حكم الاشتراط في الإسقاط والمعاوضة
قوله: (فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح إن لم يكن شرطاه): أي إذا قال له: لا أُقر لك حتى تتنازل لي عن نصف المبلغ، أو لا أُقر لك حتى تستأجر بهذا المبلغ مني عمارتي، ولا أُقر لك حتى تفعل كذا وكذا؛ لم يجز، لأنه صالحه ببعض ماله عن البعض، وهذا الشرط يُتوصّل به إلى أكل أموال الناس بدون رضاً منهم، لأنه ليس من حقه إذا كان مقراً لي بالألف أن يُلزمني باستئجار داره، وليس من حقه أن يُلزمني باستئجار سيارته أو مركبه أو عمارته، وليس من حقه أن يلزمني بشراء كتبه أو شراء العين التي عنده.
فإذا ألزمه بها لم يكن ذلك جائزاً ولا مشروعاً.
والمسلمون عند شروطهم، إلا إذا كانت الشروط تخالف شرع الله، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل)، فأبطل صلى الله عليه وآله وسلم الشروط التي يُتوصَّل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، أو إلزامهم بشيءٍ إكراهاً وبدون رضاً منهم.
فقوله: (صح إن لم يكن شرطاه) إذا وقع الصلح على سبيل المشارطة لم يصح؛ لأن الشرط مُصَادِم للشرع ولا يُقر عليه، ولا يُعمل به
حكم صلح وإسقاط من لا يصح تبرعه
قال رحمه الله: [وممن لا يصح تبرعه] هذا أمرٌ ثانٍ في حال الإسقاط: إذا قلنا إنه يجوز للمسلم أن يُسقط حقّه كله، ويجوز أن يُسقط بعضه، فينبغي إذا قلت بجواز التبرُّع والإبراء من الدين أن يكون هذا التبرُّع من شخصٍ هو أهلٌ للإسقاط والإبراء، كما أنك في حال البيع والمعاوضة قلتَ: يُشترط شروط البيع، وتشترط شروط الإجارة؛ فينبغي أيضاً في الهبات إذا أسقط ماله كله أن يكون أهلاً لذلك.
مثلاً: قال: لي على محمد ألف، فقال محمد: نعم، له عليَّ ألف، فقال: ما دمت قد أقررت لي بالألف فأنا مسامحك بالألف كلها.
وكان الذي سامح ممن لا يصح تبرُّعه، فحينئذٍ لم يصح ذلك التبرع، وذلك كالمفلس لا يصح تبرعه إذا كان محجوراً عليه للفلس.
وسيأتينا في باب الحجر الذي يلي باب الصلح أن هناك أشخاصاً حجر الشرع عليهم.
أي: منعهم من التصرف بأموالهم ببذلها وهبتها، وهم ينقسمون إلى قسمين: منهم من حجر عليه الشرع ومنعه من الهِبة والتبرُّع بماله كله أو بعضه خوفاً على نفسه، أي: حجر الشرع عليه لمصلحته هو، ومنهم من حجر الشرع عليه لمصلحة غيره.
فالذين حجر الشرع عليهم لمصلحة أنفسهم: كالصغير اليتيم، إذا توفي والده وترك له مليون ريال إرثاً، ولوالده حق على الغير، وأصبح هو مكان والده، فاعترف ذلك الغير بالحق، فقال الصغير سامحتك؛ لم يصح ذلك التبرع، ولم يصح ذلك الإسقاط، بل يُنتظر إلى بلوغه، فإذا بلغ راشداً كان له حق الإسقاط أو حق المطالبة، أما وهو صغير فإنه يُخدع وتأخذه العاطفة ويتنازل عن حقه.
ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فالصغير لا يُحسن النظر لنفسه، والشرع لا يجيز تبرع مثل هذا.
