العبرة في الكيل والوزن
قال رحمه الله: [ومرد الكيل لعرف المدينة].
هذه مسألة مهمة، خاصة وأننا قد قررنا في باب الربا أنه لابد أن نعرف الموزونات والمكيلات حتى نقول: يجري الربا أو لا يجري.
فأي شيء تسأل عنه من الطعام أو من غير الطعام فتنظر: هل يكال، أو يوزن، أو يباع بالعدد والجزاف والذرع إلى آخره؟ إذاً: أنت محتاج إلى مسألة الكيل والوزن.
فهب أن رجلاً جاءك وقال: أريد أن أبيع العدس بالعدس جزافاً كوماً بكوم، فهل يجوز؟ وحينها ستضطر أن تسأل: هل العدس من جنس الربويات أم لا؟ وهذا يستلزم أن تعرف هل هو يكال ويوزن أم لا يكال ولا يوزن؟ فإذا كان طعاماً يكال أو يوزن جرى فيه الربا، كما قررنا ذلك على أصح أقوال العلماء؛ لكن لو كان الطعام يباع بالعدد، مثل الحلوى الآن، فإن منها ما يباع بالعدد؛ كحلوى العود.
وكذلك المكرونة: هل هي من جنس ما يكال أو يعد أو يوزن أو يذرع؟
الجواب
مما يوزن، ولذلك تجد مكتوباً عليها مثلاً: مائتين وخمسين جراماً، وفي بعض الأحيان الأنواع الصغيرة قد تباع كيلاً بالصاع، لكن الموجود والشائع في أسواقنا أنها تباع بالوزن.
كذلك الفستق: لو سألك رجل يبيع الفستق والمكسرات، وقال: أريد أن أبادل كيساً من الفستق بكيسين، وهذا الكيس من نوع، وهذان الكيسان من نوع آخر، فهل يجوز أم لا؟ فتقول: هل الفستق يباع بالكيل أو الوزن؟ الجواب: بالوزن، وبناءً على ذلك يعتبر من جنس الربويات، وقس على ذلك بقية الأمثلة.
إذاً: لابد من الكيل أو الوزن في الطعام، ولنفرض أن شيئاً كان يباع بالكيل، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع بالوزن، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع قديماً بالجزاف فأصبح يباع في زماننا بالكيل، أو بالوزن، وهذه المسألة تحتاج إلى ضبط؛ لأنك تقول: لا أحكم بالربا إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً من الطعام، فمعناه: أنه لابد أن يكون السوق يتبايع بالوزن أو يتبايع بالكيل.
إذاً: الربويات تنقسم إلى قسمين: الأول: ربويات منصوص عليها.
الثاني: ما كان في حكم المنصوص عليها مما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أشياء كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتباع بالكيل في زمانه أو تباع بالوزن، فهذه الأشياء لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فيكون إما مطعوماً أو غير مطعوم.
الحالة الثانية: أن يكون غير موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الموجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يباع وزناً في زمانه كالذهب والفضة، فلو أنه في زماننا هذا بيع الذهب مثلاً بالذرع، فنقول: العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اختلف الزمان، وهذا بالنسبة لغير المطعومات.
أما بالنسبة للمطعومات، فنفس الحكم، فما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم واختلف حال بيعه في زماننا، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم لا بزماننا.
فالتمر كان يباع كيلاً، لكن لو أنه في زماننا أصبح يباع بغير الكيل والوزن، فحينئذٍ نعتبر زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه منصوص عليه، ويجري فيه الربا، حتى ولو بيع بغير الكيل والوزن.
أما غير التمر، فلو كان هناك شيء موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يباع كيلاً؛ فحينئذٍ لو أصبح الزبيب يباع في زماننا وزناً فإن العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويجري فيه الربا.
إذاً: مسألة الكيل والوزن لابد لها من هذا الضابط، فإذا كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أو غير الطعام، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم على حسب الحال، وهذا هو مذهب الجمهور.
