عرض مشاركة واحدة
  #449  
قديم 10-07-2024, 08:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4166 الى صـ 4180
الحلقة (449)






ولما فصل مساوئ الكفرة، تأثره بمحاسن البررة، فقال سبحانه:

[ ص: 4166 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا .

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي: يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم : معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال: والود والمحبة سواء. آتيت فلانا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم: وددت لو كان كذا. أي: أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي: محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم : وهذا القول الثاني أولى لوجوه:

أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟

وثانيها: أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين؟

وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازي التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[97] فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .

فإنما يسرناه بلسانك أي: سهلنا هذا القرآن بلغتك: لتبشر به المتقين أي: الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، بالجنة: وتنذر به قوما لدا أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش . فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق واللدد شدة الخصومة. والباء في قوله: بلسانك بمعنى على. أي: على لغتك. أو ضمن (التيسير) معنى (الإنزال) أي: يسرنا القرآن، منزلين له بلغتك، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه.

قال الزمخشري : هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال: بلغ هذا المنزل، أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه إلخ، أي: فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.

[ ص: 4167 ] وقال الرازي : بين به بهذا، عظيم موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم، وقد ذكرهم بأبلغ وصف شيء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.

ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[98] وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .

وكم أهلكنا قبلهم من قرن أي: قوم لد، مثل هؤلاء، إهلاكا عظيما: هل تحس منهم من أحد أي: تشعر به وتراه: أو تسمع لهم ركزا أي: صوتا خفيا.

والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يتداركوا بالتوبة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

20- سُورَةُ طَهَ


وهي مكية. وقيل: إلا قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون الآية. وقوله: ولا تمدن عينيك الآية، وآياتها مائة وخمس وثلاثون.

[ ص: 4169 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] طه [2] ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [3] إلا تذكرة لمن يخشى .

طه قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيم رحمه الله على نكتة أخرى في (الكافية الشافية) بقوله:


وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ ــرفها ترى سرا عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى
في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخبارا به عنها. وفي
هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها
لا غيرها، والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ
أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضا ومع حم مع
يس وافهم مقتضى الفرقان


ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا و(الشقاء) في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.

وقوله تعالى: إلا تذكرة لمن يخشى أي: تذكيرا له. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية [ ص: 4170 ] في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: فلا يكن في صدرك حرج ، فلعلك باخع نفسك على آثارهم ، ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، وهذه الآية من هذا الباب أيضا.

وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة ، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[4] تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [5] الرحمن على العرش استوى .

تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: على العرش استوى أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير . وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازا عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلا.

وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا.

قال ابن كثير : والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث; من أن العرش جرم حقيقي موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام.
[ ص: 4171 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[6] له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى .

له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى .

وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8] الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .

الله أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[9 - 10] وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى .

وهل أتاك حديث موسى من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر [ ص: 4172 ] التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبي لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: وإن تجهر بالقول إلخ لقوله بعد: وسع كل شيء علما أولهما معا. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصدا بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضل الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا، كما قصه تعالى بقوله: إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا أي: أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه: لعلي آتيكم منها بقبس أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: أو أجد على النار هدى أي: هاديا يدلني على الطريق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] فلما أتاها نودي يا موسى [12] إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى .

فلما أتاها أي: النار: نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك (وطوى): اسم للوادي.
[ ص: 4173 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[13] وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [14] إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [15] إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى .

وأنا اخترتك أي: اصطفيتك للنبوة: فاستمع لما يوحى أي: للذي يوحى. أو للوحي. ثم بينه بقوله: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني أي: خصني بالعبادة: وأقم الصلاة لذكري أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود : خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: لذكري أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون ذاكرا لي غير ناس. انتهى.

ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره . بقوله: إن الساعة آتية أي: واقعة لا محالة: أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بـ(آتية). ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي (كاد) معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه:

أحدها: أن (كاد) منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: عسى أن يكون قريبا أي: هو قريب.

ثانيها: قال أبو مسلم : (أكاد) بمعنى أريد كقوله: كذلك كدنا ليوسف

[ ص: 4174 ] ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد)، أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب : تفسير (أكاد) بـ(أريد) هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في (المحتسب) عن الأخفش . واستدلوا عليه بقوله:


كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى


بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة.

