عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 10-07-2024, 08:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ مَرْيَمَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4151 الى صـ 4165
الحلقة (448)






القول في تأويل قوله تعالى:

[54] واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا [55] وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا .

واذكر في الكتاب إسماعيل وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلا. وقوله: إنه كان صادق الوعد تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه بقية الأنبياء، تشريفا له وإكراما. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به حيث قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقا، كما صرحت به الأخبار وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة أي: كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم. ولأنهم أولى من سائر الناس: وأنذر عشيرتك [ ص: 4151 ] الأقربين وأمر أهلك بالصلاة قوا أنفسكم وأهليكم نارا ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الديني أولى. أفاده الزمخشري . وكان عند ربه مرضيا أي: لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[56] واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا [57] ورفعناه مكانا عليا .

واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. فالعلو معنوي. أو رفعه بجسده حيا إلى السماء. قال الشهاب: قيل: والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه، كقوله:


وكن في مكان إذا ما سقطت تقوم ورجلاك في عافية


انتهى. ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين عن أنس في حديث المعراج; أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة. وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات. ويسمى في التوراة إيليا . ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم.
وقوله تعالى:

[ ص: 4152 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[58] أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا .

أولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. وما فيه من معنى البعد، للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وقوله تعالى: الذين أنعم الله عليهم أي: بفنون النعم الدينية والدنيوية: من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا أي: هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة. مع ما لهم من علو الرتبة. وسمو الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة .

قال ابن كثير : أجمع العلماء على مشروعية السجود ههنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد. وقال: هذا السجود فأين البكي .
ولما ذكر تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم، وما سينالهم، بقوله سبحانه:

[ ص: 4153 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[59] فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا .

فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وقرئ (الصلوات) بالجمع أي: المتضمنة للسجود والأذكار، المستدعية للبكاء. وإذا أضاعوها، فهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد: واتبعوا الشهوات أي: فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر: فسوف يلقون غيا أي: شرا. قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد . قال المرقش :


فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما


أي من يفعل خيرا، يحمد الناس أمره. ومن يفعل الشر لا يعدم اللوائم على فعله. وقيل: أراد الشاعر بالخير المال. وبالغي الفقر أي: ومن يفتقر. ومنه القائل:


والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي. ولأم المخطئ الهبل


أي الثكل. ويجوز أن يكون المعنى جزاء غي. كقوله تعالى: يلق أثاما أي: شرا وعقابا. فأطلق عليه كما أطلق الغي على مجازاته المسببة عنه، مجازا أو: غيا ضلالا عن طريق الجنة. فهو بمعناه المشهور.
[ ص: 4154 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[60] إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا [61] جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا .

إلا من تاب أي: عن ترك الصلوات واتباع الشهوات: وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب متعلق بمضمر العائد إلى الجنات. أو من عباده أي: وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب. أي: غائبة عنهم غير حاضرة. أو غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار. أو بمضمر هو سبب للوعد أي: وعدها إياهم بسبب إيمانهم، أفاده أبو السعود : إنه كان وعده مأتيا أي: لا يخلفه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[62] لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [63] تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا .

لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما أي: لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته. وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. قال الزمخشري رحمه الله: فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه . حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: وإذا مروا باللغو مروا كراما وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا.

[ ص: 4155 ] ومعنى: إلا سلاما أي: تسليما. تسليم الملائكة عليهم، أو بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع كما قال: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وهم المتصفون بشعب الإيمان، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن. ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم السلام ما قص، مثبتا له، وعقبه بما أحدثه الخلف، وذكر جزاءهم -عقبه بحكاية نزول جبريل عليه السلام، ردا لما زعمه المشركون من أنه كان يقلوه فلا يزوره، تسلية له صلى الله عليه وسلم، وإعلاما بأن الحال ليس على ما زعمه هؤلاء الخلف. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا .

وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا أي: ينسى شيئا ما، بل لا يفيض علما ولا ينزل ملكا إلا لحكمة يستعد لها الحال، أي: فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك. وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق، مضافا إلى ضميره عليه السلام، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم، ما لا يخفى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا .

رب السماوات والأرض وما بينهما أي: من التوابع والنجميات والسحب وغير ذلك. [ ص: 4156 ] قال بعض علماء الفلك: الآية تدل على أن السماوات أكثر من سبع. وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة، من أن السماوات عني بها الكواكب، والأرض كوكب منها. قال أبو السعود : الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى. فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان. وهو خبر محذوف. أو بدل من (ربك) فاعبده واصطبر لعبادته أي: اثبت لها على الدوام. وقوله: هل تعلم له سميا أي: مثلا وكفؤا، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه، فيفيض عليك مطلوبك. والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده. أي: إذا صح أن لا مثل له، ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بد من التسليم لأمره والقيام بعبادته، والاصطبار على مشاقها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا .

ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أأخرج بعد ما لبثت في القبر مدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .

أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا أي: قبل جعله ترابا ونطفة. وكان عدما صرفا لا وجود له في الأعيان. فلا تبعد إعادته.

قال أبو السعود : وفي الإظهار موضع الإضمار، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنخية بالقلع عن القول المذكور. وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان. أي: ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب، وأنعم عليه بخلق السماوات والأرض وما بينهما، ليعرف المنعم فيشكره، ويعبده فيجازى على فعله.
[ ص: 4157 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[68] فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .

فوربك لنحشرنهم والشياطين أي: لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق: ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا جمع جاث. من جثا إذا قعد على ركبتيه. وذلك لهول المطلع. فلا يستطيعون قياما. كقوله تعالى: وترى كل أمة جاثية
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا .

ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا أي: لنخرجن إلى النار، من كل فرقة، الذي هو أشد على الرحمن، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل عتيا أي: جراءة، بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .

ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وهم المنتزعون. فإنهم أولى الشيع. إذ ضلوا، لأجل لذات الدنيا وشهواتها. فصاروا أولى بالصلي بها. فيخصون بعذاب مضاعف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا .

وإن منكم إلا واردها أي: ليس أحد منكم، من بر وفاجر، إلا وهو يردها كان على ربك حتما مقضيا أي: حكما جزما مقطوعا به.
[ ص: 4158 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[72] ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

ثم أي: بعد الورود والإحضار للتعريف: ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا أي: لا يمكنهم التجاوز عنها.

قال الزمخشري : فيه دليل على أن المراد بالورود، الجثو حواليها. وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة، بعد تجاثيهم. وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[73] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا .

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما أي: موضعا ومكانا: وأحسن نديا أي: مجتمعا للقوم، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظا من الدنيا، لكونهم أحسن منازل وأرفع دورا وأعمر ناديا وأكثر طارقا وواردا، أي: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق؟ كما قال تعالى مخبرا عنهم: وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وقال قوم نوح: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون وقال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

وكذلك رد عليهم شبهتهم بقوله سبحانه:
[ ص: 4159 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[74] وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا .

وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا أي: متاعا: ورئيا أي: منظرا وهيئة من عظم الجاه، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئا. كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرقين:كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم و: ورئيا فعل بمعنى مفعول كالطحن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا .

قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا أي: من كان مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور. وهم المذكورون قبل، ومن شاكلهم فليمدد له الرحمن أي: يمد له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال. وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير. كما ينبئ عنه قوله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال. أي: فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، إما بعذاب يصيبه، وإما الساعة بغتة. وقد بين سبحانه غاية المد بقوله: حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا أي: فئة وأنصارا.
[ ص: 4160 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[76] ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .

ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات أي: الأعمال التي تبقى فوائدها: خير عند ربك ثوابا وخير مردا أي: مرجعا. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا .

أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين أي: في الآخرة: مالا وولدا أي: انظر إلى هذا القائل المجترئ على الغيب ما أكفره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا .

أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا أي: بذلك، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [80] ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

كلا سنكتب ما يقول أي: نحفظه عليه للمؤاخذة به: ونمد له من العذاب مدا بمضاعفته له، جزاء لاستهزائه.

ونرثه ما يقول أي: ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد، [ ص: 4161 ] فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه: ويأتينا فردا أي: في الحشر، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنيه وتأليه.

وقد روى البخاري : عن خباب رضي الله عنه، قال: كنت قينا -حدادا- في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت، ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس : فضرب الله مثله في القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[81] واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا .

واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا أي: ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل، وشفعاء عنده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[82] كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .

كلا أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا: سيكفرون بعبادتهم أي: ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة: ويكونون عليهم ضدا أي: يريدون إهلاكهم، إذا أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك، كما قال تعالى: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك [ ص: 4162 ] فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون قيل: المراد بالآلهة من عبد من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل: الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل: الأعم منهما، وهو الأظهر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[83] ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين أي: بأن سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم: تؤزهم أزا أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي، بالتسويلات وتحبيب الشهوات، تهيجا شديدا.

قال الزمخشري : الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسول لهم. فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

فلا تعجل عليهم أي: بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. و(الفاء) للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهي عنه، محوجة إلى النهي. يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى: إنما نعد لهم عدا تعليل لموجب النهي، ببيان اقتراب هلاكهم. أي: إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، ونحوه قوله تعالى: ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار

[ ص: 4163 ] قال الشهاب: العد كناية عن القلة. وقلته لتقضيه وفنائه، كما قال المأمون (ما كان ذا عدد، ليس له مدد، فما أسرع ما نفد) ولا ينافي هذا ما مر أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي: يطول. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل:


إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى
يعد عليه اللفظ والنفس
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا .

يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي: وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم، المزور والزائر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[86] ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا .

ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا أي: عطاشا. وفي ذكرهم بالسوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم. كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورد: الذهاب إلى الماء، ويطلق على الذاهبين إليه. وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[87] لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا .

لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا الضمير لأصنامهم المتقدم ذكرها في قوله: واتخذوا من دون الله آلهة رد على عابديهم في دعواهم [ ص: 4164 ] أنهم شفعاؤهم عند الله. واتخاذ العهد هو الإيمان والعمل الصالح. أي: لكن من آمن وعمل صالحا فإنه يشفع للعصاة على ما وعد الله تعالى. وجوز أن يكون العهد بمعنى الإذن والأمر. يقال: أخذت الإذن في كذا واتخذته بمعنى. من باب عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به. أي: لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة، المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ونحو هذه الآية قوله تعالى: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوة له، مهولا لأمرها. وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابنا أو بنتا له، تعالى وتقدس- عطف قصته على قصته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[88] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا [89] لقد جئتم شيئا إدا .

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا أي: عظيما منكرا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل.
ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه:

[ ص: 4165 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[90] تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا [91] أن دعوا للرحمن ولدا [92] وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [93] إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا .

تكاد السماوات يتفطرن منه أي: يتشققن: وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن أي: لأن: دعوا للرحمن ولدا وذلك لغيرتها على المقام الرباني الأحدي أن ينسب له ما ينزه عنه ويعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما تكون من الحي الذي له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء، وهو سبحانه تنزه عن ذلك، كما قال: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا أي: مملوكا له يأوي إليه بالعبودية والذل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] لقد أحصاهم وعدهم عدا [95] وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .

لقد أحصاهم وعدهم أي: حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا أي: منفردا مجردا من الأتباع والأنصار، وعمن زعم أنه له من الشفعاء. فإنهم منهم برآء.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.76 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]