وهناك من العلماء من قال: العبرة بالعرف الذي طرأ بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن البطيخ كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يباع مثلاً بالكوم، ولا ينظرون إلى وزنه، لكن في زماننا يباع البطيخ بالوزن، فإذا كان بالكوم فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم غير مكيل ولا موزون؛ لأنه بيع جزافاً، والجزاف يكون بالحصر والتخمين، وبناءً على ذلك نقول: ما كان من جنس الطعام وغير الطعام يوجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بزمانه كيلاً ووزناً، وما كان مما لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بعرف السائل، هذا وجه، أو العبرة بمكة إن كان موزوناً، وبالمدينة إن كان مكيلاً، وهذا وجه آخر.
وقال بعض العلماء: أي شيء جرى فيه العرف ببيعه كيلاً أو وزناً تقيد بذلك العرف، فإن لم يكن له عرف رجعوا إلى مكة والمدينة بالكيل والوزن، وأما لو كان له عرف فالعبرة بعرف بلده، هذا هو الوجه الأول.
وهناك وجه ثانٍ يقول: العبرة في المكيلات والمطعومات بكيل المدينة.
فمثلاً: الطعام من جنس المكيلات، فأهل مكة يبيعونه بالوزن، وأهل المدينة يبيعونه بالكيل، فعند الحنفية الذين يرون الكيل، يقولون: يجري الربا؛ لأن العبرة في الكيل بكيل المدينة، والعبرة في الوزن بوزن مكة.
فالوزن من غير المطعومات هوما يقاس على الذهب والفضة، فمثلاً: الحديد والنحاس والنيكل والرصاص والخشب، لو بيع وزناً في مكة وبيع ذرعاً في المدينة جرى فيه الربا؛ لأنه من جنس الموزونات، والعبرة بمكة في الوزن، ولا عبرة بالمدينة في الوزن.
وعلى هذا يقولون: نعتبر في الوزن وزن مكة، ونعتبر في الكيل كيل المدينة، إذاً: عندنا ضابطان لا نص فيهما: العرف، والرجوع إلى مكيال مكة والمدينة.
فإذا قلنا بالعرف الذي هو عرف البلد، فالأصل في الرجوع إليه القاعدة الشرعية المشهورة: (العادة محكمة)، فإن الله ردنا إلى العرف فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، والأدلة على اعتبار العرف من الكتاب والسنة كثيرة.
ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إلى مهر مثلها لا وكس ولا شطط، إن كانت بكراً، فالبكر من مثلها سواءً كانت من أوساط الناس أو علية الناس أو الدون، وهذا كله من الرجوع إلى العرف {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في اعتبار العرف.
لكن لو فرضنا أننا في المدينة، وقلنا بالرجوع إلى العرف، فمعناه أننا نرجع إلى السوق، فجئنا إلى الكمثرى، وهي مطعوم، لكن هل تباع كيلاً في سوقنا؟ أو وزناً؟ أو عدداً؟ لو أن عرفنا جرى على بيعها عدداً -بالحبة- لم يجر فيها الربا؛ لأنها مطعومة غير مكيلة ولا موزونة، وشرط جريان الربا أن يكون مطعوماً مكيلاً أو موزوناً.
لكن لو كان في المدينة سوقان: سوق يبيعها بالعدد، وسوق يبيعها بالوزن، فإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالوزن حكمنا بالربا، وإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالعدد لم نحكم بالربا، فهل نقول: نغلب المحرمين؛ لأنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر، أو نقول: نغلب المجوزين؛ لأن الأصل الحل، والشريعة شريعة رحمة، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، أو أن الأمر في تفصيل؟ قالوا: فيه تفصيل: فإن كان السوق الذي يبيع بالوزن ويجري على وجهه الربا أكثر وأشهر وأغلب في المدينة، وأكثر ارتياداً من الناس، فالعبرة به والآخر لاغٍ، وإن كان الآخر هو الأكثر، فالعبرة به ولا ربا مثلما ذكرت.
