عرض مشاركة واحدة
  #436  
قديم 11-05-2024, 11:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3961 الى صـ 3975
الحلقة (436)



[ ص: 3961 ] وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء .

ومن رواية لمسلم : صلى الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ، من غير خوف ولا سفر . وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة . والمسألة شهيرة .

الثاني : قلنا: إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس ، ومنها قوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل فالطرف الأول صلاة الفجر ، فإن صلاة الفجر في النهار . فإن الصائم يصوم النهار . وهو يصوم من طلوع الفجر . والوتر تصلى بالليل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة » . وإذا قيل : نصف النهار ; فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس . فهذا في هذا الموضوع ، ولفظ ( النهار ) يراد به من طلوع الفجر ، ويراد به من طلوع الشمس . لكن قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار أريد به من طلوع الفجر بلا ريب ، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة ، بل ولا مستحبة . بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس . وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض ؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه . فعلم أنه أراد بالطرف الأول : من طلوع الفجر . وأما الطرف الثاني : [ ص: 3962 ] فمن الزوال إلى الغروب . فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه . ثم قال : وزلفا من الليل فأجمل المغرب والعشاء في ( زلف من الليل ) وهو ساعات من الليل. فالمواقيت هنا ثلاثة .

وقال تعالى : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء . فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة . وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت . وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون فتبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض حين المساء وحين الصباح وعشيا وحين الإظهار . فالمساء يتناول المغرب والعشاء ، والصباح يتناول الفجر ، والعشي يتناول العصر ، والإظهار يتناول الظهر .

وقال تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وفي الآية الأخرى : قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر . وقبل غروبها هي العصر ، وبذلك فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : [ ص: 3963 ] « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا » . ثم قرأ قوله تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقوله تعالى : ومن الليل ومن آناء الليل مطلق في آناء الليل ، يتناول المغرب والعشاء . أفاد ذلك تقي الدين ابن تيمية في فتواه في (" المواقيت الكبرى ") .

الثالث : هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها . قال ابن تيمية عليه الرحمة ، في فتواه المتقدمة : وقت الصلاة وقتان . وقت الرفاهية والاختيار . ووقت الحاجة والعذر . فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله . ووقت العصر ما لم تصفر الشمس . ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق . ووقت العشاء إلى نصف الليل . ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس » . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن . ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا . وسائر ما روي فعل منه ، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث . ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث . والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر ، وأول وقت العصر وآخره ، وآخر وقت المغرب ، وآخر وقت العشاء ، وآخر وقت الفجر ، فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله . سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة : إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه ، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور ، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ، ونقل عنه ، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتا لا للظهر ولا [ ص: 3964 ] للعصر. وعلى قول الجمهور ، فهل آخر هذا أول هذا ، أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك ؟ فيه نزاع . فالجمهور على الأول ، والثاني منقول عن مالك . وإذا صار ظل كل شيء مثليه ، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد . وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما . والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس . وهو الرواية الثانية عن أحمد ، كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو ، مما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، بعد عمله بمكة . وهذا قول أبي يوسف ومحمد . فلم يكن للعصر وقت متفق عليه . ولكن الصواب المقطوع به ، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير ; أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله . وليس مع القول الآخر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيح ولا ضعيف. ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة ; لما اعتادوا تأخير الصلاة ، واشتهر ذلك ، صار يظن من يظن أنه السنة . وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب . ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر . الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثليه .

وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة : من الزوال إلى الغروب . ومن الغروب إلى الفجر ومن الفجر إلى طلوع الشمس . فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر . واتسع فيها وفيهما من وجهين : أحدهما : تقديم العصر إلى وقت الظهر ، كما قدمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة . وكما كان يقدمها في سفرة تبوك ، إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس . وتقديم العشاء إلى المغرب في المطر . فهذا جمع تقديم ، والثاني جمع تأخير ، العصر فيها إلى الغروب ; لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر . ومن أدرك [ ص: 3965 ] ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر » . مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « وقت العصر ما لم تصفر الشمس » وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار . ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب . وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهذا مذهب مالك والشافعي ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه . وقيل : يخير حال القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان . وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل : بل يؤخرها . وهو قول أبي حنيفة أيضا. ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا » . فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر . فدل على المنع من هذا وهذا . فلما قال صلى الله عليه وسلم هذا وهذا ، علم أن الوقت وقتان . فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا . وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله . بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك . كالحائض إذا طهرت ، والمجنون يفيق ، والنائم يستيقظ ، والناسي يذكر ، ودل تقديم العصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب الزوال . ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب . مع أنه بين بقوله وفعله ; أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله ، ما لم تصفر الشمس . فدل ذلك على أن هذا الوقت المختص بها ، وقت مع التمكن والرفاهية . ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه . وقد عرف من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس ; أنهم قالوا ( في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس ) : تصلي الظهر والعصر . وإذا طهرت قبل طلوع الفجر ، صلت [ ص: 3966 ] المغرب والعشاء . ولم يعرف عن صحابي خلاف ذلك . وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد . وهذا مما يدل على أنه كانت الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر . والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب . كما دل على ذلك السنة والقرآن - يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل - والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها، يقولون : الغرض إنما ثبت بالقرآن . والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى فلا موجب لخصوص التكبير عندهم ، بل مطلق الذكر . وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قط إلا بتكبير . ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا بتكبير. ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر . لأن القرآن مطلق في الذكر . فيقال لهم : القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل . ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني ، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التفريق ، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة ؟ ! وكذلك يقولون : قوله تعالى : اركعوا واسجدوا مطلق. فهو الفرض ، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد فيفيد الوجوب دون الفرضية . وكذلك يقولون في الفاتحة : إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة . ومع قوله : « لا صلاة إلا بأم القرآن » . و « إن كل صلاة لم يقرأ فيها [ ص: 3967 ] بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج » . ويقولون : هذا يفيد الوجوب دون الفرضية . أو هذا خبر واحد فلا يقيد به مطلق القرآن . ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا ، وليس معهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر ، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد . مع ما فيه من الإجمال ، كقوله لما بين المواقيت الخمسة : « الوقت ما بين هذين » وقوله : « ما بين هذين وقت » دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله : « لا صلاة إلا بأم الكتاب » وقوله : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج » وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة » . ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية بقوله صلى الله عليه وسلم : « فصلوا الصلاة لوقتها » وهو الوقت الذي بينه لهم . والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل . ولا صلاة الليل إلى النهار . وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار . ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل ; لأنهم سألوه عن الأمراء ، أنقاتلهم ؟ قال : « لا ، ما صلوا » وهذه كانت صلاتهم . ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال ، وتفويت يوم الخندق منسوخ . وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت في السنة في مواضع متعددة . وبعضها مما أجمع عليه المسلمون ، والآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت المشترك وقت في حال العذر . كقول عمر بن الخطاب : (الجمع بين [ ص: 3968 ] الصلاتين ، من غير عذر ، من الكبائر)، فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة ) فيمن طهرت في آخر النهار ) : إنها تصلي الظهر والعصر ، ) وفيمن طهرت آخر الليل ) : إنها تصلي المغرب والعشاء . وهو قول الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد ، وأما التفويت فلا يجوز بحال ، فمن جوز التفويت في بعض الصور ، فقوله ضعيف ، وإن جوز الجمع . وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع ، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين : بين إباحة ما حرمه الله ورسوله ، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله . فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت . فهذا الأصل ينظم كثيرا من المواقيت . وتفويت العصر إلى حين الاصفرار . وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا لا يجوز إلا لضرورة ، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت ، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة . وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره . وقالوا : لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار . بل إذا لم يجد الماء إلا فيه ، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء. انتهى كلامه عليه الرحمة .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[79] ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .

ومن الليل فتهجد به نافلة لك أمر له بصلاة الليل ، إثر أمره بالصلوات الخمس وفي : { من } وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بـ ( تهجد ) أي : تهجد بالقرآن بعض الليل . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف عطف عليه ( فتهجد ) أي : قم من الليل ، أي : في بعضه فتهجد بالقرآن . والتهجد ترك الهجود وهو النوم ، و ( تفعل ) يأتي للسلب : كـ ( تأثم وتحرج ) بمعنى ترك الإثم والحرج . قال الأزهري : المعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم . وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له : ( متهجد ) لإلقائه الهجود عن نفسه ، كما يقال للعابد ( متحنث ) لإلقائه الحنث عن نفسه . انتهى .

[ ص: 3969 ] ونقل عن ابن فارس : أن معناه: صل ليلا. وكذا عن ابن الأعرابي قال : هجد الرجل وتهجد ، إذا صلى بالليل . والمعروف الأول . والضمير في ( به ) للقرآن من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر ، أو للبعض المفهوم من ( من ) والباء بمعنى ( في ) أي : تهجد في ذلك البعض. وقوله تعالى: نافلة لك أي : عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس.

قال الزمخشري : وضع ( نافلة ) موضع ( تهجدا) لأن التهجد عبادة زائدة . فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى: أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة ، فريضة عليك خاصة دون غيرك ; لأنه تطوع لهم . انتهى .

