عرض مشاركة واحدة
  #435  
قديم 11-05-2024, 11:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,190
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3946 الى صـ 3960
الحلقة (435)



[ ص: 3946 ] قال المهايمي : أي : فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة لقالوا: إنه أجل من أحاط بأبواب السحر . فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيوي . لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله .

ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من اتباع الشيطان . وأنه وحزبه ، لعتوهم وتمردهم عن الحق ، في النار ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[61-62] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أي : تحية وتكريما : فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا كما قال في الآية الأخرى : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

قال أي : جراءة على الرب وكفرا به : أرأيتك هذا الذي كرمت علي أي : أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأن أمرتني بالسجود له، لم كرمته علي ؟ . أو المعنى: أخبرني أهذا الذي كرمته علي: لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا أي: لأعمنهم وأهلكنهم بالإغواء ، إلا المخلصين .

[ ص: 3947 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[63-65] قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا .

قال اذهب أي : امض لشأنك الذي اخترته : فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا أي : جزاء مكملا .

واستفزز أي : استخف وأزعج : من استطعت منهم أي : أن تستفزه فتخدعه : بصوتك أي : بدعائك إلى الفساد . وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أي : صح عليهم ، من الجلبة ( بفتحات ) وهي الصياح . و ( الخيل ) الخيالة ، أي : ركبان الخيل مجازا . وأصل معنى الخيل الأفراس . ( والرجل ) اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس ، والمراد الأعوان والأتباع مطلقا .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ . قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل ، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه ، بمغوار - بكسر الميم ، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب - أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم . وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم - أي : فالكلام استعارة تمثيلية مركبة ، استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة . ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم ، أو غلبته وتسخيره لهم . وجوز أن يكون التجوز في المفردات تجوزا بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة ، وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث [ ص: 3948 ] والفساد بإغوائه وشاركهم في الأموال أي : بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريما وتحليلا بما لا يرضى : والأولاد أي : بالتفاخر فيهم وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين ووأدهم ، ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه : وعدهم أي : المواعيد الباطلة والأماني الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وهو تزيين الباطل بزينة الحق.

إن عبادي أي : المخلصين : ليس لك عليهم سلطان أي : تسلط بالإغواء : وكفى بربك وكيلا أي : كفيلا لهم يتوكلون عليه ولا يلجؤون في أمورهم إلا إليه . وهو كافيهم .

وقد أشار القاشاني إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف . وعبارته : تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ; لأن الاستعدادات متفاوتة . فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي : استخفه بصوته ، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة . ومن كان قوي الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية ، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية ، فليس له إلى إغوائه سبيل ، كما قال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية ، غارزا رأسه في الأمور الدنيوية ، شاركه في أمواله وأولاده ، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة ، بحبهم كحب الله . ويسول له التمتع بهم ، والتكاثر والتفاخر بوجودهم . ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة . وإن لم ينغمس ، فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته ، أجلب عليه بخيله ورجله . أي : مكر به بأنواع الحيل . وكاده بصنوف الفتن . وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب ، وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم . وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا ، أغواه بالوعد والتمنية . وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون . انتهى .
ثم بين تعالى بعضا من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله:

[ ص: 3949 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[66] ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما .

ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر أي : يسير لكم السفن في البحر : لتبتغوا من فضله أي : من رزقه . والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة : إنه كان بكم رحيما حيث سهل لكم أسباب ذلك .

قال أبو السعود: وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد، وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر ، تكملة لما مر من قوله : فلا يملكون الآية ، وذلك قوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[67] وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا .

وإذا مسكم الضر في البحر أي : خوف الغرق : ضل من تدعون إلا إياه أي : ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه ، إلا إياه وحده . فإنكم لا تذكرون سواه . فطرة فطر الله الخلق عليها .

وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة . وقد استدل لكثير من الأصول بها ، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى . كمسألة وجود الخالق وعلوه ، والمعاد وغيرها . وقوله تعالى : فلما نجاكم أي : من الغرق : إلى البر أعرضتم أي : عن التوحيد : وكان الإنسان كفورا أي : بأنعم الله . والجملة كالتعليل للإعراض . قال الشهاب : وفيه لطف ، حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم . وذكر أن جنس [ ص: 3950 ] الإنسان مجبول على هذا . فلما أعرضوا أعرض الله عنهم . ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[68-69] أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا .

أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أي : يغوره بكم : أو يرسل عليكم حاصبا أي : ريحا ترمي بالحصباء يرجمكم بها ، فيكون أشد عليكم من الغرق : ثم لا تجدوا لكم وكيلا أي : من يتوكل بصرف ذلك عنكم

أم أمنتم أن يعيدكم فيه أي : يقوي دواعيكم لركوب البحر : تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح أي : ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته ، فتكسر السفينة وسط البحر : فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا أي : مطالبا بما فعلنا . مثل من يطالب على مغرق سوانا . وهذا كقوله : ولا يخاف عقباها
القول في تأويل قوله تعالى :

[70] ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .

ولقد كرمنا بني آدم أي : بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به : وحملناهم في البر والبحر أي : يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد [ ص: 3951 ] بالسير في طلبها فيهما ، وتحصيلها : ورزقناهم من الطيبات أي : فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات : وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا أي : عظيما ، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده .

تنبيه :

ظاهر قوله تعالى : ( على كثير ) أن ثمة من لم يفضل البشر عليه . قيل : وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى . أعني الملائكة .

قال القاشاني : وأما أفضلية بعض الناس ، كالأنبياء على الملائكة المقربين ، فليست من جهة كونهم بني آدم . بل من جهة السر المودع فيهم ، المشار إليه بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة . وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل :


وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي


وذهب قوم إلى تأويل ( الكثير ) بـ ( الكل ) كما أول ( القليل ) بمعنى ( العدم ) في قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون والمعنى : وفضلناهم على الجم الغفير من خلقنا ، أي : جميع المخلوقات .

قال القاشاني : على أن تكون ( من ) للبيان والمبالغة في تعظيمه ، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف . أي : كثير ، وأي كثير ، وهو جميع [ ص: 3952 ] مخلوقاتنا لدلالة ( من ) على العموم ، ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر . والمسألة معروفة في كتب الكلام .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[71-72] يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

يوم ندعوا كل أناس بإمامهم أي : بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين . فيقال : يا أتباع فلان ! يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ! ويا أصحاب كتاب الشر ! قالوا : وفيه شرف لأصحاب الحديث ; لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال القاشاني : أي : نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه ، سواء كان صورة نبي آمنوا به ، أو إمام اقتدوا به ، أو دين أو كتاب ، أو ما شئت . على أن تكون ( الباء ) بمعنى ( مع ) . أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه ; لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم ، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم .

ورجح ابن كثير ، رحمه الله ، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال ، لقوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين وقال تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية ، وقال تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ ص: 3953 ] وما رجحه رحمه الله هو الصواب ; لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات ، هو الرجوع إلى نظائرها . وقوله تعالى : فمن أوتي أي : من هؤلاء المدعوين : كتابه أي : كتاب أعماله : بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم أي : فرحا وابتهاجا بما فيه من العمل الصالح : ولا يظلمون فتيلا أي : لا ينقصوه من أجورهم قدر فتيل ، وهو ما في شق النواة ، أو ما تفتله بين أصبعيك ، أو هو أدنى شيء ، فإن الفتيل مثل في القلة ، كقوله تعالى : ولا يظلمون شيئا

ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا أي : ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق ، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ، وأضل سبيلا منه في الدنيا ; لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الاهتداء بها . وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد . ولم يبق هناك شيء من ذلك . قيل : العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات ; لفساد حاسته ، مجاز في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة . وقيل : هو حقيقة فيهما . وعليه جوز أن يكون ( أعمى ) الثاني أفعل تفضيل ; لأنه من عمى القلب لا عمى البصر . ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله .

لطيفة :

قال الناصر : يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى . أي : فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه . ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ، ولا ناظر في معاده ، فهو في الآخرة كذلك ، غير مبصر في كتابه ، بل أعمى عنه ، أو أشد عمى مما كان في الدنيا ، على اختلاف التأويلين . وقوله تعالى :

[ ص: 3954 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[73-74] وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا .

وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إخبار عن تأييده تعالى رسوله ، صلوات الله عليه وسلامه ، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه . فإن المشركين ، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم ، كادوا أن يفتنوه . ولكن عناية الله وحفظه ، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره . وقد روي أن ثقيفا قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب : لا ننحني في الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها ، فإن خشيت أن يسمع العرب : ( لم أعطيتهم ما لم تعطنا ) فقل : الله أمرني بذلك .

وروي أن قريشا قالوا : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا : نؤمن بك أن تمس آلهتنا .

قال الإمام الطبري : يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر . وأن تكون غير ذلك . ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان . فالأصوب : الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له ، ببيان ما عني بذلك منه .

قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك . ودخلت ( أن ) المخففة من الثقيلة و ( اللام ) للتأكيد. والمعنى : أن الشأن قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك. ويصرفوك عن القرآن ، أي: عن حكمه . وذلك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن . وقوله : لتفتري علينا غيره أي : غير ما أوحينا إليك وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك : [ ص: 3955 ] وإذا لاتخذوك خليلا أي : لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم ، وراض بشركهم. ثم قال: ولولا أن ثبتناك أي : على الحق بعصمتنا إياك: لقد كدت تركن إليهم أي : تميل إليهم : شيئا قليلا وقوله : شيئا عبارة عن المصدر ، أو ركونا قليلا .

وعن قتادة : لما نزلت هذه الآية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .

ثم توعده في ذلك أشد التوعد ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[75] إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .

إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي : ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . و ( الضعف ) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله ، ودل على إضمار العذاب وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات ، كقوله تعالى : ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون

والسبب في تضعيف العذاب ; أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر . فكانت ذنوبهم أعظم . فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر . ونظيره قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين

تنبيهات:

الأول: قال القفال رحمه الله ) بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه): ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه ; لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه . فتارة كانوا يقولون : [ ص: 3956 ] إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة ، فأنزل الله تعالى : ولا تمدن عينيك ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب . وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه . فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم. وعلى هذا الطريق . فلا حاجة في تفسير هذه الآيات، إلى شيء من تلك الروايات . والله أعلم .

الثاني : قال القاضي : معنى قوله تعالى : ولولا أن ثبتناك الآية ، إنك كنت على صدد الركون إليهم ، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم . لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون ، فضلا عن أن تركن عليهم . وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هم بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه .

الثالث : قال الزمخشري : في ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين ; دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة ، مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله . فعلى المؤمن ، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر . وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله .

الرابع : جاء في (" حواشي جامع البيان ") ما مثاله بالحرف : من الفوائد الجليلة في هذه الآية ، أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك ، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما . فإنها شعائر [ ص: 3957 ] الكفر والشرك . وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة . وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل ، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض ، مع القدرة على إزالته . وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وأعظم شرك عندها وبها . فإن اللات - على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد - رجل كان يلت لهم السويق فمات . فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه . ولم يقولوا : إن اللات خلقت السماوات والأرض ، بل كان شركهم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه ، من النذور لها ، والشرك بها ، والتمسح بها ، وتقبيلها ، واستلامها . وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجرد مس آلهتهم ، كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا ، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة ، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم . فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان . فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام ، إلا فعلوه بالقبور . فإنا لله وإنا إليه راجعون . بل كثير منهم ، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه ، حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ، أو بمعتقدك الولي الفلاني ، تلكأ وأبى واعترف بالحق . وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : ( ثالث ثلاثة ) فيا علماء الدين ! ويا ملوك المسلمين ! أي : رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا ؟

فاللهم ! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل . انتهى .

[ ص: 3958 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[76-77] وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا

وإن كادوا أي: أهل مكة : ليستفزونك من الأرض أي : ليزعجونك بمعاداتهم من مكة : ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك أي : ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك : إلا قليلا أي : زمانا قليلا .

سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنة الله أن يهلكهم . ونصبت نصب المصدر المؤكد . أي : سن الله ذلك سنة : ولا تجد لسنتنا تحويلا أي : تغييرا . ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم ، إهلاكهم . سواء كان بالاستئصال أو لا . قال ابن كثير : وكذلك وقع ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد . فأمكنه منهم ، وسلطه عليهم ، وأظفره بهم . فقتل أشرافهم وسبى سراتهم . ولهذا قال تعالى : سنة من قد أرسلنا أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم . يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب . ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، كما قال تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

وقوله تعالى :

[ ص: 3959 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[78] أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا .

أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا لما ذكر تعالى ، قبل ، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض ، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى ، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم ، وتأييده عليهم . ونظيره قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وقوله : واستعينوا بالصبر والصلاة هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها . وأما معناها ، فقوله : لدلوك الشمس أي : لزوالها . قال ابن تيمية : الدلوك : الزوال عند أكثر السلف ، وهو الصواب . واللام للتأقيت . أي : بيان الوقت بمعنى ( بعد ) وتكون بمعنى ( عند ) أيضا . وقيل : للتعليل ; لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. وأما : غسق الليل فهو اجتماع الليل وظلمته . وأما : قرآن الفجر فهو صلاة الصبح . سميت قرآنا لأنه ركنها . كما سميت ركوعا وسجودا . فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهم . فيدل على وجوب القراءة فيها صريحا ، وفي غيرها بدلالة النص والقياس . ومعنى : مشهودا يشهده ملائكة الليل والنهار . ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء ، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار . أو يشهده الكثير من المصلين في العادة ! ومن حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة . والأكثرون على أن قوله تعالى : وقرآن الفجر [ ص: 3960 ] منصوب بالعطف على ( الصلاة ) أي : وأقم صلاة الفجر . وجوز بعض النحاة نصبه على الإغراء . أي : وعليك قرآن الفجر ، أو الزم .

تنبيهات :

الأول : هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها ، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولا واحدا . وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولا واحدا . وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر . قيل : هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر . والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء . فيدل على جواز الجمع مطلقا بين الأولين، وكذا بين الأخيرين. فالجواب : هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها . وأما في غيرها فلا ، وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها ، إلا بعذر . قال الحافظ ابن كثير : قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله ، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفا عن سلف ، وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه .

وقال العلامة أبو السعود : ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار ، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام . كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام . ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها ; لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة . فبعضها متصل ببعض ، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر . ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات . انتهى .

والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقا هذه الآية مع أثر ابن عباس .

جاء في " رحمة الأمة " ما مثاله : وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة ، ما لم يتخذه عادة . واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض . انتهى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]