لكن إذا كان السوقان متماثلين: هذا السوق سعته مثل ذلك السوق، والمدينة منقسمة إلى قسمين: النصف منها يقضي في هذا السوق، والنصف الآخر يقضي في ذلك السوق، فما الحكم؟ قالوا: إذا اختلفا فإنه يجري الربا في السوق الذي يباع بالوزن، ولا يجري في السوق الذي لا يباع بالوزن، وهذا ليس بغريب؛ لأنك ربما تأتي الآن إلى حدود الحرم، فلو أن رجلاً في التنعيم دخل خطوة، فصلاته فيها بمائة ألف صلاة، ولو خرج لم تكن له هذه الفضيلة، ولو دخل وأراد فيه الإلحاد بظلم أذاقه الله من عذابٍ أليم، ولو تقهقر وخرج خطوة لم يكن له هذا العذاب.
إذاً: مسألة التحديد لأن هناك وصفاً شرعياً مستنبطاً من النص، إذا وجد حكمنا به، وإذا فقد لم نحكم به، إذاً: هذه هي مسألة العرف.
ولذلك قال المصنف رحمه الله: (ومرد الكيل لعرف المدينة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبرة بالكيل بكيل المدينة، والعبرة بالوزن بوزن مكة).
وهذا الحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، والعمل عند أهل العلم على هذا الحديث؛ لأن مكة والمدينة نزل فيهما الوحي، وكان التشريع ونزول الوحي في هذا المكان، فيقولون: يرجع إلى هذا العرف عند اختلاف أعراف الناس، فيحتكم إليهما في الكيل كيلاً بالمدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، فكان الأشبه بهم كيلاً، والوزن يكون مرده إلى مكة، وعلى هذا يفصل بهذا التفصيل.
وقوله: (زمن النبي صلى الله عليه وسلم)، فقد رجح المصنف رحمه الله هنا أن المكيلات والموزونات نرجع فيها إلى عرف المدينة ومكة، إذا كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في المدينة، وكان يباع كيلاً، فنقول: إنه يأخذ حكم المكيل ويجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم مكيل.
قال رحمه الله: (وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه) أي: ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجع فيه إلى العرف في بلده، كما ذكرنا أنهم يقولون: إن المطعومات التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يرجع فيها إلى عرف بلادها، ويلغون عرف مكة والمدينة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم
تحريم ربا النسيئة والفضل
قال رحمه الله: [ويحرم ربا النسيئة]
معنى ربا النسيئة
النسيئة: مأخوذ من النسأ، كقولك: أنسأ الشيء إذا أخره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة:37]، حيث كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها؛ فلأجل هذا التأخير وصف بكونه نسيئاً.
فالنسيئة إما أن تكون من الطرفين، وهذا أشد ما يكون، وإما أن تكون من أحد الطرفين دون الآخر؛ كأن يعجل أحدهما ويؤجل الآخر، فيعطيه درهمين بدرهم، ينقد أحدهما وينسأ الآخر
الأدلة على تحريم ربا النسيئة
وقول المصنف: (يحرم ربا النسيئة) الدليل على التحريم قوله عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في الصحيح من حديث عبادة رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (يداً بيد) يدل على أنه لا يجوز بيع الربوي بالربوي مع اتحاد الصنف أو اختلافه إلا يداً بيد، وقوله عليه الصلاة والسلام في تتمة الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، منطوق النص واللفظ: أي: جاز لكم أن تبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، كيلو بكيلوين أو بثلاثة، إذا كان يداً بيد، هذا هو المنطوق.
ومفهومه: لا تبيعوا الذهب بالفضة بالنسأ والتأخير إذا لم يكن يداً بيد.
