عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 10-07-2024, 08:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4181 الى صـ 4195
الحلقة (450)






وقوله تعالى:

[ ص: 4181 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[41] واصطنعتك لنفسي [42] اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .

واصطنعتك لنفسي تذكير لقوله تعالى: وأنا اخترتك وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه، و(الاصطناع) افتعال من (الصنع) بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلانا لنفسه، أي: جعله محلا لإكرامه باختياره وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود : والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وفتناك ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ (النفس) اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى (الاصطناع) و(الاستخلاص). ثم بين ما هو المقصود بـ(الاصطناع) بقوله سبحانه: اذهب أنت وأخوك بآياتي أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: ولا تنيا في ذكري أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] اذهبا إلى فرعون إنه طغى [44] فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى .

اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بين ذلك في قوله تعالى: فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى وبمثل ذلك [ ص: 4182 ] أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد -مع علمه بأنه لا يؤمن- إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [46] قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى .

قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أي: يبادرنا بالعقوبة: أو أن يطغى أي: يزداد طغيانا بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري . وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، بابا من حسن الأدب، وتحاشيا عن التفوه بالعظيمة: قال لا تخافا أي: من فرطه وطغيانه: إنني معكما أي: بالحفظ والنصرة: أسمع وأرى أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميما لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تم الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدو.
[ ص: 4183 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[47] فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى .

فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: ولا تعذبهم أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: قد جئناك بآية من ربك أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: والسلام على من اتبع الهدى أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يخفى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .

إنا قد أوحي إلينا أي: من ربنا: أن العذاب على من كذب أي: بآياته تعالى: وتولى أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] قال فمن ربكما يا موسى [50] قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .

قال أي: فرعون: فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. [ ص: 4184 ] وهذه الآية في معناها كآية: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وآية: وهديناه النجدين
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] قال فما بال القرون الأولى [52] قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .

قال أي: فرعون: فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح بابا للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: في كتاب تمثيلا لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علما ثابتا لا يتغير، بمن علم شيئا وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلا، فيكون قوله: لا يضل ربي ولا ينسى ترشيحا للتمثيل، واحتراسا أيضا. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه.

فـ(الكتاب) على هذا بمعناه اللغوي. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ.
وقوله تعالى:

[ ص: 4185 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[53] الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى .

الذي جعل لكم الأرض مهدا أي: فراشا: وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى أي: أصنافا من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع.

لطيفة:

جعل الزمخشري قوله تعالى: فأخرجنا من باب الالتفات. وناقشه الناصر; بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا إلى قوله: فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون من باب قول خواص الملك: (أمرنا وعمرنا) وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتا أيضا. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله: ولا ينسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر وهو; أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه، أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى . فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر.
وقوله تعالى:

[ ص: 4186 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[54] كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [55] منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى .

كلوا وارعوا أنعامكم حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول: إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها أي: من الأرض: خلقناكم أي: خلقنا أصلكم وهو آدم . أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: وفيها نعيدكم أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: ومنها نخرجكم تارة أخرى أي: بردهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، بقوله سبحانه:
لقول في تأويل قوله تعالى:

[56] ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [57] قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى .

ولقد أريناه آياتنا كلها أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى أي: مستويا واضحا يجمعنا.
[ ص: 4187 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[59] قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [60] فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى .

قال موعدكم يوم الزينة وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: وأن يحشر الناس ضحى أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفا لا سترة فيه: فتولى فرعون أي انصرف عن المجلس: فجمع كيده أي: ما يكيد به موسى ، من السحرة وأدواتهم: ثم أتى أي: الموعد ومعه ما جمعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[61] قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى [62] فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى [63] قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى .

قال لهم موسى أي: مقدما لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: فيسحتكم أي: يستأصلكم: بعذاب أي: هائل لغضبه عليكم: وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا أي: بطريق التناجي والإسرار: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى أي: بمذهبكم [ ص: 4188 ] الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، بجعله عبدا لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: المثلى تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون.

لطيفة:

في قوله تعالى: إن هذان لساحران قراءات:

الأولى: " إن هذين لساحران " بتشديد النون من (إن) و(هذين) بالياء وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على السنن المشهور في عمل (إن).

