عرض مشاركة واحدة
  #438  
قديم 11-05-2024, 11:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3991 الى صـ 4005
الحلقة (438)



فصل

وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله : إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحس في هذه الأيام ، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى . لا يصل العقل إلى إدراك كنهها . وإنها متصلة بهذا الجسد الطيني، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه . وإنه كغلاف للسر الإلهي المسمى روحا . ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح ( هي صورة كالجسد ) ويقولون: إن الروح وغلافها هذا [ ص: 3991 ] يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص ، إلى عالم غير هذا العالم . ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال ، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة. ولكنا لا نراها بأعيننا ، لعدم استعداد أعيننا لذلك. كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتجن ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له . وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعي فائدة كبرى . ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، رؤية حقيقية. انتهى ملخصا .

تنبيه :

جميع ما قدمناه ، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان .

قال ابن القيم في كتاب (" الروح ") : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف. وأكثر السلف ، بل كلهم ، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم . بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه ، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة ، وهو ملك عظيم . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ، وهو متكئ على عسيب ، فمررنا على نفر من اليهود . فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه ، وقال بعضهم : نسأله ، فقام رجل فقال : يا أبا القاسم ! ما الروح ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت . فلما تجلى عنه قال : ويسألونك عن الروح الآية ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي . وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس . وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب. وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم . فلم يكن الجواب [ ص: 3992 ] عنها من أعلام النبوة . فإن قيل : فقد روى أبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبي ، وليس على ديننا . ولا على دينكم . قالوا : فمن تبعه ؟ قالوا : سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما أشراف قومه فلم يتبعوه ، فقالوا : إنه قد أظل زمان نبي يخرج ، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل ، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي صادق ، وإن لم يخبركم بهن فهو كذاب ، سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم ، فإن قال لكم : هي من الله ، فقولوا : كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه ؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية . يقول: هو خلق من خلق الله ليس هو من الله .

قيل : مثل هذا الإسناد لا يحتج به. فإنه من تفسير السدي عن أبي مالك . وفيه أشياء منكرة. وسياق هذه القصة في السؤال، من الصحاح والمسانيد ، كلها تخالف سياق السدي . وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود ، وأنا أمشي معه ، فسألوه عن الروح ، قال : فسكت ، فظننت أنه يوحى إليه ، فنزلت : ويسألونك عن الروح يعني اليهود : قل الروح من أمر ربي الآية . وكذلك هي في قراءة عبد الله . فقالوا : كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل . رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة . وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح . فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء . فأنزل الله عز وجل الآية . فهذا يدل على ضعف حديث السدي ، وأن السؤال كان بمكة ، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود . ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة ، لم يسكت [ ص: 3993 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبادر على جوابهم بما تقدم من إعلام الله له ، وما أنزل الله عليه . وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب . فإما أن تكون من قبل الرواة ، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها . ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة ، ثم قال : والروح في القرآن على عدة أوجه :

أحدها : الوحي ، كقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح .

الثاني : القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين ، كما قال : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

الثالث : جبريل كقوله تعالى : نـزل به الروح الأمين على قلبك وقال تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله وهو روح القدس ، قال تعالى : قل نـزله روح القدس

الرابع : الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله . وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون وإنها الروح المذكورة في قوله : تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم

الخامس : المسيح عيسى ابن مريم . قال تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم [ ص: 3994 ] رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس ، قال تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة وقال : ولا أقسم بالنفس اللوامة وقال : إن النفس لأمارة بالسوء وقال : أخرجوا أنفسكم وقال : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال : كل نفس ذائقة الموت

وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح . انتهى .

قال ابن كثير : رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة ، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي ، أن هذه الآية مدنية . وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك في المدينة . مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية . كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : ويسألونك عن الروح انتهى .

وقد روى ابن جرير عن قتادة : أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام وحكاه عن ابن عباس .

أقول : الذي أراه متعينا في الآية ، لسابقها ولاحقها ، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن ، وهو قريب من قول قتادة . ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنة بكونه شفاء ورحمة ، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا . قال تعالى : وكذلك أوحينا [ ص: 3995 ] إليك روحا من أمرنا وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فكانوا إذا سمعوا الروح ، وصدعوا بالإيمان به ، يتعنتون في السؤال عنه ; استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه ، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله ، وأنه روح من لدنه ، وإلقاء من أمره . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي وقوله تعالى : عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون أي : بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته ، وذلك لأنهم قوم جاهليون ، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة ; للأمية والجهالة الفاشيتين فيهم ، كما أشير إليه بقوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي : مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم . وما هو في جنب معلومات لا تحصى ، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب ، والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف ، يفسر بعضه بعضا .

وجميع ما ذكره المتقدمون ، غير ما ذكرناه ، جرى مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة . وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود ; لأنها لما كان لها وجوه من المعاني ، ومنها ما سألوا عنه ، ألقموا بها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[86] ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا .

ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك أي : من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، وإنما عبر عنه بالموصول ، تفخيما لشأنه . ووصفا له بما هو في حيز الصلة ، وإعلاما بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق : ثم لا تجد لك به علينا وكيلا أي : من يتوكل علينا برده .
[ ص: 3996 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[87] إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا .

إلا رحمة من ربك أي : ولكن رحمة من ربك تركته غير مشاء الذهاب به بل تولت حفظه .

قال الزمخشري : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا ، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه . فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما . وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره ، ومنته عليه في بقاء المحفوظ إن فضله كان عليك كبيرا أي : تفضله بالإيحاء والتعليم الرباني ، والاصطفاء للرسالة .

ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل ، وأنه وحي رباني ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[88] قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

قل لئن اجتمعت الإنس والجن أي : اتفقت : على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أي : معينا . وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك ، مع طول الزمن ، دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر ، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[89] ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا .

ولقد صرفنا أي : رددنا وكررنا وبينا : للناس في هذا القرآن من كل مثل [ ص: 3997 ] أي : من كل معنى ، هو كالمثل في غرابته وحسنه ، ليتقرر ويرسخ في نفوسهم ، ويزدادوا تدبرا وإذعانا . فكان حالهم على العكس ، إذ لم يزدادوا إلا كفرا ، كما قال سبحانه : فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : جحودا .

ولما تبين إعجاز القرآن ، وأنه الآية الكبرى ، ولزمتهم الحجة وغلبوا ، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات ، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة ، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[90-93] وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أي : تشقق لنا من أرض مكة عيونا .

أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أي : بستان منهما : فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح ; لأنهم كانوا يردون بلاد الشام والعراق ، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار .

[ ص: 3998 ] قال ابن جرير فيما رواه ، إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ، ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا منا . فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق . ثم زادوا في الاقتراح فقالوا :

أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أي : قطعا بالعذاب : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أي : كفيلا بما تقول ، شاهدا بصحته .

أو يكون لك بيت من زخرف أي : ذهب : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك أي : وحده : حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه أي : كتابا من السماء ، فيه تصديقك : قل سبحان ربي أي : تنزيها له . والمراد به التعجب من اقتراحاتهم : هل كنت إلا بشرا رسولا أي : كسائر الرسل . وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، حسبما يلائم حال قومهم . ولم يمكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها .

تنبيه :

لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه ، وبحكمته وجلاله . وبيان ذلك - كما في كتاب (" لسان الصدق ") - أن ما اقترحته قريش فيها ( منه ) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض . وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر ; لمصالح يعلمها هو جلت عظمته ، ولا يعلمها الخلق. فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء . مع أن مثله لا تثبت به النبوة . فإننا نعلم أن أناسا قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء . ( ومنه ) ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا فإن إنزال السماء [ ص: 3999 ] قطعا مقتض لهلاك العالم بحذافيره . والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم . ( ومنه ) ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلا وهو قولهم : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون . فلا يجوز طلبه ، وليس من أنواع المعجز . ( ومنه ) ما لا يصلح للأنبياء ، ولو حصل لم يكن معجزا وهو قولهم : أو يكون لك بيت من زخرف فإن هذا غير صالح للأنبياء . وليس بمعجز ، لحصول مثله عند أشباه فرعون . ( ومنه ) ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه فيه - على ما ذكر في الرواية - من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان ، لقوم من قريش بأسمائهم. أما بعد : فإن محمدا رسولي فآمنوا به . والصعود في السماء لا مرية فيه ، لأنهم قالوا : ولن نؤمن لرقيك فلو كان ، لكان عبثا. وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء ، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل . والوحي مختص بالأنبياء ، والكفار عنه معزولون . فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزا ، وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها ، أو لأمر آخر اقترحوها تكبرا وتعنتا وجهلا ، على أنهم بعد تلك الأقوال كلها ، قال قائل منهم : وأيم الله ! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وقد قال تعالى :ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه ، هو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا أي : تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول . علي أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم . وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إلي . وذلك ما تحديتكم بالإتيان [ ص: 4000 ] بسورة مثله في الهداية والإصلاح ، كما أمرني ربي . ولا أقترح عليه ، سبحانه ، ما لا يجوز أن يكون أو ما يكون فعله عبثا ، لخلوه عن الفائدة . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[94] وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .

وما منع الناس أي : الذين حكى تعنتهم : أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا أي : إلا تعجبهم من بعثة إنسان رسولا . بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر . كما قال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم والآيات في ذلك كثيرة . ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده ، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته . حتى لو كانت الأرض مستقرا لملائكته ، لكانت رسلهم منهم ، جريا على قضية الحكمة .

فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[95] قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .

قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون أي : على أقدامهم كما يمشي الإنس : مطمئنين أي : ساكنين في الأرض قارين : لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا أي: من جنسهم، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد . ولما كنتم أنتم بشرا ، بعثنا [ ص: 4001 ] فيكم رسلا منكم ، كما قال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون

تنبيه :

في الآية إشارة إلى حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة ، وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك ، فمن على الخلق بالرسل ، وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة ، وخلصهم من التخبط ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور .
القول في تأويل قوله تعالى :

[96] قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم أي : على أني بلغت ما أرسلت به إليكم ، وإنكم كذبتم وعاندتم . وقرر الرازي أن المعني بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن . أي : كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز ، شاهدا على صدقي . ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق. فقولكم ، معشر المشركين ، بعد هذا ، يجب أن يكون الرسول ملكا ، تحكم فاسد.

وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى : بيني وبينكم وما بعده من التعليل . ثم قال أبو السعود : وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة ، وإبانة للمباينة . وقوله تعالى : إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي : عالما بأحوالهم . فهو مجازيهم . وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة .

[ ص: 4002 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[97] ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا .

ومن يهد الله أي : إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى : فهو المهتد ومن يضلل أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره ، كهؤلاء المعاندين : فلن تجد لهم أولياء من دونه أي : أنصارا يهدونهم ويحفظونهم من قهره ، وإنما أوثر ضمير الجماعة في (لهم) حملا على معنى (من) وأوثر في ما قبله الإفراد ، حملا على اللفظ . وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق ، وقلة سالكيه ، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم أي : يسحبون عليها كقوله : يوم يسحبون في النار على وجوههم

وقال القاشاني : أي : ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية ! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا . كقوله: ( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون ) إذ ( الوجه ) يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها . أي : على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان . وقوله تعالى : عميا وبكما وصما أي : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ، ويتصامون عن استماعه ; فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى كذا في (" الكشاف ") .

مأواهم جهنم كلما خبت أي : سكن لهيبها ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم : زدناهم سعيرا أي : توقدا . بأن نبدل جلودهم ولحومهم ، فتعود ملتهبة مستعرة .

[ ص: 4003 ] قال الزمخشري : كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء ، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ، ثم يعيدها . لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث . ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.

وقد دل على ذلك بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[98] ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا .

ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أي : لمحيون خلقا جديدا ، بإعادة الروح فينا ، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاما. بل رقت عظامنا فصارت رفاتا . ثم احتج تعالى عليهم ، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[99] أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا .

أولم يروا أي : يعلموا : أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم أي : يوم القيامة . ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم . والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس ; لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن . كما قال : أأنتم أشد خلقا أم السماء ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء ، بل هي أهون .

قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل (مثل) هنا كناية عنهم . كقوله : ( مثلك لا يبخل) مع أنه صحيح . ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة ، كان أحسن : وجعل لهم أجلا [ ص: 4004 ] لا ريب فيه أي : جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها . كما قال تعالى : وما نؤخره إلا لأجل معدود فأبى الظالمون أي : بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل : إلا كفورا أي : جحودا وتماديا في باطلهم وضلالهم .

لطيفة :

قال الشهاب : هذه الجملة - جملة وجعل إلخ - معطوفة على جملة : أولم يروا لأنها وإن كانت إنشائية ، فهي مؤولة بخبرية - كما في " شرح الكشاف " إذ معناها : قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة : وجعل لهم أي : لإعادتهم : أجلا وهو يوم القيامة ، يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلا. فيجب التصديق به . أو جعل لهم أجلا ، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة . ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثا . فلا بد أن يجزى بما عمله في هذه الدار . فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين ، لفظا ومعنى ، و : لا ريب فيه ظاهر على الثاني . وعلى الأول معناه : لا ينبغي إنكاره لمن تدبر . وقيل : إنها معطوفة على قوله : يخلق

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[100] قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي أي : رزقه وسائر نعمه على خلقه : إذا لأمسكتم خشية الإنفاق أي : لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا ; لأن هذا من طباعكم وسجاياكم . ولهذا قال سبحانه : وكان الإنسان قتورا أي : بخيلا .

[ ص: 4005 ] تنبيهات:

الأول : هذه الآية بلغت بالمشركين ، من الوصف بالشح ، الغاية التي لا يبلغها الوهم ، كما قاله الزمخشري .

الثاني : ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد ، فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه ; لأن المرء إما ممسك أو منفق . والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل ، إما دنيوي كعوض مالي ، أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع ، كما في النفقة على الأهل . وما كان لعوض مالي كان مبادلة لا مباذلة . أو هو بالنظر إلى الأغلب ، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل :


عدنا في زماننا عن حديث المكارم



من كفى الناس شره فهو في جود حاتم


أفاده الشهاب .

وقال ابن كثير : إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له . كما قال تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز .

الثالث : ذكر هذه الآية إثر ما قبلها ، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة ، وسعة كرمه وجوده وإحسانه . كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض ، كي تنجلي لهم قدرته العظمى ، وسعة خزائنه الملأى ، فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحقية ما يدعوهم إليه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]