رد: المحسن جل جلاله وتقدست أسماؤه
الرَّابِعَةُ: مَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الَمرْأَةِ الصَّالِحَةِ الُموافِقَةِ، فَتَسْكُنُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ، وَيَتِمُّ لَهُ بِهَا أُنْسُه، ويَكْثُرُ مِنْهَا نَسْلُهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَدَدٌ وَافِرٌ، وَكُلُّهم للِه مُوَحِّدٌ، وَلآلائِهِ ذَاكِرٌ شَاكِرٌ، فَيَشْتَدُّ بِهِمْ في الدُّنْيَا أَزْرُه، وَيُحْبِطُ بِهِمْ في الآخِرِ وِزْرُه.
قُلْتُ ( أي القرطبيُّ ): وشُعْبَةٌ خامسةٌ: وَهي مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الجِسْمِ، وفَراغِ البالِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: « نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، والفَرَاغُ »؛ خَرَّجَهُ البخاريُّ[21] »[22].
2- ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ اللَه تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ التَّعَبُّدَ بِمَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ عَلِيمٌ يُحِبُّ العُلَمَاءَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ الإِحْسَانَ، وِلِذَا كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى في القَتْلِ والذَّبْحِ[23].
قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13].
وَالإِحْسَانُ نَوْعَانِ: إحْسَانٌ في عِبَادَةِ الله تَعَالَى وهو « أَنْ تَعْبُدَ اللهَ تَعَالَى كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»؛ كَمَا جَاءَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ المَشْهُورِ.
وإحْسَانٌ إِلَى عِبَادِ الله تَعَالَى، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الخَيْرِ لَهُمْ، وكليهما قَدْ وَعَدَه اللهُ تَعَالَى بالثَّوَابِ فَقَالَ: ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120].
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله في بَيَانِ أسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَمِنْهَا:
الإِحْسَانُ إِلَى الخَلْقِ وَنَفْعُهم بما يُمْكِنُه مِنَ المَالِ وَالجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالبَدَنِ، وأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ، فَإِنَّ الكَرِيمَ الُمحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهم قَلْبًا، والبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وأَنْكَدُهُمْ عَيشًا، وَأعْظَمُهُمْ هَمًّا وَغَمًّا.
وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصَّحِيحِ مَثَلًا للبَخِيلِ والُمتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَين عَليهما جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الُمتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عليه وانْبَسَطَتْ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَه وَيُعْفِيَ أَثَرَه، وَكُلَّمَا هَمَّ البَخِيلُ بالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلَقَةٍ مَكَانَها، وَلَمْ تَتَّسعْ عليه[24].
فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الُمؤْمِنِ الُمتَصَدِّقِ وانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ البَخِيلِ وانْحِصَارِ قَلْبِهِ [25].
3- وَمِنْ أَعْظَمِ الإِحْسَانِ إلى الخَلْقِ تَعْلِيمُهم ما يَنْفَعُهم في دينهم، وَيَكُونُ سَبَبًا في نَجَاتِهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ من عُلُومِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ وَفِقْهِ السَّلَفِ، وَإِرْشَادِهم إلى طُرُقِ الخَيْرَاتِ والقُرُبَاتِ، وَتَحْذِيرِهم مَسَالِكَ الشَّرِّ والهَلَكَاتِ، وهي وَظِيفَةُ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَبِهَذَا كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ إِحْسَانًا إلى الخَلْقِ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الِمنَّةِ والفَضْلِ مَا لَا يُؤَدَّى شُكْرَه.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ لاسْمِ ( الُمحْسِنِ ) لَمْ يَرِدْ في القُرْآنِ اسْمًا وَإِنَّمَا وَرَدَ فِعْلًا قَالَ: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100]، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلى مَعْنَى الُمفَضَّلِ، وَذِي الفَضْلِ، والَمنَّانِ، والوَهَّابِ.
قال ابنَ العربي: « وأَمَّا مُحْسِنٌ ومُجْمِلٌ وَمُفَضِّلٌ فَلَمْ يَرِدْ بِهَا تَوْقِيفٌ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الفِعْلَ مِنْهَا قَدْ جَاءَ، والتَّصْرِيفَ لها قَدْ وَرَدَ، ولَكِنَّهَا أَلْفَاظٌ كَرِيمَةُ الَمعَانِي، ولا يُسَمَّى سُبْحَانَهُ إِلَّا بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ.
فَمِمَّا وَرَدَ قَالَ تَعَالَى ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100].
وَجَاءَ في الحَدِيثِ: « جِمِيلٌ » [26]، وقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى « مُجْمِلٌ ».
وجَاءَ: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105].
وَأَمَّا الُمنْعِمُ فَقَدْ جَاءَ فِعْلُه في القُرْآنِ كَثِيرًا، قَالَ: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 16، 17]، وَالنِّعْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ عَطَاءٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ لَمْ تُحْسَنْ فَيهِ العَاقِبَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى للكُفَّارِ: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 69].
قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ الُمنْعِمُ الُمفَضِّلُ كَمَا ذَكَرْنَا في الاسْمِ قَبْلَهُ وَإِلَيْهِمَا يَرْجِعُ المُحْسِنُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحْسَنَ.
