عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 10-07-2024, 07:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4091 الى صـ 4105
الحلقة (444)




[ ص: 4091 ] قال الرازي: كان ليوسف ولدان إفراثيم. ومنسا. فولد إفراثيم نون وولد نون يوشع صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته. وأما ولد منسا، قيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم. والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار، وموسى بن منسا معه. هذا هو قول جمهور اليهود. واحتج القفال على صحة القول بأنه موسى صاحب التوراة أنه لم يذكر في القرآن وهو المراد. فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه. ولو كان المراد غيره لوجب تعريفه بصفة تميزه وتزيل الاشتباه عنه، والله أعلم. انتهى.

وأما ابن عباس فكان سنده في ذلك، كما في البخاري، ما حدثه به أبي بن كعب ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم; أن موسى سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا. أو حدثته نفسه بذلك. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، لئلا يحتم على ما لا علم له به. وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة، فيكون المراد بفتاه يوشع. وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقا في خدمته، والغيرة على كرامته، والحب له. ولذا صار خليفته بعده، وفتح عليه بيت المقدس ونصر على الجبارين، كما هو معروف.

السابع: قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى: عبدا من عبادنا هو الخضر. قالوا: سمي بذلك لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت. وقد صح عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى . فقال ابن عباس : هو خضر ، فمر أبي بن كعب . فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه. فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى. عبدنا خضر. [ ص: 4092 ] فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت فارجع فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا.وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه » .

الثامن: اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبيا وفي طول عمره وبقاء حياته على أقوال كثيرة. فمن قائل بأنه ابن آدم لصلبه أو ابن قابيل أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وقد احتج من قال إنه نبي بقوله تعالى: وما فعلته عن أمري لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله. والأصل عدم الواسطة. وقيل: كان وليا. وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصديقية فهو مقام برزخي، له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية. وقيل: إنه ملك من الملائكة. وأما تعميره فيروى عن ابن عباس أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال .

قال النووي في (التهذيب) قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا. وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة، أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.

وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات.

وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : وأما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء. ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء، إلا مع موسى . وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء، باتفاق أهل النقل. وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه. كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟ انتهى كلامه ملخصا.

وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة، واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري [ ص: 4093 ] وجامع الترمذي . ولكن لم يثبت ذلك مرفوعا.

وقال أبو حيان في (تفسيره): الجمهور على أن الخضر مات. وبه قال ابن أبي الفضل المرسي. لأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه.

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي » . وبذلك جزم ابن المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي. وممن جزم بأنه غير موجود الآن، أبو يعلى الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي ، وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزي. واستدل على ذلك بأدلة. منها قوله تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد قال أبو الحسين بن المناوي : بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا! فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية. والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم. وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة. وخبر رياح كالريح. وما عدا ذلك من الأخبار، كلها واهية الصدر والأعجاز. لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالا، أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد

قال صاحب (فتح البيان): والحق ما ذكرناه عن البخاري وأضرابه في ذلك. ولا حجة في قول أحد كائنا من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم، حتى يعتمد عليه ويصار إليه. وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، وطول التعمير لأحد من البشر. وهما قاضيان على غيرهما ولا يقضي غيرهما عليهما. ومن قال إنه نبي أو مرسل أو حي باق، لم يأت بحجة نيرة ولا سلطان مبين. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. انتهى.

[ ص: 4094 ] وقال تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه، في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد، ما مثاله: وفيه كثير من الجن وهم رجال الغيب الذين يرون أحيانا في هذه البقاع قال تعالى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا

وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جني رأوه. وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال (إنني) وكان ذلك جنيا لبس على المسلمين الذين رأوه. وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات. ولو كان حيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه. فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمدا، أن يؤمن به ويجاهد معه . كما قال الله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق على أمته; لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا، من أن يلبس الشيطان عليهم. ولكن لبس على كثير من بعدهم. فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي ويقول: أنا الخضر. وإنما هو الشيطان. كما أن كثيرا من الناس يرى ميته خرج، وجاء إليه، وكلمه في أمور، وقضاء حوائج، فيظنه الميت نفسه. وإنما هو شيطان. تصور بصور. انتهى.

