي عبَد الله كأنه يراه قد غلّب جانب الرجاء والرغبة فيما عند الله.
والذي عبَد الله لأن الله يراه، قد غلّب جانب الخوف من الله.
والمرتبة الأولى أكمل من المرتبة الثانية.
وأَحْسِنوا أيضًا: إلى خلق الله بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وبذل المعروف، وكف الأذى، ومعاملتكم للناس بما تحبون أن تعاملوا به.
ولا يطلب من العبد غير هذين الأمرين: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. ولهذا قال- عز وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تعليل للأمر بالإحسان، أي: إن ﷲ يحب المحسنين بنوعي الإحسان: الإحسان في عبادته - عز وجل - والإحسان إلى عباده.
وفي هذا إثبات صفة المحبة لله - عز وجل - والحض على الإحسان بنوعيه، والترغيب فيه، ويفهم من هذا أنه- عز وجل- لا يحب الذين لا يحسنون بل يبغضهم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7458)، ومسلم في الإمارة (1904)، وأبو داود في الجهاد (2517)، والنسائي في الجهاد (3136)، والترمذي في فضائل الجهاد (1646)، وابن ماجه في الجهاد (2783)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2613)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858).
[3] أخرجه أحمد (1/ 300).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3014)، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841).
[5] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 291)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 325).
[6] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847)، وابن ماجه في الفتن (3979)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج (1353)، وأبو داود في المناسك (2017)، والنسائي في مناسك الحج (2892)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (121).
[9] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ (4515).
[10] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ (4515).
[11] أخرجه البخاري في الإيمان (25)، ومسلم في الإيمان (22).
[12] سبق تخريجه.
[13] انظر: «جامع البيان» (3/ 304- 309).
[14] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3197)، وفي التفسير (4662)، ومسلم في القسامة (1679)، وأبو داود في المناسك (1947)، وابن ماجه في المقدمة (233)، وأحمد (5/ 37).
[15] أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (388)، وأحمد (2/ 334)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (1/ 535- الأثر 93) وإسناده صحيح.
[16] أخرجه أبو داود في الجهاد (2512)، والترمذي في تفسير سورة البقرة (2972)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 322- 323)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 330)، والحاكم (2/ 84، 275)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
[17] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2843)، ومسلم في الإمارة (1895)، وأبو داود في الجهاد (2509)، والنسائي في الجهاد (3180)، والترمذي في فضائل الجهاد (1628)، وابن ماجه في الجهاد (2759)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
[18] أخرجه أحمد (5/ 63)، والترمذي في المناقب (3701)، من حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن غريب».
[19] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[20] البيت مجهول النسبة. انظر: «الدر الفريد» (2/ 367).
[21] البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» (4/ 94).
[22] سيأتي تخريجه بتمامه.
[23] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 325).
[24] أخرجه أبو داود في البيوع (3462)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[25] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111)، وأبو داود في الصوم (2390)، والترمذي في الصوم (724)، وابن ماجه في الصيام (1671)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109)، وأبو داود في الطب (3872)، والنسائي في الجنائز (1965)، والترمذي في الطب (2043)، وابن ماجه في الطب (3460).
[27] أخرج هذا الأثر برواياته الطبري في «جامع البيان» (3/ 319- 320)، وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 332).
[28] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 318).
[29] أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.