وكذلك إذا كان صغيراً لمصلحة نفسه كالأيتام، أو كان مجنوناً، لأن المجنون لا يحسن التصرف في ماله، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده، فلو أن المجنون يُعطى ماله، لأضاع ماله في طرفة عين، ولربما حرق ماله، ولربما قطّعه؛ لأنه لا يعي ولا يُدرك، فلو قال مجنون لآخر: سامحتك فيما لي عليك؛ لم يصح.
كذلك يُحجر على الإنسان لحق الغير ولحق نفسه؛ كالسفيه، وهو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فهؤلاء الثلاثة: (الصغير، والمجنون، والسفيه)، هؤلاء الثلاثة يُحجر عليهم لمصلحة أنفسهم.
وهناك من يُحجر عليه لمصلحة غيره، مثل المريض مرض الموت، فإنه إذا تبرّع في مرض الموت، لم يصح تبرُّعه إلا في حدود الثلث -ثلث المال فقط- فإن تبرّع بأكثر من الثلث فهو حق للورثة، إن شاءوا أمضوا تبرعه، وإن شاءوا ردوه.
فلو أن رجلاً كان في مرض الموت وترك مليون ريال إرثاً، وقال: تصدقوا بالمليون كلها، فإنه لا ينفذ تبرعه إلا في الثلث، لحديث سعد في الصحيحين: (يا رسول الله! إن لي مال وليس لي ورثة إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا.
قال: افبثلثيه؟ قال: لا.
فبنصفه؟ قال: لا.
قال: افبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
فلو فُتح الباب للناس أن يتصدقوا لصار كل إنسان ثري يقول عند موته: آخذ مالي وأتصدق به أفضل من أن أتركه لأولادي فيكون في ذلك إضرار بالورثة، والشرع جاء بالوسطية، فأعطاه الثلث يتصدق به.
فلو أنه في مرض الموت، وجاء شخص وأقرّ له مليون ريال، فقال له: سامحتك بالمليون التي لي عليك، ثم توفي، وطالب الورثة بعد وفاته، وقالوا: فلان جاء لمورِّثنا في فراش الموت، وأقر له بحقه، فأسقط عنه وأبرأه من جميع الدين، والإبراء مستغرق للثلث وزيادة، فسألوا القاضي أن يصحح الإبراء في الثلث، وأن يرد لهم ما زاد، فإن القاضي يصححه في الثلث ويرد ما زاد.
وهذه تبين أهمية باب الصلح، فأنت تنتقل من باب إلى باب، ومن هنا ترى أن الشريعة يرتبط بعضها ببعض، كالبناء المحكم، وتجد كل كلمة وكل عبارة يتكلم بها المكلف لها حكمها، ولا يُظلم الناس، وإنما يُؤخذون بحقوقهم دون زيادة أو نقص.
فإن أبرأ وأسقط دينه والحق لغيره والمال لغيره، صحّ فيما يملك، ولم يصح فيما زاد عنه، فهذا معنى قوله: (أو ممن لا يصح تبرعه) فإن كان الإسقاط والتنازل عن الدين من شخص لا يصح منه الإسقاط ولا التنازل عن الديون كلية؛ أسقطنا ذلك الصلح على -هذا الوجه- كلية، وإن كان الإسقاط والإبراء من شخصٍ يصح تبرعه بالبعض دون البعض، صح فيما أذن الشرع به ولم يصح فيما عداه
حكم الصلح على تأجيل معجل أو تعجيل مؤجل أو على بعض المال عوضاً عن بعض
الصلح على الإسقاط والتأجيل
قال رحمه الله: قال رحمه الله: [وإن وضع بعض الحالّ وأجّل باقيه صح الإسقاط فقط] تقدَّم معنا مسألة الدين الحال والدين المؤجل، وبيّنا ذلك وذكرناه في باب القرض، وذكرنا الأحكام المترتبة على حلول الديون وتأجيلها.
فلو كان الدين حالاً وأجله.