التاسع: دل قوله تعالى: وعلمناه من لدنا علما على أن من العلم علما غيبيا وهو المسمى بالعلم اللدني. فالآية أصل فيه. وقد ألف حجة الإسلام الغزالي ، عليه الرحمة، رسالة في إثبات هذا العلم. رد على من أنكر وجوده. وذكر عليه الرحمة أولا طرفا من مراتب العلوم الظاهرية المعروفة. ثم جود الكلام في إثباته. ولا بأس بإيراد شذرة مما قرره فيه. قال [ ص: 4095 ] قدس سره. اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين : أحدهما من التعليم الإنساني والثاني من التعليم الرباني. أما الطريق الأول، وهو التعليم الإنساني، فطريق معهود مسلوك محسوس. ويكون على وجهين:

أحدهما: من خارج وهو التحصيل بالتعلم.

والآخر: من داخل وهو الاشتغال بالتفكر. والتفكر في الباطن بمنزلة التعليم في الظاهر. فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي. والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي. والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العقلاء والعلماء. والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة. كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر، أو في قلب المعدن. والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء الذي بالقوة إلى الفعل. والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل. فنفس المتعلم تتشبه بنفس العالم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم بالإفادة كالزارع. والمتعلم بالاستفادة كالأرض. والعلم الذي هو بالقوة كالبذر. والذي هو بالفعل، كالنبات. وإذا كملت نفس المتعلم يكون كالشجر المثمر أو كالجوهر الظاهر من قعر البحر. وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم في طول المدة. ويحمل التعب في طلب الفائدة، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلم، فإن نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكر ساعة، ما لا تجد نفس الجاهل بتعلم سنة. فإذن بعض الناس يحصلون العلم بالتعلم وبعضهم بالتفكر. ثم قال قدس سره: والطريق الثاني وهو التعليم الرباني. وذلك على وجهين: إلقاء الوحي وهو النفس إذا كملت بذاتها تزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل. وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها. وتتمسك بجود مبدعها. وتعتمد على إفادته وفيض نوره. فالله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا، وينظر إليها نظرا إلهيا، ويتخذ منها لوحا، ومن النفس الكلي قلما وينقش فيها علومه. ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس القدسي كالمتعلم. فتحصل جميع العلوم لتلك النفس وتنتقش فيها جميع الصور [ ص: 4096 ] من غير تعلم وتفكر.

ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وعلمك ما لم تكن تعلم فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق. لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام. فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم. حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات. آدم لما جاء، ما كان عالما. لأنه ما تعلم ولا رأى معلما. فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء أو صغر حالهم عند آدم وقل علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز: قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فقال تعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر. فتقرر الأمر عند العقلاء; أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة. صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله خاتم النبيين، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: « أدبني ربي فأحسن تأديبي » وقال لقومه: « أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله » وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى، لأنه حصل عن التعليم الرباني، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني فقال تعالى: علمه شديد القوى

[ ص: 4097 ] والوجه الثاني: هو الإلهام. والإلهام تنبيه النفس الكلي للنفس الجزئي على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده. والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي. والإلهام هو تعريضه. والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا. والذي عن الإلهام يسمى علما لدنيا. والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكلي الأولي الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليهما السلام. وقد تبين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى البارئ تعالى من النفس الكلي. والنفس الكلي أعز وأشرف من سائر المخلوقات. فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء. فكما أن النفس دون العقل، فالوحي دون النبي. وكذلك الإلهام دون الوحي. فهو ضعيف بنسبة الوحي، قوي بإضافة الرؤيا. والإلهام علم الأنبياء والأولياء. فإن علم الوحي خاص بالرسل موقوف عليهم. كما كان لآدم وموسى وإبراهيم ومحمد وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم. وفرق بين الرسالة والنبوة. فالنبوة هي قبول النفس القدسي حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول. والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والمتابعين. وربما يتفق القبول لنفس من النفوس، ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب. والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما حصل للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى فقال: وعلمناه من لدنا علما

