عرض مشاركة واحدة
  #432  
قديم 11-05-2024, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,734
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3901 الى صـ 3915
الحلقة (432)


وقوله : ألا تتخذوا من دوني وكيلا أي : وليا ومعبودا تكلون إليه أموركم ؛ لأنه تعالى أنزل على كل نبي أرسله ، أن يعبده وحده لا شريك له ، وقد قرئ : { ألا يتخذوا } [ ص: 3901 ] بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل . والتقدير : جعلناه هدى لئلا يتخذوا . وقرئ بالتاء على الخطاب ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن ( أن ) بمعنى أي . وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي .

الثاني : أن ( أن ) زائدة ، أي : قلنا : لا تتخذوا .

الثالث : أن ( لا ) زائدة ، والتقدير : مخافة أن تتخذوا . والوكيل والموكول إليه . أي : المفوض إليه الأمور . وهو الرب . فـ ( فعيل ) بمعنى مفعول . و ( دون ) بمعنى غير . و ( من ) زائدة . أو تبعيضية . وقوله : ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو النداء . وفيه تهييج وتنبيه على المنة . والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة . وإيماء إلى علة النهي . كأنه قيل : لا تشركوا به ، فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد . وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه . وفي التعبير بـ ( الذرية ) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء ، مناسبة تامة لما ذكر . وذكر حملهم في السفينة ؛ للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه . وقوله : عبدا شكورا أي : لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي . وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به . وقيل : إنه استطراد . وقوله تعالى :

[ ص: 3902 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[4-5] وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا .

وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب أي : كتاب اللوح المحفوظ ، أي : حكمنا فيه : لتفسدن في الأرض مرتين يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها . والإفساد بالكفر والمعاصي .

قال السمين : في تعدية ( قضينا ) بـ ( إلى ) تضمينه معنى أنفذنا . أي : أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم . ومتعلق القضاء محذوف . أي : بفسادهم . وقوله : لتفسدن جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء ، أو جواب لقوله : وقضينا لأنه ضمن معنى القسم . ومنه قولهم : ( قضاء الله لأفعلن كذا ) فيجرون القضاء والقدر مجرى القسم ، فيتلقيان بما يتلقى به القسم . و ( مرتين ) أي : إفسادتين . منصوب على أنه مصدر ( لتفسدن ) من غير لفظه . وعدل عنه ؛ لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد ولتعلن علوا كبيرا أي : ولتستكبرن وتتعظمن عن طاعة الله تعالى ، أو لتظلمن الناس

فإذا جاء وعد أولاهما أي : موعود أولى المرتين ، أي : وما وعدوا به في المرة الأولى ، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين : بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد أي : ذوي قوة وبطش في الحرب ، شديد : فجاسوا خلال الديار ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب : وكان وعدا مفعولا أي : مقضيا لا صارف له .

[ ص: 3903 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[6-8] ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .

ثم رددنا لكم الكرة عليهم أي : بعد هذه المؤاخذة الشديدة ، رددنا ، عند توبتكم ، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل ، عليهم : وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا أي : قوما ورهطا . جمع ( نفر ) أو اسم جمع له . وأصله من ينفر مع الرجل من قومه . وقوله تعالى :

إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها بمثابة التعليل لما قبله . أي : فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم ، أحسنتم لأنفسكم ، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير : وإن أسأتم فلها أي : فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير : فإذا جاء وعد الآخرة أي : مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها . وقوله تعالى : ليسوءوا وجوهكم متعلق بجواب ( إذا ) المحذوف . أي : بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، أي : ذواتكم بالإذلال والقهر .

قال الشهاب : عديت المساءة إلى الوجوه ، وإن كانت عليهم ؛ لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه ، كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح ، وكلوحه وسواده بالخوف والحزن . [ ص: 3904 ] فالوجه ، بمعنى الذات مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية . وقيل : الوجوه بمعنى الرؤساء . وهو تكلف . واختير هذا على ( ليسوؤكم ) مع أنه أخصر وأظهر ؛ إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن ، المدلول بقوله : وليتبروا انتهى .