قال أبو السعود : ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر ، مع تقدم وقتها على وقتها.

وقوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا أي : يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه . وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات . والمشهور أنه مقام الشفاعة العظمى ; للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون . كما وردت به الأخبار الصحيحة . ومعنى النظم الكريم على هذا : كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر ، بالصلاة والعبادة ، فسيبعثك ربك من بعد الموت الأكبر ، مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس . وفيه تهوين لمشقة قيام الليل . أشار له أبو السعود .

تنبيه:

قال ابن جرير : ذهب آخرون إلى أن ذلك المقام المحمود ، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه ، هو أن يجلسه معه على عرشه . رواه ليث عن مجاهد . وقد شنع الواحدي على القائل به ، مع أنه رواه عن ابن مسعود أيضا . وعبارته - على ما نقلها الرازي - : [ ص: 3970 ] وهذا قول رذل موحش فظيع ، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه :

الأول : أن البعث ضد الإجلاس ، يقال : بعثت النازل والقاعد فانبعث ، ويقال : بعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره . فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد .

الثاني : أنه تعالى قال : مقاما محمودا ولم يقل مقعدا . والمقام موضع القيام لا موضع القعود .

الثالث : لو كان تعالى جالسا على العرش ، بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا . ومن كان كذلك فهو محدث.

الرابع : يقال : إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز ; لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون ( في كل أهل الجنة ) : إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين ، لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة .

الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلانا ، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم . ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه . فثبت أن هذا القول كلام رذل سقط ، لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين. انتهى كلام الواحدي .

وليته اطلع على ما كتبه ابن جرير حتى يمسك من جماح يراعه ، ويبصر الأدب مع السلف مع المخارج العلمية لهم . وهاك ما قاله ابن جرير رحمه الله ( بعد ما نقل عن مجاهد قوله المتقدم ) :

وأولى القولين بالصواب ، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقام الشفاعة - ثم قال - : وهذا وإن كان هو الصحيح في القول ، في تأويل المقام المحمود ، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين . فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قول غير مدفوع صحته . لا من جهة خبر ولا نظر . وذلك لأنه لا خبر [ ص: 3971 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين ، بإحالة ذلك . فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام ، إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عز وجل بائن من خلقه ، كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذا لم يكن هو لها مماسا ، وجب أن يكون لها مباينا ; إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عز وجل فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين . فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على الأرض ( إذ كان من قولهم : إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد ، في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما ) . وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا شيء يباينه . فعلى قول هؤلاء أيضا : سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على أرضه ) إذ كان سواء على قولهم : عرشه وأرضه ، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه ) .

وقالت فرقة أخرى : كان الله عز ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا وصار له مماسا ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ولا شيء يحرمه ذلك . ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا . قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا يباينه . وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه . فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه . كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان [ ص: 3972 ] مباينا له من الأشياء ، غير موجبة له صفة الربوبية ولا مخرجته من صفة العبودية لربه . من أجل أنه موصوف بأنه مباين له ، كما أن الله عز وجل موصوف - على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها. هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى ( مباين ومباين ) لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودية ، والدخول في معنى الربوبية فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن . فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد ، من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه ، فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده معه. (حدثني ) عباس بن عبد العظيم قال : حدثنا يحيى بن كثير عن الجريري ، عن سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، على كرسي الرب ، بين يدي الرب تبارك وتعالى . وإنما ينكر إقعاده إياه معه . قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه ؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماس ولا مباين ، وبأي ذلك قال ، كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره . وإن قال : ذلك غير جائز منه ، خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ; إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها . وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك . انتهى كلام ابن جرير رحمه الله .

وأقول : لك أن تجيب أيضا عن إيرادات الواحدي الخمسة ، التي أفسد بها قول مجاهد . أما جواب إيراده الأول ، فإن مجاهدا لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس . وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر .

وعن الثاني : بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة ، معروف ذلك في اللغة .

وعن الثالث : بدفع اللازم المذكور ; لأنه كما اتفق على أن له ذاتا لا تماثلها الذوات ، فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار فإنه لا يماثل الصفات ، ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق .

[ ص: 3973 ] وعن الرابع : بأنه مكابرة ; إذ كل أحد يعرف - في الشاهد - لو أن ملكا استدعى جماعة للحضور لديه ، ورفع أفضلهم على عرشه ، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل .

وعن الخامس : بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه ; إذ لا بعث لإصلاح المهمات في الآخرة ، وإنما معنى الآية : إنه يرفعك مقاما محمودا . وذلك يصدق على ما قاله مجاهد وما قال الأكثر . فتأمل وأنصف . وقد أنشد الحافظ الذهبي في كتابه " العلو لله العظيم " للإمام الدارقطني في ترجمته ، قوله :


حديث الشفاعة في أحمد إلى أحمد المصطفى نسنده

وأما حديث بإقعاده
على العرش أيضا فلا نجحده

أمروا الحديث على وجهه
ولا تدخلوا فيه ما يفسده


وقال الذهبي في كتابه المنوه به ، في ترجمة ( محمد بن مصعب ) العابد شيخ بغداد ما مثاله : وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله الخفاف . سمعت ابن مصعب وتلا : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال : نعم يقعده على العرش . ذكر الإمام أحمد ، محمد بن مصعب فقال : قد كتبت عنه . وأي رجل هو ؟ ! قال الذهبي : فأما قضية قعود نبينا على العرش ، فلم يثبت في ذلك نص ، بل في الباب حديث واه . وما فسر به مجاهد الآية ، كما ذكرناه . فقد أنكره بعض أهل الكلام . فقام المروذي وقد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتابا وطرق قول مجاهد ، من رواية ليث بن أبي سليم ، وعطاء بن السائب ، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد . وممن أفتى في ذلك العصر ، بأن هذا الأثر يسلم ولا يعارض . أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي وخلق . بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد : أنا منكر على كل من رد هذا الحديث . وهو عندي رجل سوء متهم . سمعته من جماعة . وما رأيت محدثا ينكره . وعندنا إنما تنكره الجهمية . وقد حدثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن فضيل عن ليث ، عن مجاهد في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ ص: 3974 ] قال : يعقده على العرش . فحدثت به أبي رحمه الله فقال : لم يقدر لي أن أسمعه من ابن فضيل : بحيث إن المروذي روى حكاية بنزول، عن إبراهيم بن عرفة. وسمعت ابن عمير يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : هذا قد تلقته العلماء بالقبول . وقال المروذي : قال أبو داود السجستاني : ثنا ابن أبي صفوان الثقفي ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، ثنا سلم بن جعفر ، وكان ثقة ، ثنا الجريري ، ثنا سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام ، قال : إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله عز وجل على كرسيه . الحديث . وقد رواه ابن جرير في تفسيره . ( أعني قول مجاهد ) وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره. وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره . بحيث إن الإمام أبا بكر الخلال قال في كتاب (السنة) من جمعه : أخبرني الحسن بن صالح العطار . عن محمد بن علي السراج . قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: إن فلانا الترمذي يقول : إن الله لا يقعدك معه على العرش. ونحن نقول : بل يقعدك ، فأقبل علي شبه المغضب وهو يقول : بلى ، والله ! بلى ، والله ! يقعدني على العرش . فانتبهت . بحيث إن الفقيه أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدث قال ( فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء ) : لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا ; إن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش . واستفتاني ، لقلت له : صدقت وبررت .

قال الذهبي : فأبصر ، حفظك الله من الهوى ، كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر. واليوم يردون الأحاديث الصريحة في العلو . بل يحاول بعض الطغام أن يرد قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى انتهى .

وقوله تعالى :

[ ص: 3975 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[80-81] وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .

وقل رب أدخلني مدخل صدق أي: مدخلا حسنا مرضيا بلا آفة : وأخرجني مخرج صدق أي : مخرجا حسنا مرضيا من غير آفة الميل إلى النفس ، ولا الضلال بعد الهدى . و : واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا أي : عزا ناصرا للإسلام على الكفر ، مظهرا له عليه .

وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال : وقل رب أدخلني أي : في هذه العبادات ، فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود ، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها ، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه . وقولك : رب أدخلني مدخل صدق أي : بمشاهدتك في هذه العبادات ، وتخليتي عن الرياء والعجب ، وتصفيتي بإخلاص العمل ، وإخلاص طلب الأجر ، ورؤية المنة لله ، ورؤية التقصير فيها : وأخرجني عنها : مخرج صدق فلا تستعملني فيما يحبطها علي ، ولا تردني على نفسي . وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق ، أو وردت علي شبهة ، فاجعل لي من لدنك ، لا من عند فكري : سلطانا أي : حجة : نصيرا ينصرني على ما ذكر ; ليبقي علي عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود . انتهى .

واللفظ الكريم محتمل لذلك . ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه .

وقل أي : استبشارا بقرب الظفر والنصر ، وترهيبا للمشركين : جاء الحق وهو الوعد بالسلطان النصير والإسلام ودولته : وزهق الباطل أي : ذهب وهلك . وهو الشرك وجولته : إن الباطل كان زهوقا أي : مضمحلا غير ثابت في كل وقت .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.07 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]