أي: أقر به وصالحه، فأسقط عنه نصفه وجعل النصف الباقي مؤجلاً، صح الإسقاط ولم يصح التأجيل؛ لأنه لا يصح تأجيل الحال، وقد تقدّمت معنا هذه المسألة في مسألة القرض، أنه لا يصح تأجيل الديون الحالة لتعلُّق الذمم بها، وقد بينا وجه ذلك في موضعه في باب القرض.
ومراد المصنف هنا: أننا في تارةً نكون في باب البيع، وتارةً نكون في باب الإجارة، وتارةً نكون في باب الهبة، وتارةً نكون في باب القرض على نفس التفصيل الذي تقدَّم معنا، المهم أن المصنِّف يريد أن يعطيك مسألة بحيث تخرِّجها على أصلها وتعطي الحكم على الأصل الذي قرره الشرع في ذلك.
فأنت إذا عرفت أن الحالّ لا يتأجل، فإن كان الصلح قام على تأجيل الحالّ أو مؤجلٍ ومعجل، فإنه لا يصح، وكل ما سيذكره المصنف لا يخرج غالباً عن هذا الذي ذكرناه
الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً
قال رحمه الله: [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً أو بالعكس، أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه سنة، أو يبني له فوقه غرفة، أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوضٍ؛ لم يصح] قوله: (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ) هذه المسألة مثل المسألة المتقدمة.
ففي هذه الحالة يقول العلماء: لا يصح الصلح على أن يجعل بعض ماله عِوضاً عن بعض، ولا يمكن أن نسميه صلحاً، لأنه لا يمكن أن تجعل مالك في لقاء مالك، وإنما يكون الصلح بشيءٍ من خصمك لقاء شيءٍ منك، لكن أن يكون الكل منك أنت، وتجعل هذا مركباً على هذا، فليس هذا على الصلح الجاري على السَنَد المعتبر شرعاً (الصلح بالمقابلة).
فإنه إذا قال له: هذه الألف لقاء سيارتك، فيقول: قبلت، فالسيارة ملك للخصم، والألف ملكٌ لخصمه، وحصلت المقابلة، فهي معاوضة وبيعٌ تام، لكن إذا جعل بعض الألف لقاء بعض، والكل لرجل واحد، فإنه لا يصح أن يجعله بيعاً؛ لأن المال كله لشخصٍ واحد، ولا أن يجعله إجارة.
فليس من حقه أن يقول: أنا أعترف لك بالبيت على أن أسكنه شهراً، وليس من حقه أن يقول: أنا أعترف لك بالبيت على أن أسكنه سنة، ولا يصح أن يقول أيضاً: أعترف لك بالسيارة وأُقر لك بالسيارة على أن أركبها يوماً أو شهراً أو أسبوعاً أو سنة؛ لأن هذا كله مقابلة بحقي لقاء حقي، وهذا لا يمكن أن تتحقق به المقابلة المعتبرة شرعاً، فالمسألة مسألة تنظير.
وسواء جعله بالأعيان مثل أن يقول له: معجّل بمؤجل، أو مؤجل بمعجل، فالذي تعجل أسقطه في لقاء المؤجل، فالذي أسقطه والذي أخذه كلاهما حق من حقوقه، فأين المقابلة؟ فلا يصح معجل بمؤجل، ولا يصح مؤجل بمعجل، لأن فقه المسألة يدور حول معاوضة بملكية لشخص واحد ولطرف واحد وهو الخصم، ولا يصح ذلك ولا يتأتى بالمقابلة بأن صالحه بالمعجل على المؤجل أو العكس، أو على أن يعطِي له معجلاً لقاء مؤجل
قاعدة ضع وتعجل
إذا قال الرجل للرجل: هذه مائة ألف قرض لي عليك -فأعطاه المائة ألف، وفجأة طرأ عليه ظرف، فقال له: يا فلان، أعطني تسعين ألفاً الآن، وأسامحك في عشرة آلاف، فأعطاه التسعين فهذا يجوز، وهذا ليس داخل في مسألتنا، لأن هذه المسألة فيها نص وحديث فلا تدخل في باب الصلح، إنما دخلت في باب القروض والإرفاق.