وقوله تعالى : وليدخلوا المسجد أي : الأقصى : كما دخلوه أول مرة وليتبروا أي : يدمروا : ما علوا تتبيرا أي : عظيما فظيعا ، والتتبير : التدمير . وكل شيء كسرته وفتته فقد تبرته . ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله :

عسى ربكم أن يرحمكم أي : إذا أخلصتم الإنابة ، وأحسنتم الأعمال ، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم ؛ لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة ، ولذا قال : وإن عدتم أي : بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار : عدنا أي : إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا .

وجعلنا أي : يوم القيامة : جهنم للكافرين حصيرا أي : محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب .

قال الشهاب : إن كان - ( حصيرا ) - اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه . وإن كان بمعنى حاصرا أي : محيطا بهم ، وفعيل بمعنى فاعل ؛ يلزم مطابقته ، فإما لأنه على النسب ، كلابن وتامر . أو لحمه على ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) . أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي ، أو لتأويلها بمذكر . انتهى .

وقيل : حصيرا ، أي : بساطا كما يبسط الحصير . مثل قوله تعالى : لهم من جهنم مهاد فهو تشبيه بليغ . والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض . كما قاله الراغب .

[ ص: 3905 ] تنبيه :

روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه السلام ، فلما ملك ابنه بعده ، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة ، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان . فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها ( المسجد الأقصى ) ونهب ما فيها . ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته . فانقسمت مملكته إلى قسمين : أحدهما : دعي مملكة يهوذا ، وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين ، بقيا خاضعين لابن سليمان .

وثانيهما : دعي مملكة إسرائيل ، وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة . وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له: يربعام ، خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك . فأقام في مملكته عجلين من ذهب . وأمر رعيته بعبادتهما . ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة . وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين . وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان . إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية . واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة . وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشور ، ففتح السامرة - بلدهم - وسباهم إلى أشور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ، ولم يسمع ذكرهم بعد . ثم أرسل ملك أشور قوما من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها . وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم . فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى . وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة ، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير . فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر ( بختنصر ) فسبى قسما من شعبه ، وكان السبي الأول .

ثم قام ، بعد ذلك الملك الشرير ، ابنه ، فسار على طريقة أبيه . فعاد إليه ملك بابل المذكور [ ص: 3906 ] واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب ، وسلب الهيكل . وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول .

ثم قام فيهم ملك أشر ممن تقدم - وهو آخر ملوكهم - وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس ، وأسره إلى بابل ، وأحرق المدينة والهيكل ، وسبى كل شعب يهوذا ، ما عدا مساكين الأرض ، إلى بابل . وهذا هو السبي الثالث والأخير .

وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة . ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس ، وجددوا عمارتها وقيام الهيكل . وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك الفرس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير ، وغلبت اليونان الفرس وجاء الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان . وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام :

منها مملكة سورية ومصر . وكانت بينهما حروب متصلة . والإسرائيليون ، لما كانوا بينهم ، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية . واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية ، وتمسكوا بديانة اليونانيين .

ثم استولى الرومانيون على فلسطين ، وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود ، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم . وتملكوا بيت المقدس . وهدم تيطس ، أحد ملوكهم ، الهيكل إلى أساسه . وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم ، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده ، وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة ، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم ، إلى أن سارت هيلانة أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر ، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح . وخربت الهيكل ، وأمرت أن تلقى فيه قمامات البلد وزبالته . فصار موضع الصخرة مزبلة . وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس . فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا ، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك ، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة .

[ ص: 3907 ] وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ . ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية . لأنها بإيجازها غنية عنه . وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها ، إلا أن أكثر المفسرين تطرقوا لبعض ماجريات اليهود هنا ، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون ؛ إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة .

وقد قدمنا في سورة يوسف ؛ أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع . ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها . وإنما يذكر موضع العبرة فيها . كما قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
ثم بين تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

[9] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا .

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم أي : للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة ، أو للطريقة .

قال الزمخشري : وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه ، من فخامة تفقد مع إيضاحه .

ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا أي : يبشر المخلصين في إيمانهم ، وهم الذين يعملون الصالحات كلها ، ويجتنبون السيئات ؛ أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا .

[ ص: 3908 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[10-11] وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا .

وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي : بالبعث والجزاء على الأعمال : أعتدنا لهم عذابا أليما أي : في الآخرة ، وهو عذاب النار .

ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير أي : مثل دعائه بالخير : وكان الإنسان عجولا قال أبو السعود : الآية بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي . وإظهار لما بينهما من التباين . والمراد بالإنسان الجنس ، أسند إليه حال بعض أفراده . أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه . فالمعنى ، على الأول : أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير . ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم ، وهو ، أي : بعض منه وهو الكافر ، يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور ، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } ، إلى غير ذلك مما حكى عنهم . وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه ، الموجبة له مجازا ، كما هو ديدن كلهم . وقوله : وكان الإنسان عجولا يعني بالإنسان : من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده . عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله ، متعاميا عن ضرره . أو مبالغا في العجلة ، يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة . ففيه نوع تهكم به . وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم ، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال .

وعلى الثاني : أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير . وهو في بعض أحيانه ، كما عند الغضب ، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر . وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه . أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا . وكان [ ص: 3909 ] الإنسان عجولا غير متبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به ، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه . انتهى .

ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن ، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية ، التي كل منها برهان نير لا ريب فيه . ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا .

وجعلنا الليل والنهار آيتين أي : جعلناهما ، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر ، علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما فمحونا آية الليل أي : بجعلها مظلمة : وجعلنا آية النهار مبصرة أي : مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة . والإضافة فيهما إما بيانية ، أي : الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار . وإما حقيقية . وآية الليل والنهار نيراهما . والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه . أو نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق . وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات ، ذات أشعة تبصر بها الأشياء . فالإسناد في ( مبصرة ) مجازي إلى السبب العادي ، أو تجوز بعلاقة السبب . وقوله تعالى : لتبتغوا فضلا من ربكم متعلق بـ ( جعلنا ) أي : لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار ولتعلموا عدد السنين والحساب أي : الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام ، أو الحساب الجاري في المعاملات ، كالبيوع والإجارات ، وفي العبادات ، أي : لتعرف مضي الآجال المضروبة لذلك ؛ إذ لولاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور .

[ ص: 3910 ] قال السيوطي في (" الإكليل ") : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ . وفي الآية لف ونشر غير مرتب . انتهى .

وقوله تعالى : وكل شيء أي : مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم : فصلناه تفصيلا أي : بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه . كقوله تعالى : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[13-15] وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أي : ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا وشرا ، بحيث لا يفارقه أبدا . بل يلزمه لزوم الطوق في العنق ، لا ينفك عنه بحال .

قال الطبري : المعنى : وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله ، في عنقه لا يفارقه . وإنما قوله : ألزمناه طائره في عنقه مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها .

[ ص: 3911 ] وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر ، اعتبروا أحوال الطير : وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه . وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر ، تسمية للشيء باسم لازمه .

قال الطبري : فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه ، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنان عدن . وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد ، قيل : لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك ، إلى أعناقهم . وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق . كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه . وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه . فكذلك قوله : ألزمناه طائره في عنقه وحاصله : - كما قاله الرازي - أن قوله : في عنقه كناية عن اللزوم . كما يقال : ( جعلت هذا في عنقك ) أي : قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به . ويقال : ( قلدتك كذا وطوقتك كذا ) أي : صرفته إليك وألزمته إياك . ومنه ( قلده السلطان كذا ) أي : صارت الولاية ، في لزومها له ، في موضع القلادة ومكان الطوق . ومنه يقال ( فلان يقلد فلانا ) أي : يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه . وقوله تعالى : ونخرج له أي : نظهر له : يوم القيامة أي : البعث للجزاء على الأعمال : كتابا يلقاه منشورا أي : يجده مفتوحا فيه حسناته وسيئاته . ويقال له :

اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا أي : شهيدا بما عملت .