فالمنطوق: جواز بيع الذهب بالفضة، وبيع البر بالتمر، والشعير بالملح، الذي هو واحد من الأربعة بواحد آخر من الأربعة، بشرط أن يكون يداً بيد، ومفهوم الشرع: إذا كان يداً بيد؛ لأن المفاهيم عشرة، منها: مفهوم الشرع.
فلما قال: (يداً بيد)؛ فهمنا أنه إذا لم يكن يداً بيد فإنه لا يحل، وقد ذكرنا حديث عبادة لأنه أصل، وإلا فهناك أحاديث أقوى وأصرح في تحريم ربا النسيئة.
ومنها -الحديث الثاني- حديث عمر في الصحيح، وهو من أشد الأحاديث في تحريم ربا النسيئة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء)، فقوله: (هاء وهاء) أي: هه هه، فتعطي وتأخذ، وهذا يدل على التنجيز والتعجيل والنقد والإعطاء حالاً.
إذاً: فقوله: (هاء وهاء) معناه: أنه يقع في الربا إذا أخر ولا يقع فيه إذا عجل؛ لقوله: (إلا هاء وهاء)، فنص على كونه ربا إذا أخر، وهذا من المنطوق.
الحديث الثالث: من أدلة المنطوق وهي أقوى: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)، فإنه من أقوى الأحاديث التي دلت على حرمة النسيئة، بل عظمت أمره حتى قيل: لا يجري الربا إلا في النسيئة.
وهذا من باب التعظيم.
الحديث الرابع: حديث أبي موسى رضي الله عنه وهو في الصحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا، من الإشفاء- بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض)، ثم قال -وهذا منطوق النص-: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز).
فهذا نص على تحريم النسيئة وهو قوله: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، ومعناه: أنها وقت النسيئة من طرف، قالوا: فحرم النسيئة من طرف، فمن باب أولى أن تحرم إذا كانت من الطرفين، أي: لا يجوز بيع الغائبين: عين بعين مؤجلين، أو ذمة بذمة مؤجلين، نسيئة من الطرفين في ثلاث صور.
إذاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، ووقع الخلاف في ربا الفضل بين الصحابة، وخالف فيه بعض التابعين، وهنا نتعرض لمسألة هل ربا الفضل مجمع على تحريمه أم لا؟
الخلاف في حكم ربا الفضل
أولاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لكن نظراً لورود الحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) نحتاج إلى بيان مسألة ربا الفضل، وهل هو مجمع على تحريمه أم مختلف فيه؟ وهل حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) يدل على جواز ربا الفضل وانحصار الربا في هذا النوع وهو النسيئة، أم أنه لا يدل على ذلك؟ وهذه المسألة قد اختلف فيها الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أواخر القرن الثالث تقريباً، ثم انقرض الخلاف وأصبح قولاً واحداً بتحريم ربا الفضل، لكن لابد أن نتعرض لهذا الخلاف ثم نفند الشبه في جواز ربا الفضل.
وحاصل هذا: أنه روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم، وأسامة، عبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، والبراء بن عازب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عبد الله بن عباس فالرواية عنه في الصحيحين أنه كان يقول: (درهم بدرهمين لا بأس إذا كان يداً بيد)، فكان يجيز ربا الفضل ويحرم ربا النسيئة.
وأما عبد الله بن عمر فصح عنه؛ لكن صح عنه أنه رجع.
وكذلك عبد الله بن مسعود صح عنه، ولكن صح عنه أنه رجع.
والبراء بن عازب كذلك صح عنه أنه قال بقوله في قصة أبي المنهال مع شريكه لما سأل البراء، ولكنه رجع؛ لأن هذا الحكم -وهو جواز ربا الفضل- كان جائزاً في العصر المدني في أول التشريع، فحفظ بعض الصحابة الجواز، ثم اطلع على أدلة التحريم فرجع.
