عرض مشاركة واحدة
  #53  
قديم 14-04-2024, 10:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,461
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (56)

والصلح خير


لما كان من طبيعة الإنسان عموما الاختلاف والمغالبة والتعدي، فإن قيام المنازعات والخصومات بين الناس أمر حتمي ولابد، وهذا ما يشهد به الواقع؛ فلا يخلو مجتمع بل ولا أسرة أو علاقة بين اثنين من الناس من الخصومة والتنازع التي قد يرفعها دين الشخص أو عقله أو المصلحون، أو قد تستمر إن استحكم فيها الكبر والهوى والبغي والظلم.
ولأن النزاع والصراع شر وفساد، وله ما لا يخفى من النتائج الوخيمة والآثار الأليمة، شرع الله تعالى الصلح لدفع هذا الشقاق ورفع آثاره الضارة بالفرد والمجتمع، فجاءت النصوص الشرعية تحث على الألفة والمحبة، وتنهى عن العداوة والبغضاء؛ لما في الاجتماع والائتلاف من الخير والتمكين، ولما في الشقاق والخلاف من الشر والفساد وتسلط الأعداء.
ولهذا فإن شيخ الإسلام يؤكد أن ائتلاف قلوب المسلمين مقصد من مقاصد الشريعة يقدم على بعض المستحبات، فمصلحة تأليف القلوب أعظم في الدين من بعض المستحبات.
والصلح والإصلاح والمصالحة هي قطع المنازعة، مأخوذة من صلح الشيء، إذا كمل، وهو خلاف الفساد، قال الراغب: والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال: اصطلحوا وتصالحوا، وعلى ذلك وقع الصلح بينهم.
ومجالات الصلح كثيرة ومتعددة تبعا لتعدد مجالات النزاع كما بيّن ذلك ابن حجر بقوله: «الصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأملاك».
والنصوص الشرعية في فضل الصلح والإصلاح كثيرة منها قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
قال ابن حجر: «وهو ظاهر في فضل الإصلاح»، وقال ابن سعدي: «أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه».
ثم ذكر أن الله تعالى استثنى أمورا منها: {أَوْ إِصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ}، والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره؛ فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
وقال الشيخ ابن سعدي أيضا: «الساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله،كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله، ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.
ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أو لا؛ لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل».
وعن عبد الله بن حبيب قال: كنت جالسا مع محمد بن كعب القرظي، فأتاه رجل فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمد بن كعب:أصبت، لك مثل أجر المجاهدين ثم قرأ: {لا خير في كثير من نجواهم..} الآية.
ومن النصوص الشرعية قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}، قال الشيخ ابن سعدي: «ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه؛ لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح».
ويشير رحمه الله إلى أمر مهم وهو أن كل حكم من الأحكام لا يتم إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، ومن ذلك (الصلح)، فنبه سبحانه على أن الصلح خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان - مع ذلك - قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه، وذكر المانع بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا،أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر».
وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)}، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، وقال سبحانه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فكل هذه الآيات الكريمة تدل على فضل الصلح وأهميته.
ومما جاء في فضل الصلح في السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» أخرجه أبو داود
قال في الشرح: «إصلاح ذات البين: أي: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال ألفة ومحبة، وقيل: المراد بذات البين المخاصمة والمهاجرة بين اثنين بحيث يحصل بينهما بين، أي فرقة، والبين من الأضداد: الوصل والفرق، وفساد ذات البين الحالقة، أي: هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموسى الشعر، وفي الحديث حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة» متفق عليه، قال النووي: «يعدل بينهما: يصلح بينهما بالعدل».
وقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم الصلح بنفسه، فعن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» أخرجه البخاري.
وعن أم كلثوم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا» متفق عليه، قال النووي: «ومعناه: ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس، بل هذا محسن».
قال ابن شهاب: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» أخرجه البخاري.
قال النووي: «قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها، فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه الصور للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة واحتجوا بقول إبراهيم عليه السلام: {بل فعله كبيرهم} و{إني سقيم} وقول منادي يوسف: {أيتها العير إنكم لسارقون}.
وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه».
وقال ابن حجر: «واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك ولا يأثم، والله أعلم».


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.94%)]