[ ص: 3912 ] قال القاشاني : كتابا هيكلا مصورا يصور أعماله : يلقاه منشورا لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة ، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة . يقال له : اقرأ كتابك أي : اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة . أو تأمره القوى الملكوتية . سواء كان قارئا أو غير قارئ ؛ لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها ، يعرفها كل أحد . لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمي : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها ، نصب عينها ، مفصلا لا يمكنها الإنكار .

وقوله تعالى : من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه قال أبو السعود : فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ، ولزوم الأعمال لأصحابها . أي : من اهتدى بهدايته ، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام ، وانتهى عما نهاه عنه ، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه ، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي : ومن ضل أي : عن الطريقة التي يهديه إليها : فإنما يضل عليها أي : وبال ضلاله عليها ، لا على من عداه ممن لم يباشره . فقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى مؤكد لما قبله للاهتمام به .

قال أبو السعود : أي : لا تحمل نفسه حاملة للوزر ، وزر نفس أخرى ، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها . ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم . بل إنما تحمل كل منهما وزرها . وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وأما ما يدل عليه قوله تعالى : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير ، وانتفاعه بحسنته ، وتضرره بسيئته ، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه ، وتضرر بسيئته . فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له . وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته ، لا جزاء [ ص: 3913 ] أصل الحسنة والسيئة ، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين . وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال .

وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة . حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق ، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم . انتهى .

وقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا بيان للعناية الربانية ، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها ، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته ، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها . أي : وما صح وما استقام منا ، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة ، أن نعذب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق ، ويردعهم عن الضلال ؛ لإقامة الحجة وقطعا للعذر . والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي ، لقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وقال تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وكذا قوله : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال ، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل . قال قتادة : [ ص: 3914 ] إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة . ولا يعذب أحدا إلا بذنبه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[16] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا .

وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة . وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم . وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيوي لانحصارها فيه . والمعنى : إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال : أمرنا مترفيها يعني متنعميها ، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم : ففسقوا فيها بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته : فحق عليها القول فوجب عليها ، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم ، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج : فدمرناها تدميرا أي : فخربناها تخريبا لا يكتنه كنهه ولا يوصف . وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا هائلا ، كما جرى لبيت المقدس ، لما انحرف اليهود عن شرعتهم ، على ما قدمنا بيانه . وإنما خص المترفين ، وهم الجبارون والملوك والرؤساء بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل ؛ لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم . ولأن توجه الأمر إليهم آكد . وإنما حذف مفعول : أمرنا لظهور أن المراد به الحق والخير . لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه . وفي إيثار ( القرية ) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع ، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم ، وطمس أثرهم ، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدو . ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال : تدميرا أي : كليا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع .

[ ص: 3915 ] قال القاشاني : إن لكل شيء في الدنيا زوالا . وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك . وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال ، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته ؛ فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام . فإذا جاء وقت إهلاك قرية ، فلا بد من استحقاقها للإهلاك . وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله . فلما تعلقت إرادته بإهلاكها ، تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرا وأشرا بنعمة الله ، واستعمالا لها فيما لا ينبغي . وذلك بأمر من الله وقدر منه ، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم . وحينئذ وجب إهلاكهم . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[17] وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا .

وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح أي : وكثيرا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح ، كعاد وثمود وفرعون . ممن قصت أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص . و : { القرون } جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه ، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد . وخص : نوح ولم يقل : ( من بعد آدم ) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب . ففيه تهديد وإنذار للمشركين .

وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا أي : لا يخفى عليه شيء منها ، فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها .

والآية تدل - كما قال الزمخشري - : على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم ، دل على أنه جازاهم بها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.53 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.90 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]