وفيها حديث بني النضير حينما أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير من المدينة، جاءوا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم-: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، يعني: نحن الآن سنرتحل، ولنا ديون على أصحابك، وأنت نبي ولا تظلم الناس حقوقهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ضعوا وتعجّلوا).
أي: ضعوا بعض الدين وتعجّلوا، فهذا جُعل عند العلماء أصل في الإرفاق في الديون.
فلو أنه أسقط بعض الدين وأعطاه البعض، صح ذلك.
وبهذا أفتى حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار هذا القول الإمام ابن قدامة رحمه الله وطائفة من المحققين فقالوا: إنه يجوز لصاحب الدين أن يأخذ من المديون بعض الدين ويسامحه في البعض، بأن يكون الدين مثلاً إلى شهر رمضان، فيقول له: أعطني الآن في رجب وأنا أسامحك عن باقي ديني، فإنه يجوز ذلك ولا بأس به، إلا إذا كان في التقسيط المركّب على الأجل، لأنه إذا كان في التقسيط المركب على الأجل تمحَّض أن الإسقاط لقاء الأجل، وهذا عين المحظور الربوي الذي ذكرناه في مسألة ربا الجاهلية.
و (ضع وتعجَّل) فيها المشروع وفيها الممنوع، وقد بيّنا هذا في باب القرض، وأياً ما كان فإنه إذا قال له ذلك على سبيل المصالحة والمعاوضة لم يصح، وإذا كان على سبيل الإرفاق إسقاطاً صح؛ لأن له أن يُسقِط الكل، فيجوز له أن يسقط البعض
الصلح عن عين على الانتفاع بها
قوله: (أو أقر له ببيت)، في الحالة الأولى كانت المقابلة والمصالحة بمعاوضة، فجَعَل بعض الدين لقاء بعض، ولكن هنا يُطالبك بجزءٍ من منفعة العين المختلف فيها، والتي أقرّ لك بها، فأنت خاصمته في عمارة، وقلت: العمارة لي، فقال: بل لي، ولما ترافعتما إلى القاضي؛ أقر عند القاضي أن العمارة لك، فقال لك: أصالحك على أن أسكن هذه العمارة شهراً ثم أخليها لك أو على أن أسكن هذه العمارة سنة ثم أعطيها لك، أو على أن أركب هذه السيارة شهراً، أو أن أصل بها إلى مكة ثم أعطيكها، فكل هذا لا يجوز، لأنه لو فتح الباب في مثل هذا لاغتصب كثير من الناس أموال الآخرين، فإذا ارتفعوا إلى القاضي قال المغتصب: اركب السيارة إلى مكة وأعطه حقه، ونحو ذلك، وهذا معروف، فيصير ذلك معونة على أكل أموال الناس بالباطل، فالشريعة أغلقت هذا الباب، وحينئذٍ يقول العلماء: إنه لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة عاوضه عن جزءٍ من ماله لكن بجزء من ماله، وفيه فتح ذريعة أكل المال بالباطل.
ولذلك لا يحكم الشرع بصحة هذا النوع من المصالحة المبنية على المشارطة باستحقاق المنافع التي هي جزء الأعيان المستحقة، وكأنه صالحه بالبعض عن البعض، أو صالحه ببعض ماله عن كله.