ثالثها: أن (أكاد) صلة في الكلام. قال زيد الخيل :


سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس


رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إجمالا ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى .

فلا يصدنك عنها أي: عن تصديق الساعة: من لا يؤمن بها واتبع هواه أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: فتردى أي: فتهلك.

قال الزمخشري : يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطم على الكفرة، ولا هم أشد له نكيرا من البعث. فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى [ ص: 4175 ] واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[17] وما تلك بيمينك يا موسى [18] قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى .

وما تلك بيمينك يا موسى شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: قال هي عصاي أتوكأ عليها أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة: وأهش بها على غنمي أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: ولي فيها مآرب أخرى أي: حاجات أخر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[19] قال ألقها يا موسى [20] فألقاها فإذا هي حية تسعى [21] قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى .

قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك.
[ ص: 4176 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[22] واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى [23] لنريك من آياتنا الكبرى .

واضمم يدك إلى جناحك أي: إبطك: تخرج بيضاء أي: نيرة: من غير سوء أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري ; أن قوله تعالى: من غير سوء كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجاجة. فكان جديرا بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحر للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى، آية أخرى أي: معجزة أخرى غير العصا: لنريك من آياتنا الكبرى متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولا بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] اذهب إلى فرعون إنه طغى .

اذهب إلى فرعون تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود .

وقوله تعالى: إنه طغى أي: جاوز الحد في التكبر والعتو، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات.
[ ص: 4177 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[25] قال رب اشرح لي صدري [26] ويسر لي أمري [27] واحلل عقدة من لساني [28] يفقهوا قولي .

قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمردا وكفرا، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يمد بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا وقول فرعون : ولا يكاد يبين ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ، ليكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] واجعل لي وزيرا من أهلي [30] هارون أخي [31] اشدد به أزري .

واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري أي: قو به ظهري.
[ ص: 4178 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وأشركه في أمري [33] كي نسبحك كثيرا [34] ونذكرك كثيرا [35] إنك كنت بنا بصيرا .

وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون -لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر: إنك كنت بنا بصيرا أي: عالما بأحوالنا، وبأن المدعو به مما يفيدنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [37] ولقد مننا عليك مرة أخرى .

قال قد أوتيت سؤلك يا موسى أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: ولقد مننا عليك مرة أخرى كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود .

وقوله تعالى: مرة أخرى أي: في وقت آخر.
[ ص: 4179 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[38] إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى [39] أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني .

إذ أوحينا أي: ألقينا بطريق الإلهام: إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت أي: الصندوق: فاقذفيه في اليم أي: البحر، متوكلة على خالقه: فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي لدعواه الألوهية: وعدو له لدعوته إلى نبذ ما يدعيه.

قال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته -أن لا تخطئ جرية اليم، الوصول به إلى الساحل، وإلقاءه إليه- سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: فليلقه اليم بالساحل أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: وألقيت عليك محبة مني أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون : ولتصنع على عيني أي: ولتربى بيد العدو على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: و(على) بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى .

إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله أي: يضمن حضانته ورضاعته.

[ ص: 4180 ] فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: وحرمنا عليه المراضع فجاءت أخته فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فجاءت بأمه كما قال: فرجعناك إلى أمك أي: مع كونك بيد العدو: كي تقر عينها أي: برؤيتك: ولا تحزن أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.

ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: وقتلت نفسا أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: فنجيناك من الغم أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين . وقال له ذلك الرجل الصالح: لا تخف نجوت من القوم الظالمين وفتناك فتونا أي: ابتليناك ابتلاء. على أن (الفتون) مصدر كالشكور، أو ضروبا من الفتن على أنه جمع (فتنة) أي: فجعلنا لك فرجا ومخرجا منها. وهو إجمال لما سبق ذكره.

فلبثت سنين في أهل مدين أي: معزز الجانب مكفي المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيهم عليه السلام: ثم جئت على قدر يا موسى أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة،جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري; أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء.

قال أبو السعود : وقوله تعالى: يا موسى تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.74 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]