ثم قال عليه الرحمة: فإذا أراد الله بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس الكلي الذي هو اللوح. فيظهر فيها أسرار بعض المكونات. وينتقش فيها معاني تلك المكونات. فيعبر النفس عنها كما يشاء إلى من يشاء من عباده.

[ ص: 4098 ] وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدني. وما لم تبلغ النفس هذه الرتبة لا يكون حكيما. لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : و: يؤتي الحكمة من يشاء من عباده: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب وهم الواصلون مرتبة العلم اللدني، المستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعلم. فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا، ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.

ثم قال عليه الرحمة: اعلم أن العلم اللدني هو سريان نور الإلهام. والإلهام يكون بعد التسوية. كما قال تعالى: ونفس وما سواها والتسوية تصحيح النفس والرجوع إلى فطرتها. وهذا الرجوع يكون على ثلاثة أوجه:

أحدها: تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.

والثاني: الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة فقال: « من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم » .

والثالث: التفكر. فإن النفس، إذا تعلمت وارتاضت بالعلم والعمل، ثم أخذت تتفكر بمعلوماتها، بشرط التفكر، ينفتح عليه باب الغيب. كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التجارة، ينفتح عليه أبواب الربح. وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران. فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا. كما قال صلى الله عليه وسلم: « تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة » انتهى ملخصا.

وفي خلال كلامه عليه الرحمة، جمل من إشارات الصوفية وعباراتهم. ولا يأباها العقل [ ص: 4099 ] السليم ولا قواعد العلم الظاهر. لأنها في هذه المثابة بدرجة الاعتدال والتوسط. كذلك كان مشربه قدس الله سره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[83] ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا .

ويسألونك عن ذي القرنين وهو الإسكندر الكبير المقدوني وسنذكر وجه تلقيبه بذلك: قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي: نبأ مذكورا معجزا، أنزله الله علي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا .

إنا مكنا له في الأرض أي: بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة وآتيناه من كل شيء سببا أي: طريقا موصلا إليه. والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] فأتبع سببا [86] حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا .

فأتبع سببا قرئ بقطع الهمزة وسكون التاء. وقرئ بهمزة الوصل وتشديد التاء. فقيل هما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد. وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين. والتقدير: فأتبع سببا سببا آخر. أو فأتبع أمره سببا كقوله: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة

[ ص: 4100 ] وقال أبو عبيدة: (اتبع) بالوصل في السير (وأتبع) بالقطع معناه اللحاق كقوله: فأتبعه شهاب ثاقب وقال يونس : (أتبع) بالقطع للجد الحثيث في الطلب وبالوصل مجرد الانتقال. والفاء في قوله: فأتبع فاء الفصيحة. أي: فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله، لقوله: حتى إذا بلغ مغرب الشمس أي: أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض: وجدها تغرب في عين حمئة أي: ذات حمأة وهو الطين الأسود، وقرئ (حامية) أي: حارة. وقد تكون جامعة للوصفين و(وجد) يكون بمعنى رأى لما ذكره الراغب: ووجد عندها قوما أي: أمة. ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره بهم، وحكمه فيهم وجعل له الخيرة في شأنهم، بقوله: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب أي: بالقتل وغيره: وإما أن تتخذ فيهم حسنا بالعفو.
ثم بين تعالى عدله وإنصافه، ليحتذى حذوه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[87] قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا .

قال أما من ظلم أي: بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال: فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه أي: في الآخرة: فيعذبه عذابا نكرا أي: منكرا لم يعهد مثله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[88] وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا .

وأما من آمن وعمل صالحا فله أي: في الدارين: جزاء الحسنى يقرأ بالرفع [ ص: 4101 ] والإضافة. وهو مبتدأ، أو مرفوع بالظرف أي: فله جزاء الخصلة الحسنى. يقرأ بالرفع والتنوين و: " الحسنى " بدل أو خبر مبتدأ محذوف. ويقرأ بالنصب والتنوين. أي: فله الحسنى جزاء. فهو مصدر في موضع الحال. أي: مجزيا بها. أو هو مصدر على المعنى. أي: يجزي بها جزاء أو تمييز. ويقرأ بالنصب من غير تنوين. وهو مثل المنون إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. أفاده أبو البقاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] ثم أتبع سببا [90] حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا .

ثم أتبع سببا أي: طريقا راجعا من مغرب الشمس، موصلا إلى مشرقها. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا أي: من المباني والجبال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[91] كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا .

كذلك أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم، كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم. أو صفة مصدر محذوف لـ (وجد) أي: وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة. أو معمول (بلغ) أي: بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله. أو صفة (قوم) أي: على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس، في الكفر والحكم: وقد أحطنا بما لديه خبرا أي: علما. نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه. لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم [ ص: 4102 ] وتقطعت بهم الأرض. وفي التذييل بهذا، إشارة إلى كثرة ما لديه من العدد والعدد، بحيث لا يحيط بها إلا علمه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[92] ثم أتبع سببا [93] حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا .

ثم أتبع سببا أي: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب.

حتى إذا بلغ بين السدين قرئ بفتح السين وضمها. أي: بين الجبلين اللذين سد ما بينهما: وجد من دونهما قوما أي: من ورائهما أمة من الناس: لا يكادون يفقهون قولا لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا [95] قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما .

قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض أي: في أرضنا بالقتل والإضرار: فهل نجعل لك خرجا أي: جعلا نخرجه من أموالنا. وقرئ ((خراجا)) وهو بمعناه: على أن تجعل بيننا وبينهم سدا أي: حاجزا يمنع خروجهم علينا.

قال ما مكني فيه ربي خير أي ما جعلني فيه مكينا من المال والملك، أجل مما تريدون بذله. فلا حاجة بي إليه: فأعينوني بقوة أي: بعملة وصناع وآلات: أجعل بينكم وبينهم ردما أي: حاجزا حصينا. وأصل معنى الردم سد الثلمة بالحجارة ونحوها.
[ ص: 4103 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا [97] فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [98] قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

آتوني زبر الحديد أي: ناولوني قطعه: حتى إذا ساوى بين الصدفين أي: بين جانبي الجبلين: قال انفخوا أي: في الأكوار والحديد: حتى إذا جعله أي: المنفوخ فيه: نارا أي: كالنار بالإحماء: قال آتوني أفرغ عليه قطرا أي: نحاسا مذابا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد.

فما اسطاعوا أن يظهروه أي: يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته: وما استطاعوا له نقبا لثخنه وصلابته.

قال هذا أي: السد: رحمة من ربي على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم: فإذا جاء وعد ربي بدحره وخرابه: جعله دكاء بالمد أي: أرضا مستوية، وقرئ ((دكا)) أي: مدكوكا مسوا بالأرض وكان وعد ربي حقا أي: كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .

تنبيهات:

الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير.

[ ص: 4104 ] فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض . ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا. لما له من خفي الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.

ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر، فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.

ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق . وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.

ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.

وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجهه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.

ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال ، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله: قال أما من ظلم إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.

[ ص: 4105 ] ومنها: أن على الملك، إذا اشتكي إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.

ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته ، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته. كما تأبى الإسكندر تفضلا وتكرما.

ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام . كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم: ما مكني فيه ربي خير كقول سليمان : فما آتاني الله خير مما آتاكم وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.

ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقا في العمل ونصحا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.

ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطا لمهمتهم وتجرئة لهم وترويحا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم العمال الأتعاب. ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: آتوني أفرغ عليه قطرا

ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال: هذا رحمة من ربي

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]