عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 10-07-2024, 07:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4121 الى صـ 4135
الحلقة (446)






القول في تأويل قوله تعالى:

[109] قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .

قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي أي: لكتابتها: لنفد البحر أي: مع [ ص: 4121 ] كثرته ولم يبق منه شيء: قبل أن تنفد كلمات ربي أي: لكونها غير متناهية، فلا تنفد نفاد المتناهي.

قال أبو السعود : وفي إضافة (الكلمات) إلى اسم الرب، المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى. وإظهار (البحر) و(الكلمات) في موضع الإضمار، لزيادة التقرير. وقوله تعالى: ولو جئنا بمثله مددا أي: بمثل البحر عونا وزيادة، لنفد أيضا.

قال أبو السعود : كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله، مع زيادة مبالغة وتأكيد، وهذا كقوله تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم

تنبيه:

دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء. وأن كلماته لا نهاية لها. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء. وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهاشمية والكرامية وأصحاب أبي معاذ. وطوائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم. فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كمال لا صفة نقص. ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة. فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته. بل كلامه مخلوق [ ص: 4122 ] منفصل عنه. والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة، ولا يكون بمشيئته. والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. مبتدعة مبنية على أصل واحد. وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل. والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب. والصواب في هذا الباب وغيره، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها؟ أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته . ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال، باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات، باطلة. هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان.

وقال أيضا في قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية: كلمات الله لا نهاية لها. وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل. فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له. فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[110] قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .

قل أي: لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي: خصصت بالوحي وتميزت عنكم به فمن كان يرجو [ ص: 4123 ] لقاء ربه أي: يخاف المصير إليه، أو يأمل لقاءه ورؤيته، أو جزاءه الصالح وثوابه: فليعمل عملا صالحا أي: في نفسه، لائقا بذلك المرجو، وهو ما كان موافقا لشرع الله: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي: من خلقه إشراكا جليا. كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. ولا إشراكا خفيا. كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به أجرا من المدح وتحصيل المال والجاه.

قال أبو السعود : وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين، مع التعرض لعنوان الربوبية، لزيادة التقرير، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي، ووجوب الامتثال فعلا وتركا.

ودلت الآية -كما قال ابن كثير - على أن للعمل المتقبل ركنين : كونه موافقا شرع الله المنزل، ومخلصا أريد به وجهه تعالى، لا يخلط به غيره. وتسمية الرياء شركا أصغر ، ثبت في السنة، وصح فيها حبوط العمل بالرياء. ودخول الرياء في الآية، باعتبار عموم معناها، وإن كان السياق في الشرك الجلي، للخطاب مع الجاحدين. والله تعالى هو الموفق والمعين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

19- سُورَةُ مَرْيَمَ


سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايمي : لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله ، وطلب بها إشراق نوره، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت، وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة، وآية وإن منكم إلا واردها

وقد روى محمد بن إسحاق ، في السيرة، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.

[ ص: 4125 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[1] كهيعص [2] ذكر رحمت ربك عبده زكريا [3] إذ نادى ربه نداء خفيا .

كهيعص سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف، المبتدأ بها. وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف. أي: هذا: كهيعص أي: مسمى به، وقوله تعالى: ذكر رحمت ربك عبده زكريا مبتدأ خبره محذوف. أي: فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي: هذا المتلو ذكرها و(زكريا) والد يحيى عليهما السلام. بدل من (عبده) أو عطف بيان له. قال المهايمي : أي: ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته. فأعطاه ولدا كاملا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيها من تقدمه. وذكرها لنا كبير هبة لنا، في تعريف مقام النبوة، وقدرة الله وعنايته بصفوته.

إذ نادى ربه نداء خفيا ظرف لـ (رحمة) أو بدل اشتمال من ( زكريا ) والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء، وهو إخفاؤه، لكونه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله:
[ ص: 4126 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[4] قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا .

قال رب إني وهن العظم مني أي: ضعف. قال الزمخشري : وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ: وهن بكسر الهاء وضمها: واشتعل الرأس شيبا قال الزمخشري : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ -باشتعال النار. ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا . فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في (اشتعل) بتشبيه انتشار المبيض في المسود باشتعال النار، كما قال ابن دريد في (مقصورته):


إما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا واشتعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جزل الغضا


والثانية مكنية. بتشبيه الشيب، في بياضه وإنارته، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل: إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار، في بياضه وانتشاره: ولم أكن بدعائك رب شقيا أي: ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت لم أعود منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة، إثر تمهيد ما يستدعي [ ص: 4127 ] الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعدما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا. لا يكاد يخيبه أبدا. لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره.

تنبيه:

استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحب فيه . فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله خفيا ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: واشتعل الرأس شيبا ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: ولم أكن إلخ كما قدمنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[5] وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا [6] يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .

وإني خفت الموالي من ورائي أي: الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ العباد، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين: وكانت امرأتي عاقرا أي: لا تلد من حين شبابها: فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب أي: هب لي ولدا، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثا، لي ولآل يعقوب، في العلم والنبوة. وفي قوله: من لدنك إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة. لعدم صلاحية زوجه للحمل. وتنويه به لكونه مضافا إلى الله تعالى، وصادرا من عنده. و(آل يعقوب) أولاده الأنبياء، عليهم السلام واجعله رب رضيا أي: مرضيا عندك قولا وفعلا.
ثم بين تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه:

[ ص: 4128 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[7] يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا .

يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا أي: مثلا وشبيها. وعن ابن عباس: لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص، ولم يهم بمعصية قط.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8] قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا .

قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا أي: حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل: إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر:


ومن العناء رياضة الهرم


قال الراغب .
القول في تأويل قوله تعالى:

[9] قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .

قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي: من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر، ثم وجدت.

قال الزمخشري : فإن قلت: لم طلب أولا، وهو وامرأته على صفة العتي والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا، ويرتدع المبطلون. وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا، كان في منهاج واحد، هو أن الله غني عن الأسباب . انتهى.

[ ص: 4129 ] وقال أبو السعود : إنما قال عليه السلام، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران، استعظاما لقدرة الله تعالى، وتعجيبا منها، واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة، لا استبعادا له. وقيل: كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. أي: أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل: كذلك. أي: يكون الولد وأنتما كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[10] قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

قال رب اجعل لي آية أي: علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل، ليطمئن قلبي: قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي: لا تقدر على تكليمهم، حال كونك سويا، بلا مرض في بدنك، ولا في لسانك.

لطيفة:

إنما ذكر الليالي هنا، و(الأيام) في آل عمران، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها.

والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء بـ(الليالي) هنا وبـ(الأيام) ثم، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيهم قمرية، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها، في التاريخ، كما ذكره النحاة، فأعطي السابق للسابق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

فخرج على قومه من المحراب أي: مصلاه أو غرفته: فأوحى إليهم أي: أشار إليهم رمزا: أن سبحوا بكرة وعشيا أي: صلوا لله طرفي النهار،
وقوله تعالى:

[ ص: 4130 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[12] يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا .

يا يحيى استئناف، طوى قلبه جمل كثيرة، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشر به، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا. فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي: قلنا يا يحيى : خذ الكتاب بقوة أي: تعلم التوراة والعلم بجد وحرص واجتهاد وآتيناه الحكم صبيا أي: الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير، وهو صبي،
وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[13] وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا [14] وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا .

وحنانا من لدنا أي: وآتيناه حنانا: وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي: رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانا من الله عليه: وزكاة أي: طهارة من الذنوب، وعصمة بليغة منها: وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا أي: متكبرا عاقا لهما، أو عاصيا لربه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[15] وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

وسلام عليه أي: من الله: يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا أي: ليستقبل النعيم الأبدي. و(السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. [ ص: 4131 ] وفي ذكر الأحوال الثلاث، زيادة في العناية به، صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا .

واذكر في الكتاب أي: القرآن: مريم أي: نبأها: إذ انتبذت أي: اعتزلت وانفردت: من أهلها مكانا شرقيا أي: شرقي بيت المقدس. لئلا يشغلوها عن العبادة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17] فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا .

فاتخذت من دونهم حجابا أي: لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق: فأرسلنا إليها روحنا أي: جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا، لغاية كماله، لينفخ فيها: فتمثل لها أي: فتصور لرؤيتها: بشرا سويا أي: سوي الخلق، كامل الصورة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .

قالت إني أعوذ بالرحمن منك أي: أعتصم به منك. إنما خافته لانفرادها في خلوتها، وظنها أنه يريدها على نفسها. وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه: إن كنت تقيا أي: تتقي الله تعالى، وتبالي بالاستعاذة به. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه. أي: فإني عائذة به. أو فلا تتعرض لي. وإنما ذكرته بالله تعالى، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل . فخوفته أولا بالله عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[19] قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .

قال إنما أنا رسول أي: لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت. فإني رسول ربك [ ص: 4132 ] الذي استعذت به، بعثني إليك: لأهب لك غلاما زكيا أي: لأكون سببا في هبته. و(الزكي): الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا .

قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا أي: تعجبت من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ، أي: على أي صفة يوجد مني، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور؟.

قال الزمخشري : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: من قبل أن تمسوهن أو لامستم النساء والزنى ليس كذلك. إنما يقال فيه فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. وإنما اقتصر في سورة آل عمران على قوله: ولم يمسسني بشر، لكون هذه السورة متقدمة النزول عليها. فهي محل التفصيل. بخلاف تلك. فلذا حسن الاكتفاء فيها. وقيل: جعل المس ثم، كناية عنهما، على سبيل التغليب. و(البغي) الفاجرة التي تبغي الرجال. ووزنه (فعول) ولذا لم تلحقه التاء، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإن كان بمعنى فاعل كصبور. أو فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .

قال أي: الملك: كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس أي: [ ص: 4133 ] برهانا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه: ورحمة منا أي: عليك بهذه الكرامة، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده. وقوله: وكان أمرا مقضيا من تتمة كلام جبريل لمريم . يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه. وأنه كنى به عن النفخ في فرجها. كما قال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
القول في تأويل قوله تعالى:

[22] فحملته فانتبذت به مكانا قصيا .

فحملته فانتبذت به مكانا قصيا أي: لما صارت حاملا به، اعتزلت بسببه مكانا بعيدا من قومها، فرارا من القالة. وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها، عن الله تعالى، ما قال، مما تقدم استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله.

فدنا منها فنفخ في جيب درعها. فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بإذن الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[23] فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .

فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة أي: فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع [ ص: 4134 ] لتعتمد عليه وتستتر به. و(أجاء) -قال الزمخشري - منقول من (جاء) إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. وقرئ (المخاض) بكسر الميم وكلاهما مصدر (مخضت المرأة) إذا تحرك الولد في بطنها للخروج: قالت يا ليتني مت قبل هذا أي: الحمل: وكنت نسيا منسيا أي: شيئا تافها، شأنه أن ينسى ولا يعتد به. منسيا لا يخطر على بال أحد. وهو نعت للمبالغة. وإنما قالت ذلك، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام -قال الزمخشري - لأنه مقام دحض، قلما تثبت عليه الأقدام، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به- عيبا يعاب به ويعنف بسببه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .

فناداها من تحتها أي: من مكان أسفل منها، تحت أكمة، وهو جبريل. وقيل: هو عيسى ، وقرئ (من) بفتح الميم موصولة: ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا أي: سيدا نبيلا رفيعا، وقيل: نهرا يسري.
القول في تأويل قوله تعالى:

[25] وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .

وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا أي: حضر أوان اجتنائه. قال الزمخشري : فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان [ ص: 4135 ] الناس أنها من أهل العصمة، والبعد من الريبة، وأمن مثلها، مما قرفوها به، بمعزل. وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات، خارقة لما ألفوا واعتادوا حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26] فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا .

فكلي واشربي وقري عينا أي: بالكمال والولد المبارك، الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية. قال الزمخشري : أي: جمعنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله: فكلي واشربي وقري عينا أي: وطيبي نفسا ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك: فإما ترين من البشر أحدا أي: من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك: فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا أي: لا تكلميهم في أمرك شيئا. ولا تماديهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها، فقوله: صوما وقوله: فلن أكلم إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[27] فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا .

فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي: عظيما منكرا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]