الثانية: إن هذان لساحران بتحفيف إن وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى (إلا) و(إن) قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله:


أمس أبان ذليلا بعد عزته وما أبان لمن أعلاج سودان


والثالثة: إن هذان لساحران بتشديد (إن) و(هذان) بالألف. وخرجت على أوجه:

أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون. قال قائلهم:


تزود منا بين أذناه طعنة


[ ص: 4189 ] وقال آخر:


إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها


وثانيها: إن (إن) بمعنى (نعم) حكاه المبرد . واستدل بقول الراجز:


يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياني وأمهنه
وقل لهن: إن أن إنه أقسم بالله لتفعلنه


وقول عبد الله بن قيس الرقيات :


ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه


ورد على المبرد أبو علي الفارسي ، بأنه لم يتقدم ما يجاب بـ(نعم) وأجاب الشمني، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمني. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محط الجواب قوله: فأجمعوا كيدكم إلخ، وما قبله توطئة. وقد رد في (المغني) هذا التخريج; بأن مجيء (نعم) شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدماميني ; بأن سيبويه والحذاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: لساحران لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع (إن) التي بمعنى (نعم) لشبهها بالمؤكدة لفظا.

وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة.

[ ص: 4190 ] وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو (هذا) جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيا، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين:

أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: إحدى ابنتي هاتين مع أن هاتين تثنية (هاتا) وهو مبني.

والثاني: أن (الذي) مبني وقد قالوا في تثنيته اللذين في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: ربنا أرنا اللذين أضلانا وأجاب الأول; بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة (ابنتي) قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: إن هذان لساحران أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في " هذان " للألف في " ساحران " . وأجاب عن الثاني بالفرق بين (اللذان) وهذان بأن اللذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه (بالزيدان) وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قال رحمه الله: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إن هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه.

أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟.

والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟.

[ ص: 4191 ] والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.

والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش . ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: " عتى حين " ، على لغة هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين ملخصا.

هذا حاصل ما في (المغني) و (الشذور) و (حواشيهما) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى .

فأجمعوا كيدكم تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود . وقوله تعالى: ثم ائتوا صفا أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: وقد أفلح أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: اليوم من استعلى أي: علا وغلب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى [66] قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .

قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا [ ص: 4192 ] فإذا حبالهم وعصيهم أي: التي ألقوها: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى أي: حيات تسعى على بطونها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] فأوجس في نفسه خيفة موسى [68] قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى [69] وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .

فأوجس أي: أحس: في نفسه خيفة موسى وذلك لما جبل عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حية: قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا أي: تلتقطه بفمها: إنما صنعوا كيد ساحر في مقابلة آية ربانية: ولا يفلح الساحر حيث أتى أي: لا يفوز بمطلوبه، أي مكان جاء لدفع الحق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى [71] قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى .

فألقي السحرة سجدا أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فألقي السحرة سجدا، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: قالوا آمنا برب هارون [ ص: 4193 ] وموسى قال أي فرعون: آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي: من جانبين متخالفين: ولأصلبنكم في جذوع النخل أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفا من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوبا، قاله المهايمي . وضعفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: آمنتم له أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .

قالوا لن نؤثرك أي: نختارك بالإيمان والاتباع: على ما جاءنا أي: من الله على يد موسى : من البينات والذي فطرنا أي: وعلى الذي خلقنا. واختيار هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه وتعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: آمنتم له وقيل هو قسم محذوف الجواب: فاقض ما أنت قاض أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: " لأقطعن " إلخ: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة.
[ ص: 4194 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[73] إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى أي: ثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[74] إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .

إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها أي: فينقضي عذابه: ولا يحيا أي: حياة طيبة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا .

ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[76] جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى .

جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.

لطائف:

من (الكشاف) و (حواشيه للناصر).

الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له [ ص: 4195 ] وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى -صلوات الله عليه- اختيار إلقائهم، أولا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعد، قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم.

الثانية: جوز في إيثار قوله تعالى: ما في يمينك على: " عصاك " وجهان:

أحدها: أن يكون تعظيما لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها.

وثانيهما: أن يكون تصغيرا لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأولى. لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟

ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]