وأما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه، فقد جاء عنه الخلاف في قصته مع أبي الدرداء وأبي أسيد الساعدي المشهورة، وأن أبا أسيد الساعدي عتب على معاوية ورد عليه أمام الناس، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ... )، وذكر الحديث، وهكذا أبو الدرداء راجع معاوية، فلما راجعه امتنع معاوية من قول أبي الدرداء، ثم رجع أبو الدرداء إلى عمر فسأله: ما الذي أقدمك من ثغرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه كان كذا وكذا وأخبره الخبر، فقال له: ارجع إلى ثغرك، والله لا خير في قوم لست فيهم، ثم كتب إلى معاوية ينهاه؛ فالظن بأمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه معاوية إذا بلغه نهي عمر أن ينتهي؛ لأن بعض الصحابة كان يقول بالجواز على ما كان يعلمه من التشريع الأول، ثم نسخ ذلك التشريع.
ثم عبد الله بن الزبير يُحكى عنه، ولكن لم يأتِ في رواية صحيحة عنه أنه قال بجواز ربا الفضل.
وهكذا أسامة حكي عنه، ولكن لم تأتِ رواية صحيحة عنه.
هذا مجمل الصحابة الذين حكي عنهم الخلاف، وقد رجعوا كلهم، وبقي ابن عباس وحده، هل رجع أو لم يرجع؟ اُختلف فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن فتواه بحل ربا الفضل، وهذا يرويه زياد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما قبل وفاته بسبعين ليلة فأفتى بالتحريم.
ومنهم من يقول: إنه توفي وهو يقول بهذا القول، واحتجوا بما روى سعيد بن جبير رحمه الله وهو من أقرب الناس إلى ابن عباس وأعلمهم بفتواه، أنه قال: (سألت ابن عباس قبل أن يموت بشهرين، فوالله ما رجع عن قوله بربا الفضل) وهذا ثابت في الصحيح.
- وهناك قول ثالث بالتوقف.
والصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يرجع عن فتواه بجواز ربا الفضل، بل توفي وهو يقول بذلك؛ وكان يتأول حديث أسامة ويفتي به ويعمل به.
ولذلك عتب عليه الصحابة حتى قال له أبو موسى الأشعري كما في صحيح مسلم: (اتق الله يا ابن عباس! أيأكل الناس الربا بقولك؟ فقال: أستغفر الله، فقال له: هل وجدت ذلك في كتاب الله؟ أو شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال له ابن عباس: أما كتاب الله فلا)، أي: لم يجد في كتاب الله هذا الذي يقول به من الفتوى، قال: (وأما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لا يعرف الفضل إلا أهله.
فقد كان الصحابة يحفظ الصغير حق الكبير، وكان يحفظ من كان عنده علم من هو أعلم منه، كان يقدر بعضهم بعضاً، فمع كونها مسألة خلافية وفقهية لكنها ما أذهبت الحقوق، ولا أذهبت قدر الناس، ولا جعلت الإنسان عند مخالفته لغيره يحط أو ينزله من قدره، بل قال له أمام الناس: (أما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله)؛ لأنهم أعلم وأكبر سناً وأكثر شهوداً لمشاهدة التنزيل.
فهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كان التابعون والتابعون لهم بإحسان، ولا زال أهل الفضل على هذا النهج الصالح الذي يدل على صفاء القلوب والإنصاف والعدل والتقوى لله سبحانه وتعالى.
ثم قال: ولكن أخبرني أسامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، فاحتج بالسنة، وفهم ابن عباس أنه لا يقع الربا في الفضل، وأنه يجوز أن تصرف الريال بالريالين، والدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين؛ لكن بشرط أن يكون يداً بيد، والواقع أن هذا الحديث يجاب عنه من مسالك: المسلك الأول: من ناحية النسخ.
المسلك الثاني: الجمع.
المسلك الثالث: الترجيح.
فهذه ثلاثة مسالك أصولية في الجواب عن هذا الحديث ومناقشته، وتوهين الاستدلال به.