إلا أن بعض العلماء يقول: يجوز في حال ما إذا كان ناظراً لوقفٍ أو كان ولياً لأيتام، ورأى أنه إذا خاصم هذا الخصم سيضيع المال كله، فاحتاج أن يصالحه ليقع الضرر على بعض المال دون كله، فقالوا: إن هذا يجوز للضرورة، واستدلوا على هذا بقوله تعالى في قصة الخضر مع موسى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فقالوا: إن الخضر كسر جزء السفينة وهو اللوح، وأفسد جزء السفينة لاستصلاح الكل، فقالوا: يجوز إذا كان ناظراً للوقف أو ولياً لأيتام أن يضحي بجزء المال لقاء كسب المال كله، فيجوز بالنسبة لولي الأيتام، ويكون المال مال الأيتام، ولكن لا يجوز ولا يحل لمن اغتصبه وأخذه بدون حق.
فهو في الظاهر يجوز أن ترضى بهذا دفعاً للضرر الأعظم، وذلك من باب ارتكاب أخف الضررين، لكن لا يحل للخصم أن يأخذ ذلك إذا كان يعلم أنه ليس له.
فقوله: [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه سنة أو يبني له فوقه غرفة] أي: فكل هذا لا يجوز، وقد تقدمت الأمثلة ونحن دائماً نقول: المهم في كتب الفقه أن نفهم القاعدة؛ لأن الأمثلة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ممكن الآن أن يقول: (عمارة)، بدل (بيت)، ممكن أن يقول له: أنا أصالحك على هذه العمارة على أن أسكنها سنة، أو أسكنها شهراً، أو بالسيارة، لأن المسألة مسألة المنافع، والقاعدة عندنا قاعدة المنافع، والمهم لطالب العلم أن يكون عنده نوع من الفهم للضوابط والأصول العامة، حتى يستطيع أن يخرج المسائل النازلة عليها، أما لو حفظ أنها غرفة، وحفظ أنها دار، وأنه بر أو شعير أو ملح، وانحصر في الأمثلة القديمة؛ فلن يستطيع أن يطبقها على الأمثلة المعاصرة، فأياً ما كان فالعبرة أن يصالحه بالبعض عن الكل إما عيناً وإما منفعة
الصلح على عبودية أو زوجية
قال رحمه الله: [أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية] (أو صالح مكلفاً) أي: حراً، (ليقر له بالعبودية) أي: لم يصح، لأن الحر لا يُسترق إلا بحكم الشرع.
والصلح على هذا الوجه يُحِل حراماً، ودليل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إلا صلحاً أحل حراماً)، فقالوا: إن الحرام استرقاق الحر على هذا الوجه الذي لا يأذن به الشرع، فيعتبر لاغياً وفاسداً.
قال رحمه الله: [أو امرأة لتُقر له بالزوجية بعوض لم يصح] أي: كذلك لو أنه صالح امرأة لتقر له بالزوجية لم يصح، لأن هذا ليس بنكاح شرعي، فهو يتوصل به إلى محرّم؛ لأن المرأة أجنبية عنه، فلو قال: أصالحك على أن تعترفي بأنك زوجة لي وهي ليست بامرأة له، وخاصمها عند القاضي على أنها زوجة له، وليس هناك دليل على هذا، فأوعز إليها أن تُقِر أنها زوجة له من أجل أن يُسقط حقها، فإنه لا يجوز هذا، حتى لو اصطلح مع المرأة عن مخاصمته لها على أساس أن تقر له بالزوجية؛ لأنها أقرت بحرام، لأنها ليست بزوجة له، ولم يحكم شرع الله عز وجل بكونها زوجة له، فلا وجه لتحليل ما حرم الله.
وعلى هذا فالمسألة مندرجة تحت قوله: (إلا صلحاً أحل حراماً)، فهنا الصلح يحل الحرام، لأنه يتوصل إلى رق الحر بدون وجه شرعي، ويتوصل إلى الزوجية بدون وجه حق، وذلك لم يحكم به الشرع، فيُعتبر من تحليل ما حرّم الله.
