
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (7)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 116 الى صــ 125
الحلقة (319)
قوله تعالى فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين قوله تعالى فإن كذبوك شرط ، والجواب فقل ربكم ذو رحمة واسعة . أي من سعة رحمته حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا . ثم أخبر بما أعده لهم في الآخرة من العذاب فقال : ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين .
وقيل : المعنى ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أراد حلوله في الدنيا .
قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
قوله تعالى سيقول الذين أشركوا قال مجاهد : يعني كفار قريش .
قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء يريد البحيرة والسائبة والوصيلة . أخبر الله عز وجل بالغيب عما سيقولونه ; وظنوا أن هذا متمسك لهم لما لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما كانوا عليه . والمعنى : لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحل لهم فينتهوا - فأتبعناهم على ذلك . فرد الله عليهم ذلك فقال : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا .
أي أعندكم دليل على أن هذا كذا ؟ إن تتبعون إلا الظن في هذا القول .
وإن أنتم إلا تخرصون لتوهموا ضعفتكم أن لكم حجة . وقوله ولا آباؤنا عطف على النون في أشركنا . ولم يقل نحن ولا آباؤنا ; لأن قوله ولا قام مقام توكيد المضمر ; ولهذا حسن أن يقال : ما قمت ولا زيد .
قوله تعالى قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ ص: 117 ] قوله تعالى قل فلله الحجة البالغة أي التي تقطع عذر المحجوج ، وتزيل الشك عمن نظر فيها . فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد ، وإرساله الرسل والأنبياء ; فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات ، وأيد الرسل بالمعجزات ، ولزم أمره كل مكلف . فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد ، إلا من ارتضى من رسول . ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه . وقد لبست المعتزلة بقوله : لو شاء الله ما أشركنا فقالوا : قد ذم الله هؤلاء الذين جعلوا شركهم عن مشيئته . وتعلقهم بذلك باطل ; لأن الله تعالى إنما ذمهم على ترك اجتهادهم في طلب الحق . وإنما قالوا ذلك على جهة الهزء واللعب .
نظيره وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم . ولو قالوه على جهة التعظيم والإجلال والمعرفة به لما عابهم ; لأن الله تعالى يقول : ولو شاء الله ما أشركوا . وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله . ولو شاء لهداكم أجمعين . ومثله كثير . فالمؤمنون يقولونه لعلم منهم بالله تعالى .
قوله تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قوله تعالى قل هلم شهداءكم أي قل لهؤلاء المشركين أحضروا شهداءكم على أن الله حرم ما حرمتم . و هلم كلمة دعوة إلى شيء ، ويستوي فيه الواحد والجماعة والذكر والأنثى عند أهل الحجاز ، إلا في لغة نجد فإنهم يقولون : هلما هلموا هلمي ، يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال . وعلى لغةأهل الحجاز جاء القرآن ، قال الله تعالى : والقائلين لإخوانهم هلم إلينا يقول : هلم أي احضر أو ادن . وهلم الطعام ، أي هات الطعام . والمعنى هاهنا : هاتوا شهداءكم ، وفتحت الميم لالتقاء الساكنين ; كما تقول : رد يا هذا ، ولا يجوز ضمها ولا كسرها . والأصل عند الخليل " ها " ضمت إليها " لم " ثم حذفت الألف لكثرة الاستعمال . وقال غيره . الأصل " هل " زيدت عليها " لم " . وقيل : هي على لفظها تدل على [ ص: 118 ] معنى هات . وفي كتاب العين للخليل : أصلها هل أؤم ، أي هل أقصدك ، ثم كثر استعمالهم إياها حتى صار المقصود بقولها احضر كما أن تعال أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل ; فكثر استعمالهم إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي تعال .
قوله تعالى فإن شهدوا أي شهد بعضهم لبعض .
فلا تشهد معهم أي فلا تصدق أداء الشهادة إلا من كتاب أو على لسان نبي ، وليس معهم شيء من ذلك .
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون فيه أربع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى قل تعالوا أتل أي تقدموا واقرءوا حقا يقينا كما أوحى إلي ربي ، لا ظنا ولا كذبا كما زعمتم . ثم بين ذلك فقال ألا تشركوا به شيئا يقال للرجل : تعال ، أي تقدم ، وللمرأة تعالي ، وللاثنين والاثنتين تعاليا ، ولجماعة الرجال تعالوا ، ولجماعة النساء تعالين ; قال الله تعالى : فتعالين أمتعكن . وجعلوا التقدم ضربا من التعالي والارتفاع ; لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال ، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم ; واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي ; قاله ابن الشجري .
الثانية : قوله تعالى ما حرم الوجه في " ما " أن تكون خبرية في موضع نصب [ ص: 119 ] ب أتل والمعنى : تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم ; فإن علقت عليكم ب حرم فهو الوجه ; لأنه الأقرب وهو اختيار البصريين . وإن علقته ب أتل فجيد لأنه الأسبق ; وهو اختيار الكوفيين ; فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم .
ألا تشركوا في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول ، أي أتل عليكم ألا تشركوا ; أي أتل عليكم تحريم الإشراك ، ويحتمل أن يكون منصوبا بما في عليكم من الإغراء ، وتكون عليكم منقطعة مما قبلها ; أي عليكم ترك الإشراك ، وعليكم إحسانا بالوالدين ، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش . كما تقول : عليك شأنك ; أي الزم شأنك . وكما قال : عليكم أنفسكم قال جميعه ابن الشجري . وقال النحاس : يجوز أن تكون " أن " في موضع نصب بدلا من " ما " أي أتل عليكم تحريم الإشراك . واختار الفراء أن تكون لا للنهي ; لأن بعده ولا .
الثالثة : هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله . وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل . قال الله تعالى : لتبيننه للناس ولا تكتمونه . وذكر ابن المبارك : أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال : قال ربيع بن خيثم لجليس له : أيسرك أن تؤتى بصحيفة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يفك خاتمها ؟ قال نعم . قال فاقرأ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم فقرأ إلى آخر الثلاث الآيات . وقال كعب الأحبار : هذه الآية مفتتح التوراة : " بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " الآية . وقال ابن عباس : هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة " الأنعام " أجمعت عليها شرائع الخلق ، ولم تنسخ قط في ملة . وقد قيل : إنها العشر كلمات المنزلة على موسى .
الرابعة : قوله تعالى وبالوالدين إحسانا الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما . و إحسانا نصب على المصدر ، وناصبه فعل مضمر من لفظه ; تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا .
الخامسة قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم من إملاق الإملاق الفقر : أي لا تئدوا - من الموءودة - بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم . وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر ، كما هو ظاهر الآية . أملق أي افتقر . وأملقه أي أفقره ; فهو لازم ومتعد . وحكى النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم . وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق ; يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه . وذكر أن عليا رضي الله عنه قال لامرأته : [ ص: 120 ] أملقي من مالك ما شئت . ورجل ملق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه . فالملق لفظ مشترك يأتي بيانه في موضعه .
السادسة : وقد يستدل بهذا من يمنع العزل ; لأن الوأد يرفع الموجود والنسل ; والعزل منع أصل النسل فتشابها ; إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا ; ولذلك قال بعض علمائنا : إنه يفهم من قوله عليه السلام في العزل : ذلك الوأد الخفي الكراهة لا التحريم وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم . وقال بإباحته أيضا جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء ; لقوله عليه السلام : لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا . وقد فهم منه الحسن ومحمد بن المثنى النهي والزجر عن العزل . والتأويل الأول أولى ; لقوله عليه السلام : وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء . قال مالك والشافعي : لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها . وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذتها ، ومن حقها في الولد ، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين ، إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها ، إذ لا حق لها في شيء مما ذكر .
السابعة قوله تعالى ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن نظيره وذروا ظاهر الإثم وباطنه . فقوله : ما ظهر نهي عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي . وما بطن ما عقد عليه القلب من المخالفة . وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء . وما ظهر نصب على البدل من الفواحش وما بطن عطف عليه .
الثامنة : قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق الألف واللام في النفس لتعريف الجنس ; كقولهم : أهلك الناس حب الدرهم والدينار . ومثله [ ص: 121 ] إن الإنسان خلق هلوعا ألا ترى قوله سبحانه : إلا المصلين ؟ وكذلك قوله : والعصر إن الإنسان لفي خسر لأنه قال : إلا الذين آمنوا وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة ، مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله . وهذا الحق أمور : منها منع الزكاة وترك الصلاة ; وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة . وفي التنزيل فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وهذا بين . وقال صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة . وقال عليه السلام : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما . أخرجه مسلم . وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به . وسيأتي بيان هذا في " الأعراف " . وفي التنزيل : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا الآية . وقال : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية . وكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم وسعى في الأرض فسادا بانتهاب الأهل والمال والبغي على السلطان والامتناع من حكمه يقتل . فهذا معنى قوله : إلا بالحق . وقال عليه السلام : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين . وروى أبو داود والنسائي عن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة . وفي رواية أخرى لأبي داود قال : من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما . في البخاري [ ص: 122 ] في هذا الحديث وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما . خرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
التاسعة قوله تعالى ذلكم إشارة إلى هذه المحرمات . والكاف والميم للخطاب ، ولا حظ لهما من الإعراب .
وصاكم به الوصية الأمر المؤكد المقدور . والكاف والميم محله النصب ; لأنه ضمير موضوع للمخاطبة . وفي وصى ضمير فاعل يعود على الله . وروى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال : علام تقتلوني ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد حصانة فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي به ، ولا ارتددت منذ أسلمت ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون !
العاشرة قوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن أي بما فيه صلاحه وتثميره ، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه . وهذا أحسن الأقوال في هذا ; فإنه جامع . قال مجاهد : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن بالتجارة فيه ، ولا تشتر منه ولا تستقرض .
الحادية عشرة : قوله تعالى : حتى يبلغ أشده يعني قوته ، وقد تكون في البدن ، وقد تكون في المعرفة بالتجربة ، ولا بد من حصول الوجهين ; فإن الأشد وقعت هنا مطلقة وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة " النساء " مقيدة ، فقال : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح ، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد ; فلو مكن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهوته وبقي صعلوكا لا مال له . وخص اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الأبناء لآبائهم فكان الاهتبال بفقيد الأب أولى . وليس بلوغ الأشد مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن ; لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة . وخص اليتيم بالذكر لأن خصمه الله . والمعنى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ على الأبد حتى يبلغ أشده . وفي الكلام حذف ; فإذا بلغ أشده وأونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله .
واختلف العلماء في أشد اليتيم ; فقال ابن زيد : بلوغه . وقال أهل المدينة . بلوغه وإيناس رشده . وعند أبي حنيفة : خمس وعشرون سنة . قال ابن العربي : وعجبا من أبي حنيفة ، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياسا ولا نظرا وإنما تثبت نقلا ، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة ، ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس ، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين . وقد قيل : إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد ; كما قال سحيم بن وثيل :
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشؤون
يروى " نجدني " بالدال والذال . والأشد واحد لا جمع له ; بمنزلة الآنك وهو الرصاص . وقد قيل : واحده شد ; كفلس وأفلس . وأصله من شد النهار أي ارتفع ; يقال : أتيته شد النهار ومد النهار . وكان محمد بن الضبي ينشد بيت عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال آخر :
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
وكان سيبويه يقول : واحده شدة . قال الجوهري : وهو حسن في المعنى ; لأنه يقال : بلغ الغلام شدته ، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل ، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم ; من قولهم : يوم بؤس ويوم نعم . وأما قول من قال : واحده شد ; مثل كلب وأكلب ، وشد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس . كما يقولون في واحد الأبابيل : إبول ، قياسا على عجول ، وليس هو شيئا سمع من العرب . قال أبو زيد : أصابتني شدى على فعلى ; أي شدة . وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة .
الثانية عشرة قوله تعالى وأوفوا الكيل والميزان بالقسط أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء . والقسط : العدل .
لا نكلف نفسا إلا وسعها أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن . وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ [ ص: 124 ] والتحرز وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين ، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه . وقيل : الكيل بمعنى المكيال . يقال : هذا كذا وكذا كيلا ; ولهذا عطف عليه بالميزان . وقال بعض العلماء : لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطي بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له ، ولم يكلفه الزيادة ; لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها . وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه ; لما في النقصان من ضيق نفسه . وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبد الله بن عباس أنه قال : ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم ، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو . وقال ابن عباس أيضا : إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم : الكيل والميزان .
الثالثة عشرة قوله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا يتضمن الأحكام والشهادات . ولو كان ذا قربى أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم . كما تقدم في " النساء " .
وبعهد الله أوفوا عام في جميع ما عهده الله إلى عباده . ويحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين . وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به .
ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون تتعظون .
الرابعة عشرة قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم ; فإنه لما نهى وأمر حذر هنا عن اتباع غير سبيله ، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نبينه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف . وأن في موضع نصب ، أي واتل أن هذا صراطي . عن الفراء والكسائي . قال الفراء : ويجوز أن يكون خفضا ، أي وصاكم به وبأن هذا صراطي . وتقديرها عند الخليل وسيبويه : ولأن هذا صراطي ; كما قال : وأن المساجد لله وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي ( وإن هذا ) بكسر الهمزة على الاستئناف ; أي الذي ذكر في الآيات صراطي مستقيما . وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب ( وأن هذا ) بالتخفيف . والمخففة مثل المشددة ، إلا أن فيه ضمير القصة والشأن ; أي وأنه هذا . فهي في موضع رفع . ويجوز النصب . ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد ; كما قال عز وجل : فلما أن جاء البشير [ ص: 125 ] والصراط : الطريق الذي هو دين الإسلام . مستقيما نصب على الحال ، ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه . فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة . وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار .
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله أي تميل . روى الدارمي أبو محمد في مسنده بإسناد صحيح : أخبرنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا عاصم ابن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا ، ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم قرأ هذه الآية وأخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا ، وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن يساره ، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال : هذا سبيل الله ، ثم تلا هذه الآية : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام . هذه كلها عرضة للزلل ، ومظنة لسوء المعتقد ; قاله ابن عطية .