المسلك الأول: دعوى النسخ، وهذا المسلك يميل إليه طائفة من العلماء وبعض أئمة الحديث، كالإمام الحميدي وغيره، ويقوون النسخ؛ لأن البراء قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتجارتنا هكذا) أي: كنا نعطي الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، أي: كنا نتعامل بالفضل، فلما قدم عليهم وتجارتهم هكذا وأقرهم عليها قال: (ثم جاءتنا أحاديث التحريم ففهمنا أن الأمر قد نسخ)، وهذا المسلك من أقوى المسالك.
المسلك الثاني: الجمع، لكن يقول العلماء: لا يصار إلى الجمع متى كان أحدهما منسوخاً؛ لأنه لا يجمع إلا بين نصين محكمين، لأن النصين أحدهما منسوخ، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع.
فأما مسلك الجمع بين النصين، فيجمع بينهما من وجوه: أولاً: قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) يحمل على أن المراد به: لا ربا أكمل وأكثر وأشنع وأشد من ربا النسيئة، وهو من باب التهويل والتشديد، فلما كان ربا النسيئة هو ربا الجاهلية، وهو الذي يظلم فيه الفقراء من قبل الأغنياء قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، وهو كقوله: (الحج عرفة) فإنه لا يسقط أركان الحج الباقية، فخرج من باب التعظيم والتهويل والتشديد في أمره.
ثانياً: من مسالك الجمع ما اختاره الإمام الشافعي رحمه الله: أن الصحابي حضر الجواب ولم يحضر السؤال، فسُئل عليه الصلاة والسلام عن مسألة فيها ربا نسيئة، فقال له: (لا ربا إلا في النسيئة) أي: هذا الذي تسأل عنه هو عين الربا، فحضر الجواب ولم يحضر السؤال، وهذا يقع في بعض النصوص، فيعمم فيما هو مخصص، أو يطلق فيما هو مقيد، وقد ذكر هذا العلماء والأئمة.
المسلك الثالث: الترجيح، والترجيح هنا من جهة السند ومن جهة المتن: فأما الترجيح من جهة السند: فأولاً: إن أحاديث التحريم، كحديث عبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وعمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع، وغيرها من الأحاديث التي أثبتت تحريم ربا الفضل، هي من رواية أكابر الصحابة، وحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من رواية أصاغر الصحابة؛ لأن أسامة بن زيد وعبد الله بن عباس من أصاغر الصحابة.
والقاعدة تقول: (إذا تعارضت رواية الأكابر مع رواية الأصاغر؛ قدمت أحاديث الأكابر على أحاديث الأصاغر)، وهذا نفسه ابن عباس يسلم بذلك ويقول: (أنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني).
والسبب في هذا: أن الصغار ربما كانوا متأخرين، وقد تخفى عليهم بعض السنن، ويحكون البعض ويغفلون عن البعض، وهذا هو ما قرره العلماء، إلا في بعض المواطن التي تكون فيها رواية الأصاغر موثقة بدلالة الحال أو السياق، على حسب ألفاظ الأحاديث، كما قال أنس: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجاً).
فهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً برواية الأصاغر، لكنه جاء بمقطع واضح على أنه سمع بأذنه وعقل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: نقول: إن أحاديث النهي من رواية الأكابر، وأحاديث الجواز من رواية الأصاغر، فترجح أحاديث النهي على أحاديث الجواز.
ثانياً: إن أحاديث النهي متصلة؛ لأن عبادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يروي بواسطة، ويحتمل أن يكون أسامة روى بواسطة ولم يرو مباشرة، ولذلك قالوا: تقدم الرواية المباشرة على الرواية بواسطة.
أما الترجيح من جهة المتن، فمن وجوه: الوجه الأول: أن الاستدلال بحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من باب المفهوم لا من باب المنطوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، ونحن نرى أن الربا يجري في النسيئة، ومفهومه: أنه سكت عن ربا الفضل، فجاء منطوقاً به في أحاديث أخرى، فيقدم المنطوق على المفهوم.
ومن المعلوم أن حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) لا يصح دليلاً لـ