عرض مشاركة واحدة
  #39  
قديم 01-03-2024, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,674
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (41)

المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور



أدت الوفرة المالية لدى بعض الناس إلى ظهور سلوكيات غريبة في المجتمع، فقد نمت الصبغة الاستهلاكية لديهم فصاروا يشترون كل شيء، ويقتنون ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون، وأصبحوا يتباهون بالأمور الكمالية، ويتنافسون في إبراز مظاهر الغنى والثراء؛ مما حدا ببعضهم الآخر إلى تقليدهم ومحاكاتهم ولو كان ذلك خارجا عن قدرتهم المالية، وقد يوقعهم ذلك في الديون والأعباء المالية المتراكمة وما يتبعها من مطالبات وسجن ونحوها.
إن الشرع المطهر يدعونا إلى القناعة والعفاف، ويحذرنا من الاستكثار المذموم من الدنيا ومظاهرها البراقة، ويوجهنا إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والاستعداد ليوم المعاد، وتوظيف ما بأيدينا من الدنيا لخدمة الدين وتعمير الآخرة، من غير إهمال لحظوظنا الدنيوية من التمتع المباح والتنعم بما سخر الله عز وجل لنا من النعم وأخرج لنا من الأرزاق دون إفراط ولا تفريط، كما قال عز وجل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}.
فالقناعة والرضا بما رزق الله من أسباب السعادة القلبية والراحة البدنية كما قال صلى الله عليه وسلم: « قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنـّعه الله بما آتاه» أخرجه مسلم.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير «أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن أسباب القناعة أن يعرف المسلم نعمة الله عليه وما فضله به بأن ينظر إلى من هو أقل منه مالا وأدنى درجة كما قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله»متفق عليه.
فحقيقة الغنى فيما يكون في القلب من قناعة ورضا وليس فيما يكون في اليد من أموال ومقتنيات كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»متفق عليه، قال النووي: «العرض: متاع الدنيا، ومعنى الحديث: الغنى المحمود غنى النفس، وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى»اهـ.
قال ابن القيم: «يكمل غنى القلب بغنى آخر هو غنى النفس، وآيته: سلامتها من الحظوظ، وبراءتها من المراءاة»، فالجري وراء المظاهر الجوفاء، والاستكثار من المتاع الزائل لا يزيد الإنسان إلا فقرا في نفسه، وذلا لحاجاته، وتأمل كيف وصف النبي صلى الله عليه وسلم من كان هذا حاله بالعبودية والذل لهذه المطلوبات فقال صلى الله عليه وسلم « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن مُنع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».
- قال أبو حاتم: «من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه.»اهـ.
- فقوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور» من الحكم النبوية الجليلة التي تعالج سلوكا اجتماعيا مريضا، ابتلي صاحبه بالمظهرية الجوفاء، وظن أن الاستكثار من المظاهر البراقة يرفع صاحبها أو يزيد من غناه في أعين الناس، وسبب ورود الحديث ما روته ‏‏أسماء بنت أبي بكر ‏- رضي الله عنهما - ‏قالت: « ‏جاءت امرأة إلى النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل عليّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ وفي رواية عائشة: أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: « ‏المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور».
- قال النووي: «قال العلماء: معناه: المتكثر بما ليس عنده، بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.
- قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع، ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب زور ورياء، وقيل: هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له، وقيل: هو من يلبس قميصاً واحداً ويصل بكميه كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين، وحكى الخطابي قولاً آخر: أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه: أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، وقولاً آخر: أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته. والله أعلم». انتهى.
- وقال ابن حجر في الفتح: “قوله “المتشبع” أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرة فتدعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده تريد بذلك غيظ ضرتها، وكذلك هذا في الرجال».
- وعن سبب تثنية الثوبين: قال ابن حجر: «للإشارة إلى أن كذب المتحلي مثنى؛ لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ وعلى غيره بما لم يعط، وكذلك شاهد الزور يظلم نفسه ويظلم المشهود عليه».
- وقال الداودي: في التثنية إشارة إلى أنه كالذي قال الزور مرتين مبالغة في التحذير من ذلك، وقال ابن التين «هو أن يلبس ثوبي وديعة أو عارية يظن الناس أنهما له ولباسهما لا يدوم ويفتضح بكذبه، وأراد بذلك تنفير المرأة عما ذكرت خوفاً من الفساد بين زوجها وضرتها ويورث بينهما البغضاء فيصير كالسحر الذي يفرق بين المرء وزوجه، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع، حالتان مذمومتان: فقدان ما يتشبع به وإظهار الباطل» اهـ.
وخلاصة الأمر أنه على المسلم أن يرضى بما قسم الله عز وجل له، ولا يظهر نفسه بأعلى مما هو فيه، ولا يحمل نفسه من النفقات والديون ما لا يطيق ليظهر بصورة تخالف واقعه وحقيقة أمره، ولا مانع من الطموح المشروع بأن يصل إلى أعلى المراتب، ويكسب أعلى الدخول، ولكن ليس عن طريق المظاهر المزورة، بل بالسعي الجاد والتحصيل المتقن للعلوم النافعة، والخبرات المفيدة، والعمل الدؤوب، فبذلك يرقى بجد في سلم الكمالات، ويعلو في سماء الرفعة، كما قال عز وجل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 10-05-2024 الساعة 11:51 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.83 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (3.38%)]