ونسأل الله العظيم أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويجعل ما تعلمناه وعلمناه موجباً لرضوانه والفوز بعظيم رحمته وجنانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه
الأسئلة
حكم الرجوع عن الإقرار
السؤال
من أقر بأمر فهل يُلزم بإقراره ولا يمكنه التراجع، أم يُستثنى من ذلك كمن أقر بالسرقة ونحوها؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أقر بحق لخصم فإنه يُطالب ويؤاخذ بهذا الإقرار، وهذه المسألة التي وردت في السؤال تُعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الإقرار.
والرجوع عن الإقرار لا يصح إلا في أحوال مستثناة، ومنها: حالة الإقرار بالحقوق الخاصة لله عز وجل، كأن يقر بالزنا -والعياذ بالله- فلو أنه أقر أنه زنا ثم رجع عن إقراره، فإنه يصح هذا الرجوع، سواء رجع قبل تنفيذ الحكم، أو رجع أثناء تنفيذ الحكم، مثلاً لو أن رجلاً بكراً أقر بالزنا، وثبت عند القاضي، ودوِّن عليه بإقراره أنه زنا، وقبل أن يُنفَّذ عليه حد الزنا رجع عن إقراره، فإن الرجوع ينفعه ويُحكم بذلك، ففي الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه: (أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد، ثم عاد وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه! فكرر أربع مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويدفعه، فلما كانت الرابعة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه؛ لأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شك هل هو عاقل أو ليس بعاقل.
فمن شروط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، فأُخبِر أنه غير سكران، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون، فأمر به فرُجم)، فلما أُقيم عليه الحد رضي الله عنه وأرضاه، ورُمي بالحجارة؛ لأنه كان ثيباً، فلما أدركه حر الحجارة فرّ وهرب إلى الحرة، وهي الحرة الشرقية التي تسمى حرّة واقم، شرقي المدينة، فلما فرّ إليها أدركه رجل فضربه وقتله، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فر، قال: (هلا تركتموه يرجع، فلعله يتوب فيتوب الله عليه)، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يتركوه؛ لأنه رجع، فاعتبر فراره بمثابة الرجوع عن إقراره.
فقالوا: إنه إذا أقر بحدٍ كالزنا أو نحوه من حقوق الله الخالصة، فإنه إذا رجع عنه قُبل رجوعه، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله).
فالزنا والجرائم المتعلقة به كاللواط -أعاذنا الله من ذلك- ونحوها من الجرائم الخاصة التي يكون الحق فيها لله عز وجل، وكشرب الخمر ونحوه؛ فإن الأفضل فيها أن يستر الإنسان نفسه بستر الله، وأن يتوب فيما بينه وبين الله، وليس بملزم أن يأتي ويقر ويعترف؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من أبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حق الله).
لكن إذا كان هناك حق للغير كجرائم السرقة مثلاً، فالسرقة فيها حق المسروق منه، فالتوبة منه أن يتوب فيما بينه وبين الله، وأن يرد المال الذي سرقه إلى صاحبه، فليست التوبة بينه وبين الله فقط، بل هناك حق لآخر.
ففي السرقة لو أقر ثم رجع عن إقراره لم ينفعه الرجوع، فتقطع يده ويؤاخذ بإقراره، ويضمن المبلغ الذي سرقه، فالسرقة ليست من جنس الحقوق التي تقبل الرجوع، وهكذا بالنسبة لحقوق القتل ونحوها من الحقوق التي فيها اتصال بالمخلوقين، فإنه لا يُقبل فيها الرجوع.
وأما بالنسبة لحقوق الله عز وجل الخالصة كما يسميها العلماء رحمهم الله، فإنه ينفع فيها الرجوع عن الإقرار ويفيد، وهكذا لو حصل له خطأ في الإقرار، فرجع إلى القاضي وبين خطأه، وكانت هناك قرائن تدل على صدقه، فإنه يُقبل رجوعه على تفصيل قد يأتي إن شاء الله بيانه في باب الإقرار.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد والرشاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد