شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الصلاة
شرح سنن أبي داود [110]
الحلقة (141)
شرح سنن أبي داود [110]
الطمأنينة في الركوع والسجود من أركان الصلاة، فينبغي للمسلم أن يطمئن في ركوعه وسجوده، حتى لا تبطل صلاته، فقد جاء في حديث المسيء صلاته أنه كرر الصلاة عدة مرات، وذلك بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يقيم صلبه في الركوع، ولم يكن يطمئن في ركوعه ولا سجوده، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الصحيحة المجزئة هي التي يتحقق فيها الاطمئنان في أركانها وواجباتها.
الدعاء بين السجدتين
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الدعاء بين السجدتين. حدثنا محمد بن مسعود حدثنا زيد بن الحباب حدثنا كامل أبو العلاء حدثني حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني) ]. قوله: [ باب الدعاء بين السجدتين ] يعني: في الصلاة، فهذه الترجمة تتعلق بالدعاء الذي يكون بين السجدتين. وقد أورد في ذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)]، وهذه الخمس الكلمات: كلها مما يحتاج إليه العبد. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي قال: (هذه لربي فما لي؟) أنه أرشده عليه الصلاة والسلام إلى أن يدعو بمثل هذا الدعاء أو بما هو قريب من هذا الدعاء، وقد مر ذلك قريباً. قوله: [ (فاغفر لي) ] أي: اغفر ذنوبي. وقوله: [ (وارحمني) ] أي: اشملني برحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء. وقوله: [ (وعافني) ] أي: ارزقني العافية والسلامة من كل شر في الدنيا والآخرة. وقوله: [ (واهدني) ] أي: ثبتني على ما حصل لي من الهدى وزدني هدى إلى هدى؛ لأن طلب الهداية يشمل أمرين: التثبيت على ما قد حصل، والمزيد مما لم يحصل أو حصول زيادة على ما قد حصل، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، فهو يطلب الثبات على الهداية الحاصلة والمزيد من الهداية. وقوله: [ (وارزقني) ] أي: ارزقني رزقاً حلالاً أستفيد منه في دنياي وأخراي. فهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يدل على أن هذا الدعاء يكون بين السجدتين، وهو مشتمل على هذه الخمس الدعوات التي العبد بحاجة إليها وحاجته إليها عظيمة ولا سيما الهداية، ولهذا جاء في سورة الفاتحة طلب الهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] في كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لأن حاجة الناس إلى ذلك فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأن هذا هو الذي فيه الزاد إلى الحياة الأخروية، وهو الهداية إلى الصراط المستقيم والثبات على طاعة الله وعلى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي...)
قوله: [ حدثنا محمد بن مسعود ]. محمد بن مسعود ثقة، أخرج حديثه أبو داود وحده. [ حدثنا زيد بن الحباب ]. زيد بن الحباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة و مسلم وأصحاب السنن. [ حدثنا كامل أبو العلاء ]. كامل أبو العلاء صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ حدثني حبيب بن أبي ثابت ]. حبيب بن أبي ثابت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعيد بن جبير ]. سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عباس ]. هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو و عبد الله بن الزبير ، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
رفع النساء إذا كن مع الرجال رءوسهن من السجدة
شرح حديث (من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب رفع النساء إذا كن مع الرجال رءوسهن من السجدة. حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري ، عن مولى لأسماء ابنة أبي بكر ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم، كراهية أن يرين من عورات الرجال) ]. قوله: [ باب رفع النساء إذا كن مع الرجال رءوسهن من السجدة ]. يعني: متى يكون ذلك؟ وهل يكون حالهن مثل حال الرجال؟ أي: إذا انقطع صوت الإمام رفعن رءوسهن كما يرفع الرجال أو أنهن يتأخرن؟ والمقصود من الترجمة أنهن يتأخرن، وذلك لعلة، وهي: كون ملابس الرجال فيها ضيق وقلة، فكان الواحد منهم يلبس الثوب الواحد، والمقصود بالثوب اللفافة التي يلفها على نفسه؛ لأن الثوب يطلق على ما هو أعم من القميص، فاللفافة التي يلفها على نفسه يقال لها: ثوب، وكان في ثيابهم قصر أو قلة، فقد تبدو عورتهم إذا سجدوا، فأمر النساء إذا صلين مع الرجال ألا يرفعن رءوسهن إلا بعدما يرفع الرجال رءوسهم ويجلسون، أي: يتأخرن قليلاً، وهذا إنما هو في هذه الحالة. أما إذا كان الأمر ليس فيه شيء مما يحذر فيرفعن كما يرفع الرجال؛ لأن هذا النهي أو أرشادهن إلى ألا يفعلن ذلك إنما هو لئلا تحصل رؤية عورة أحد من الرجال. وقد مر بنا حديث عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله عنه الصحابي الصغير، الذي كان يصلي بقومه وعليه ثوب ضيق، وكان إذا سجد أحياناً تبدو عورته، فذكر أن امرأة قالت: (غطوا سوءة إمامكم) فاشتروا له قميصاً، فكان يصلي بهم به وقد فرح بذلك فرحاً شديداً لأنه حصل على قميص، وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من القلة والفاقة، وهم خير الناس رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. قوله: [ (فلا ترفع رأسها) ] يعني: من السجود. وقوله: [ (حتى يرفع الرجال رءوسهم) ] يعني: حتى يستقر الرجال ويجلسوا، فعند ذلك يرفعن رءوسهن. قوله: [ (كراهية أن يرين من عورات الرجال) ] يعني: هذا النهي لكراهية أن ترى النساء من عورات الرجال، وذلك للضيق وشدة الحاجة وعدم السعة في الملابس. فقوله صلى الله عليه وسلم: [ (من كان منكن تؤمن بالله واليوم الآخر) ] فيه حث وترغيب وتنبيه للمرأة التي تؤمن بالله واليوم الآخر على أن تبتعد عن أن ترى العورات، وأن تتعرض لرؤية العورات.
مناسبة ذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله
قوله: [ (من كانت منكن تؤمن بالله) ] الإيمان بالله هو أساس كل شيء، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر كل هذا تابع للإيمان بالله عز وجل، فيؤمن المرء بالله وبما جاء عن الله، وبما أخبر الله تعالى به من ملائكة وإرسال رسل مضوا وإنزال كتب مضت، ويوم آخر يأتي ويجازى الناس فيه بأعمالهم، وقضاء الله تعالى وقدره، ولكنه نص على الإيمان بالله عز وجل وأتى بعده باليوم الآخر؛ لأن الذي يخاف الله عز وجل ويخشى من ذلك اليوم إذا ذكر به فإنه يخاف من الحساب فيه ومن العقوبة، فيحسب لذلك حساباً، ولهذا يأتي كثيراً في النصوص ذكر الإيمان بالله ومعه الإيمان باليوم الآخر؛ لأن فيه التنبيه على الجزاء والحساب، وأن الإنسان سيحاسب، ويجازى على ما قدم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وكما جاء في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). إذاً: التنصيص على اليوم الآخر مع الإيمان بالله لأنه يوم الجزاء والحساب، ففيه تنبيه عى الجزاء والعقوبة لمن حصل منه المخالفة.
شاهد يشهد لهذا الحديث
والحديث في سنده رجل مجهول، وهو مولى أسماء بنت أبي بكر ، وقد أخرج له أبو داود ، لكن معنى الحديث جاءت له شواهد تدل على ما دل عليه، فليس التعويل على ما جاء في هذا الإسناد، بل قد سبق أن مر بنا حديث في [باب الرجل يعقد الثوب في قفاه ثم يصلي] عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: (لقد رأيت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء! لا ترفعن رءوسكن حتى يرفع الرجال)، وذلك حتى لا يرين العورات، فهو يدل على مثل ما دل عليه الحديث الذي معنا الذي فيه الرجل المجهول. وهذا النهي مقيد بهذا الأمر، فإذا لم يكن هناك شيء من هذا وكانت الثياب ساترة وكافية وليس فيها انكشاف عورة فليس هناك بأس.
تراجم رجال إسناد حديث (من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم)
قوله: [ حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ]. محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود وحده. [ حدثنا عبد الرزاق ]. هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني يماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أنبأنا معمر ]. هو معمر بن راشد الأزدي البصري، ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري ]. عبد الله بن مسلم أخي الزهري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ عن مولى لأسماء ابنة أبي بكر ]. مولى أسماء مجهول، أخرج له أبو داود وحده. [ عن أسماء بنت أبي بكر ]. هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي صحابية أخرج لها أصحاب الكتب الستة، وهي التي اجتمع لها إسلام أبيها وجدها وابنها، فأبوها أبو بكر بن أبي قحافة ، وجدها أبو قحافة ، وابنها عبد الله بن الزبير ، وكل هؤلاء صحابة اجتمع لهم الإسلام والصحبة. ومولى أسماء بنت أبي بكر قد يكون هو عبد الله بن كيسان كما صرح به المزي في التهذيب (8/517) والحافظ ابن حجر في تهذيبه. ولكن الحافظ قال في التقريب في باب المبهمات: عبد الله بن مسلم أخو الزهري عن مولى أسماء يحتمل أن يكون عبد الله بن كيسان . وقال المنذري : مولى أسماء مجهول، والحديث تفرد به أبو داود . و المزي لم يذكر من الرواة عن أسماء إلا عبد الله بن كيسان . و عبد الله بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. و ابن حجر يقول: يحتمل أن يكون هو، وعلى كل فالحديث ثابت، سواءٌ أكان المبهم ابن كيسان -وهو ثقة ولا إشكال- أم كان غيره؛ لأن الحديث لم يأت من هذه الطريق وحدها بل جاء من غيرها. والشيخ الألباني صححه.
طول القيام من الركوع وبين السجدتين
شرح حديث (أن رسول الله كان سجوده وركوعه وقعوده وما بين السجدتين قريباً من السواء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب طول القيام من الركوع وبين السجدتين. حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن البراء رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سجوده وركوعه وقعوده وما بين السجدتين قريباً من السواء) ]. قوله: [ باب طول القيام من الركوع وبين السجدتين ] يعني أن هذين الموضعين من مواضع الصلاة لا يخففان، بل يطمأن فيهما ويطال فيهما القيام والجلوس؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، وعلى هذا فما جاء عن بعض أهل العلم من تخفيفهما تخفيفاً شديداً ليس بصحيح، بل الثابت الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام هو تطويلهما، وقد جاءت في ذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومنها حديث البراء أنه قال: (كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتداله من الركوع وسجوده وجلوسه بين السجدتين قريباً من السواء. ومعناه: أن ذلك وإن لم يكن متماثلاً تماماً إلا أن فيه شيئاً من التقارب، ومعنى هذا أنه لا يخفف ما بعد الركوع وما بين السجدتين، بل يطمأن ويستقر فيهما، فكون ركوعه واعتداله من الركوع وسجوده واعتداله من السجود قريباً من السواء يدل على أن هذين الموضعين لا يخففان، وإنما هما كغيرهما من بقية الأركان التي هي الركوع والسجود، وهي متقاربة وإن لم تكن متماثلة تماماً؛ لأن قوله: [ (قريباً من السواء) ] يشعر بأن بينهما شيئاً من الفرق، لكنه ليس فرقاً كبيراً، بل هي متقاربة، وعلى كل فالإطالة موجودة بين بعد الركوع وبين السجدتين.
بيان الخطأ في لفظ (وقعوده وما بين السجدتين)
قوله: [ (وقعوده وما بين السجدتين) ]. لعل الذي يبدو أنه قعوده ما بين السجدتين، فليس القعود شيئاً وما بين السجدتين آخر؛ لأن الكلام كله يتعلق يما بين السجدتين، فالعبارة ليست واضحة من ناحية العطف، ولا يستقيم إلا أن تكون العبارة: قعوده ما بين السجدتين، أو: قعوده بين السجدتين، وسيأتي في بعض الروايات التنصيص على ذلك: (وقعوده بين السجدتين)، وفي بعض النسخ: (وقعوده ما بين السجدتين)، فتصير الواو زائدة، وزيادتها هي الظاهرة؛ لأن قعوده ما بين السجدتين المقصود به الجلوس بين السجدتين، وهو الذي ترجم له المصنف.
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان سجوده وركوعه وقعوده وما بين السجدتين قريباً من السواء)
قوله: [ حدثنا حفص بن عمر ]. حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و النسائي . [ حدثنا شعبة ]. هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الحكم ]. هو الحكم بن عتيبة الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن أبي ليلى ]. هو عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن البراء ]. هو البراء بن عازب رضي الله عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت و حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يكبر ويسجد، وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم) ]. قوله: [ (ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام) ] يعني أنه كان يخفف ولكنه مع تخفيفه لا يكون نقص في الصلاة، بل هي في تمام، فكان لا يطيل الإطالة الشديدة، وتخفيفه ليس فيه إخلال، وإنما هو في تمام، فهو إيجاز مع تمام، فليس هناك تطويل شديد، وليس هناك إيجاز شديد بحيث يحصل معه إخلال، فقد جمع بين الإيجاز والتمام في صلاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. قوله: [ (وكان إذا قال: سمع الله لمن حمده قام) ] أي: وقف قائماً، [ (حتى نقول: قد أوهم) ] أي: لعله قد نسي، وكان يظن أنه قد نسي الركوع من جهة طول قيامه، وهذا يدل على طول القيام، فقوله: [ (قد أوهم) ] أي: أوهم غيره بالنسيان، أو أُوهم، أي: حصل له نسيان، وجاء في بعض الروايات: (حتى أقول: قد نسي)، والمقصود بقوله: (أقول) أي: في نفسي، فلا يقول بلسانه وإنما يقول في نفسه، أو (حتى نقول) أي: نظن في أنفسنا أنه نسي، وذلك يدل على طول القيام، وهو واضح في المطابقة لما ترجم له المصنف من طول القيام بعد الركوع وطول الجلوس بين السجدتين. قوله: [ (وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم) ] أي: حتى نقول: قد نسي.
تراجم رجال إسناد حديث (ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله ...)
قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ]. هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا حماد ]. هو حماد بن سلمة ، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ أخبرنا ثابت ]. هو ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و حميد ]. هو حميد بن أبي حميد الطويل ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أنس بن مالك ]. هو أنس بن مالك رضي الله عنه الصحابي الجليل، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عنه صلى الله عليه وسلم. وهذا السند سند رباعي؛ لأنهم وإن كانوا خمسة إلا أن اثنين يعتبران في طبقة واحدة؛ لأن حماداً يرويه عن ثابت ويرويه عن حميد بن أبي حميد الطويل ، فهو من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.
شرح حديث (رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فوجدت قيامه كركعته وسجدته...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد و أبو كامل -دخل حديث أحدهما في الآخر- قالا: حدثنا أبو عوانة ، عن هلال بن أبي حميد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: (رمقت محمداً صلى الله عليه وسلم -وقال أبو كامل : رسول الله صلى الله عليه وسلم- في الصلاة فوجدت قيامه كركعته، وسجدته واعتداله في الركعة كسجدته، وجلسته بين السجدتين، وسجدته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء). قال أبو داود : قال مسدد : (فركعته واعتداله بين الركعتين، فسجدته فجلسته بين السجدتين، فسجدته فجلسته بين التسليم والانصراف قريباً من السواء) ]. قوله: [ (وسجدته ما بين التسليم والانصراف) ]، إما أنه تصحيف وإما أنه خطأ بلا شك، فإنه ليس له معنى، فإما أن تكون الجملة (وما بين التسليم والانصراف) أو (وجلسته ما بين التسليم والانصراف)، فإن التسليم والانصراف ليس بينهما سجدة، والمقصود ما بين التسليم والانصراف. والرواية الثانية توضح ذلك، وهي قوله: [ (فجلسته ما بين التسليم والانصراف) ] أي: الانصراف إلى المأمومين بعد السلام، فهذا يدل على أنه في الرواية الأولى خطأ، فإما أن قوله: [ (وسجدته) ] بدله (فجلسته)، أو أنه على ما هو عليه ولكن هناك واو سابقة؛ لأن التسليم والانصراف ليس بينهما سجود، وإنما السجود سجدتان، ومعناه أن الركوع والسجود وما بعد الركوع وما بين السجدتين وما بين التسليم والانصراف متماثل.
حكم قول (سيدنا) للنبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [ (رمقت محمداً صلى الله عليه وسلم) ] أي: نظرت وقدرت. قوله: [ وقال أبو كامل : رسول الله صلى الله عليه وسلم ]. أي أن شيخي أبي داود أحدهما قال: (محمد عليه الصلاة والسلام) والثاني قال: (رسول الله) والفرق هو في التعبير فقط: بـ (محمد) و(الرسول)، هذا هو الفرق والنتيجة واحدة، لكن الكلام على الفرق في العبارة، وهذا يدلنا على دقة المحدثين ومحافظتهم على الألفاظ، حتى الشيء الذي لا يترتب عليه اختلاف في المعنى ينصون عليه، فأحد الشيخين في طريقه قال: [رمقت محمداً صلى الله عليه وسلم]، والشيخ الثاني قال: [رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم] والفرق هو في التعبير بين (محمد) وبين (رسول الله) عليه الصلاة والسلام، بين اسمه وبين وصفه صلى الله عليه وسلم. ويأتي في بعض الأسانيد أن أحد الرواة يقول: (النبي صلى الله عليه وسلم) والثاني يقول: (رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولا فرق بين التعبير بالنبي والرسول فالنتيجة واحدة، ولكن هذا يدلنا على دقتهم وحرصهم على المحافظة على الألفاظ وعنايتهم الفائقة رحمة الله عليهم. وهذا يبين لنا أنه لو كان هناك تعبير بلفظ (سيدنا) مع ذكر الرسول أو ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، لو كان موجوداً عند الصحابة لذكروه ونصوا عليه، فلو كان لفظ (سيدنا) سائغاً لما تركوه، وعلى هذا فهذه الآلاف المؤلفة من الأحاديث يقولون في كل حديث منها: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا يقولون: (قال سيدنا رسول الله) وهو (سيدنا) لكن التعبير ما وجد، والسلف ما كانوا يفعلون ذلك، وهذا إنما وجد في الأزمنة المتأخرة ولا سيما عند كثير من الصوفية، فإنهم يقولون: سيدي، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما كانوا يقولون ذلك، وإن كان هو سيدهم وسيد البشر وسيد الخلق أجمعين في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، وقد قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر)، فهو سيدنا وسيد الخلق، وكون الإنسان لا يعبر بسيدنا ليس فيه جفاء، وليس فيه نقص؛ لأن هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فما كانوا يستعملون ذلك وما كانوا يقولونه، وهذه الأحاديث التي في البخاري و مسلم وكتب السنن وغيرها كلها فيها: (قال رسول الله) وليس فيها: (قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). فالشاهد أنهم لما كانوا ينصون على أن هذا قال: (محمد صلى الله عليه وسلم) وهذا قال: (رسول الله صلى الله عليه وسلم) دل ذلك على أنه لو كان هناك شيء يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما تركونه، فهذا يدلنا على دقتهم، ويدلنا على أن هذا اللفظ الذي وجد في هذا الزمان عند كثير من الصوفية ومن يشابههم ويقلدهم من الأمور المحدثة التي ليست من هدي السلف ولا من طريقة السلف، مع اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وسيد الناس أجمعين، لكن لم يكن خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين حين يذكرون اسمه يقولون: (سيدنا)، والذين لا يفعلون ذلك هم متبعون للصحابة وعلى طريقة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولو كان الصحابة يأتون بهذا ويحافظون عليه لوجب على غيرهم أن يحافظوا عليه كما حافظوا. فالحاصل أن هذا التفريق بين العبارتين دال على عنايتهم، وأنهم كانوا لا يتركون شيئاً إلا ذكروه فيما يتعلق بالرواية حتى لو لم يختلف المعنى. والغالب في الاستعمال أن يقال: (رسول الله عليه الصلاة والسلام) ويقال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم)، وذكره باسمه قليل، ويذكر بلقبه فيقال: (أبو القاسم صلى الله عليه وسلم)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في موضع جاء في الحديث قول الصحابي فيه: (أبو القاسم) فقال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكنيته حسن، وبوصف الرسالة أحسن، يعني أن يقال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أحسن من أن يقال: (أبو القاسم)، وهذا حسن وهذا حسن لكن هذا أحسن.
يتبع