عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 26-02-2024, 10:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (6)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي

وقفات مع قلب السورة:
كنا قد أسلفنا أن جوَّ السورة جوُّ هداية وتربية وتوجيه، وهذا هو المحور الأساسي الذي تدور حوله السورة انطلاقًا من آيات التوحيد التي تؤسس لعقيدة التوحيد، وانتهاء بالأحكام والتشريعات التي تؤسس للمجتمع الإسلامي.


وتأتي حلقة بني إسرائيل لتشغل حيزًا كبيرًا من السورة، فتكون بمثابة الإضاءة العملية للتوجيهات التربوية للمسلمين في تعاملهم مع أوامر ربهم ونواهيه، وأحكامه وقوانينه التي ستأتي السورة على بعض منها في سياق قصصهم، وعلى البعض الآخر بعد الانتهاء من قصصهم.



معالم في سياق السورة:
أولًا: بنو إسرائيل:
وتشغل قصص بني إسرائيل وأخبارهم حيزًا كبيرًا من قلب السورة، يكاد يغطي الجزء الأول برمته، كما لا يغيب ذكرهم عن الجزء الثاني، ويبسط الله عز وجل لنا سيرة هؤلاء القوم دون غيرهم لسيرتهم المتميزة:
فهم قوم عاشوا الاختيار الإلهي ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الدخان: 32].


وعاشوا الملك والنبوَّة، ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20].


وأرسل الله لهم رسولًا ليُنجِّيهم من العذاب الذي كانوا يعيشونه في ظل أطغى طغاة الأرض.


فكانوا قومًا ورثوا مشارق الأرض ومغاربها ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].


فماذا كان منهم، وكيف كان شكرهم لنِعَم الله التي لا تُحصَى عليهم؟!


واجهوا نِعَم الله بالعصيان والتمرُّد والمماحكة، والمجادلة في كل أمر، والاستكبار عن الامتثال والخضوع لأمر الله.


وكان منهج الندِّية في سلوكياتهم مع ربهم.

تعاظم في قلوب القوم الكِبْر حتى وصل بهم إلى الظن بأحقيتهم في تنصيب أنفسهم ندًّا لخالقهم، يجادلونه ويعاندونه ويتمردون على أوامره، ويشترطون عليه في طاعته؛ بل ويتصرَّفون في شرائعه التي أنزلها عليهم فيضعون ويرفعون، ينقضون العهود والمواثيق التي قَطَعَها الله عليهم، يُحلِّلون ويُحرِّمون: الله يقول، وهم يقولون؛ بل ويخدعون الله والعياذ بالله، كما فعل أصحاب السبت منهم إلى أن انتهى بهم الأمر إلى قتل أنبياء الله الذين أرسلهم الله فيهم دون أن يرفَّ لهم جفن، فكانت عاقبتهم:﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112].


يحكي لنا الله عز وجل تفاصيل سلوكياتهم التي أوردتهم الهلاك لتكون لنا عبرةً وعظةً، فلا نقع بها فنكون مثلهم فنستحق عقابهم.


فلنبدأ رحلتنا معهم في سورة البقرة.
بنو إسرائيل في سورة البقرة: دروس وعبر:
لماذا بنو إسرائيل دون غيرهم من الأقوام الغابرة؟
بنو إسرائيل قوم لهم قصة طويلة مع ربهم ورسولهم، فهم أول قوم في البشرية كانت لهم رسالة سماوية كتبت لها الديمومة في نسلهم إلى ما شاء الله، وأرسل الله فيهم من الأنبياء ما لا يحصيه إلا الله، فكانوا هم حملة الرسالة السماوية في الأرض لعدة قرون، تقلبوا معها بين نعيم الإيمان والاصطفاء الإلهي، وجحيم الذلة والمسكنة بسبب عصيانهم وتمرُّدهم وعتوِّهم على ربِّهم.

وبالرغم من كل ما مَرَّ بهؤلاء القوم في مسيرتهم الطويلة من دروس إلهية تجَلَّت في أنواع العذاب والعقاب التي نزلت بهم جزاء عصيانهم وتمرُّدهم على ربهم، إلا أنهم ظلوا على اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، وأن النبي المنتظر المذكور في توراتهم لا بد أن يكون من نسلهم، ومن هنا كانت بذرة العداء بينهم وبين المسلمين.


هذه العداوة التي بدأت مع ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وجذرها الحسد، لن تنتهي حتى يُقتَل الدَّجَّال بباب لُدٍّ، ومعلوم أن جنود الدجال عند خروجه هم من يهود أصبهان كما جاء في حديث مسلم: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِن يَهُودِ أصْبَهانَ، سَبْعُونَ ألْفًا عليهمُ الطَّيالِسَةُ".


أما مقتله في باب لُدٍّ فقد ورد حديثه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: "فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعًا كفَّيه على أجنحة مَلَكَين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريحه أو ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه" أينما يبلغ مدى عينه، نفسه يذهب على مدى عينه، فيطلبه -يعني يطلب الدَّجَّال- فيدركه في باب لُدٍّ فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومًا قد عصمهم الله من الدَّجَّال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم من الجنة".


وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود"؛متفق عليه.


وإلى ذلك الحين، سيبقى هؤلاء القوم والمسلمون في جهاد دائم تُنصب فيه رايتا الخير والشر.


لقد عرَف هؤلاء القوم أنهم لا طاقة لهم بالاقتتال مع المسلمين كما يقول تعالى في سورة الحشر:﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]، فاتبعوا أسلوب إبليس في التلبيس والإضلال، فما تركوا شِعبًا من شِعاب الشرور النفسية والعقلية والعلمية إلا اتَّبعوها؛ لإيقاع المسلمين في العصيان والجحود أكثر مما وقعوا فيه هم أنفسهم، لتكون لهم الخيرية التي زعموها وعاشوا في وهمها قرونًا طويلة "شعب الله المختار".


من هنا، جاء تفنيد قصصهم وفضح سلوكياتهم وانحرافاتهم وتمرُّدهم وضلالاتهم، وأكاذيبهم وخداعهم، وبيان أشكال العقاب الإلهي التي نزلت عليهم منذ سيدنا موسى وحتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون للمسلمين منارة ودروس وعبر وهداية فلا يقعوا في مثل ما وقع فيه القوم، ولا يأمنوا لهم، ولا يأمنوهم، فمن كانت سلوكياته بهذا الشكل مع خالقه، فهل ستكون أفضل مع ندِّه من العباد؟!


ومن الجدير بالذكر أن سيدنا موسى عليه السلام أكثر الأنبياء ذكرًا في القرآن الكريم، حتى قيل: إن أحدًا لم يُذكَر في كتاب الله لا مِن الأنبياء ولا مِن المُرسَلين ولا من الملائكة المقرَّبين، كما ذُكر موسى - عليه السلام - في كتاب الله، فقد ذُكر نحو مائة وثلاثين مرةً، كما أن قصة بني إسرائيل تكرَّرت في القرآن الكريم كما لم تتكرَّر قصة أخرى من قصص الأمم الأولى، وفي ذلك عبرة.


يستهل المولى جلَّ في علاه سياقَ السورة في بني إسرائيل بمخاطبتهم وتوجيههم بما يجب أن يفعلوه وقد خرج النبي المذكور في كتابهم وأصبح بين ظهرانيهم يدعوهم إلى رسالة ربهم:
فيأمرهم أولًا بمجموعة أوامر:
الوفاء بعهد الله في اتِّباع نبي الله إذا خرج فيهم:﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40].


"قال ابن عباس: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ؛ أي: أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتِّباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم".

﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة من عذاب الله إن لم يفعلوا، فقد ذاقوه في سابق عهدهم لما كان منهم من نقض عهد الله وميثاقه.



الإيمان بالرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة: 41]؛ لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.


تحذيرهم من المسارعة إلى الكفر بمحمد ورسالته، وعندهم من العلم ما ليس عند غيرهم ﴿ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ [البقرة: 41].


نهيهم عن المتاجرة بآيات الله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41] ، والتوقف عن هذا الفعل وقد كانوا يفعلونه في سابق العهد والزمان.


نهيهم عن تلبيس الحق بالباطل مع كتمان الحق،وهما جريمتان يمتهنهما كثيرٌ من الناس في سبيل عرض من عروض الحياة الدنيا ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42].

إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43].

نهيهم عن مخالفة القول العمل: فهم يأمرون الناس بالبرِّ، ولا يفعلونه ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44] يقول ابن كثير في تفسير الآية: "أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم؛ أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي"؛ انتهى.


الاستعانةبالصبر والصلاة في كل حال ومقام:﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46].


كانت هذه الأوامر بمثابة مقدمة لما سيبسطه الله عز وجل من أمر هذا القوم.


أولًا: بنو إسرائيل بين النعم الإلهية والعصيان:
"التذكير" بالنعم الإلهية، وكيف قابلها القوم:
1- تفضيلهم على العالمين في زمانهم ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47]، فكانوا أفضل قوم على الأرض.


2- تنجيتهم من آل فرعون والعذاب الذي كانوا يرزحون تحت وطأته ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49].


3- معجزة فرق البحر، وإغراق فرعون، ونجاتهم واقعة لم يكن ليتصورها عقل، ولا حتى نبي الله موسى! ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 50].


4- مواعدة الله لنبيِّهم موسى عليه السلام:
قوبلت مجموعة النعم هذه باتخاذ العجل إلهًا! ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51].


العفو عن القوم بعد اتخاذهم العجل: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 52 - 54].


وقد اختلف العلماء بشأن التوبة من العقاب الذي تقرر عليهم في قتل أنفسهم، هل أنهم قتلوا أنفسهم فعلًا، أم أن الله عفا عنهم فلم يقع منهم القتل؟!


يقول القرطبي: "قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 52]، العفو: عفو الله جل وعز عن خلقه، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، فالعفو محو الذنب؛ أي: محونا ذنوبكم، وتجاوزنا عنكم، مأخوذ من قولك: عفت الريح الأثر؛ أي: أذهبته، وعفا الشيء: كثر، فهو من الأضداد، ومنه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى عَفَوْا [الأعراف: 95]"؛ انتهى.


وتجمع التفاسير على أن العفو كان بعد وقوع العقوبة؛ أي: إن القتل الذي طلبه موسى منهم توبة إلى الله وتكفيرًا عن عبادتهم العجل، قد وقع، وفي وقوعه عدة مقولات:
يقول القرطبي: "وكانت توبة بني إسرائيل القتل، وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده، وقال الزهري: "لما قيل لهم: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] قاموا صفين، وقتل بعضُهم بعضًا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادةً للمقتول وتوبةً للحي على ما تقدم"؛ وقال بعض المُفسِّرين: أرسل الله عليهم ظلامًا ففعلوا ذلك؛ وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفًّا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم، وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبد العجل، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم على القول الأول؛ لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه، وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده، وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع.


فلما استحرَّ فيهم القتل، وبلغ سبعين ألفًا عفا الله عنهم؛ قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، وإنما رفع الله عنهم القتل؛ لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمةً بعد الإسلام هي أفضل من التوبة"؛ انتهى القرطبي.


في حين يرى الأستاذ سليمان بن إبراهيم الحصين- أستاذ التفسير وعلوم القرآن ورئيس قسم الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود، فرع الأحساء- أن القتل لم يقع في القوم، وأن الله عفا عنهم وتاب عليهم، فرفع عنهم عقوبة القتل، مستشهدًا بما ورد في نظم الدرر للبقاعي:
"وخصَّه باسم العفو لَمَّا ذكر ذنوبهم؛ لأنَّ المغفور له لا يذكر ذنبه، فإنَّ العفو رَفَعَ العقوبة دون رفع ذكرها، والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة"، فدَلَّ هذا العفو على أنَّ المراد بالتوبة في قوله تعالى: ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 54]؛ أي: رفع عنكم الحُكْم بقتل أنفسكم..ولعل في حرف (ثُمَّ) من قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة: 52] ما يدل على صحة هذا القول وأنَّ العفو إنما جاء بعد أن أمرهم نبي الله موسى بقتل أنفسهم فتكون التوبة من قوله: ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ راجعة إلى رفع الحُكْم عنهم بقتل أنفسهم وليست راجعة إلى استجابتهم بدليل حرف العطف "الفاء" الذي يفيد التعقيب، فالتوبة كانت برفع الحُكْم مباشرةً بعد أمر نبي الله موسى به.


وكيف يُظَنُّ بهم أنهم امتثلوا لأمر موسى عليه السلام بقتل أنفسهم، وقد أمرهم الله تعالى بذبح بقرة فتردَّدوا وتعنَّتوا ولم يمتثلوا للأمر إلا بعد عناء، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67].


ومما يؤكد أنهم لم يستجيبوا لما أمروا به من قتل أنفسهم أنهم أحرص ما يكون على حياة وليس على الموت شهادة؛ لأنهم قوم عصاة مستكبرون لا يؤمنون إلا بالماديات، قال تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96].


فكيف يبادرون بقتل أنفسهم بهذه السرعة وهم أحرصُ الناس على حياة، أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة، أو حياة مميزة، أية حياة، بهذا التنكير والتحقير.


هذا فضلًا عن عصيانهم الدائم الملازم لهم واللائق بحالهم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63].


وقال تعالى: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء: 46].


فهل يظن بقوم هذا حالهم المسارعة إلى امتثال ما أمرهم به نبي الله موسى عليه السلام من قتل أنفسهم؟! هذا بعيد جدًّا، وهذه القصة من جملة ما كذَّبه أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب"؛ انتهى[1] (المرجع موقع ملتقى أهل التفسير).


والله أعلم.


وإمعانًا في الوقاحة والتطاول على خالقهم طلبوا من نبيِّهم موسى عليه السلام أن يروا الله عيانًا جهارًا ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55]!


فكان العقاب: الصاعقة ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 55]؛ لكن رحمة الله غالبة، فكانت النعمة السادسة، تبعتها مجموعة من النعم:
5- ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 56].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]