وَلَا خَفَاءَ بِإِحْسَانِ الله تَعَالَى إلى خَلْقِهِ وَمَنِّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا غَمَرَهُمْ من الإحِسَانِ والفَضْلِ وَالجُودِ والإِنْعَامِ ».
قَالَ الأَقْلِيشي: « وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ في ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: قَاعِدَةٍ وَوَاسِطَةٍ وَمُتممةٍ:
أَمَّا القَاعِدَةُ: فَتَشْتَمِلُ مِنَ الإحْسَانِ والَمنِّ عَلَى ثَلاثِ شُعَبٍ:
الأُولَى: إِخْرَاجُه مِنْ عَدَمٍ إلى وُجُودٍ، بِمُقْتَضَى صِفَةِ الكَرَمِ والجُودِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بِهَذَا في مَعْرِضِ الامْتِنَانِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].
الشُّعْبَةُ الثانية: بَعْدَ خَلْقِهِ تَصْويرُه في صُورَةِ آدمَ، وهي أَحْسَنُ صُورِ العَالَمِ، وقَدِ امْتَنَّ عليه بذلك في قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآي الُمتَكَرِّرَةِ في هَذَا النَّوْعِ.
الشُّعْبَةُ الثَّالِثَةُ: جَعْلُه إِيَّاهُ عَاقِلًا لا مَعْتُوهًا ولا سَفِيهًا حَتَّى يَمْتَازَ مِنَ البَهَائِمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بِهَذَا الثَّنَاءِ فَقَالَ: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].
وَقَالَ: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10].
وَقَالَ: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من هذه الأمثلة.
وَأَمَّا الوَاسِطَةُ فهي للقِسْمَينِ رَابِطَةٌ، وَيَشْتَمِلُ من الإحْسَانِ والإِنْعَامِ والَمنِّ عَلَى سِتِّ شُعَبٍ:
الأُولَى: هِدَايتُه إِيَّاهُ للإسلامِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الإِحْسَانِ وَالإِنْعَامِ، وهو الُمرَادُ بِمَا ذُكِرَ في القُرْآنِ مِنَ الهُدَى والنُّورِ، والشَّرْحِ للصُّدُورِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ [27].
الثَّانِيَةُ: إِحْسَانُه إليه أَنْ جَعَلَهُ مِنْ أُمةِ محمدٍ ؛ خَيْرِ الأنبياءِ وَخَيْرِ الأُمَمِ، وعلى هذا نَبَّه بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]؛ أَيْ: كُنْتُمْ في الغَيْبِ حَتَّى خَرَجْتُمْ إِلَى الوُجُودِ على وِفَاقِ العِلْمِ.
الثَّالِثَةُ: إِحْسَانُه إليه بأَنْ حَفِظَ كِتَابَه العَظِيمَ حَتَّى يَكُونَ مُعبِّرًا عن كَلَامِ رَبِّهِ بِلِسَانِهِ، وَرَاغِبًا إِلَيْهِ بِجَنَابِهِ، وهذا مِنْ أَعْظَمِ إِحْسَانِه، وَقَدْ قَالَ ابنُ عَبَاسٍ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، إنَّهُ القُرْآنُ.
الرَّابِعَةُ: عَلَّمَهُ بَعْدَ حِفْظِهِ مِنْ مَعَانِيهِ، وَمِنْ شَرِيعةِ نبيهِ، ومِنْ حَقَائِقِ عِلْمِهِ أَثَرًا وَنَظَرًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
وَقَالَ: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
الخَامِسَةُ: مَا أَحْسَنَ به إليه، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ العَمَلِ بِمَا عَلِمَ، وَهَذَا هُوَ ثَمَرَةُ العِلْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُو ﴾ [فاطر: 28].
السَّادِسَةُ: إِحْسَانُهُ إليه وَتَوْفِيقُه حَتَى يَنْشُرَ مَا عَلِمَ في عَبَادِهِ، ويَكُونَ نُورَ بلادِه، يُسْتَضَاءُ بِسِرَاجِهِ، وَيُقْتَفَى وَاضِحَ مِنْهَاجِهِ، وَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُدْعَى عَظِيمًا في مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، ويَكُونَ مِنْ أَشْرَافِ العُلَمَاءِ الوَارِثِينَ للأَنْبِيَاءِ.
وَأَمَّا الُمتَمِّمَةُ: فهو مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وأَحْسَنَ إليه مِنْ إِظْهَارِ عَوارِفَ، وَإِدْرَارِ لَطَائِفَ، شَرَّفَ بِهَا نَوْعَهُ، وَأَكْمَلَ بِهَا وَصْفَهُ، وَيَشْتَمِلَ على أَرْبَعِ شُعَبٍ:
الأَوَّلُ: مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ كَمَالِ الصُّورَةِ، واعْتِدَالِ الخِلْقَةِ، وفَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَسَلَامَةِ الهَيْئَةِ مِنْ تَشَوِّهٍ، وَنَقْصِ عُضْوٍ، ولُحُوقِ خَلَلٍ، حَتَّى يَبْقَى صَحِيحًا سَلِيمًا، وَيَسْلُكُ مِنْ طَاعَةِ الله طَرِيقًا قَوِيمًا، وَتَسْتَحْسِنُ الأَبْصَارُ والبَصَائِرُ صُورَتَهُ، وَلَا تَمُجُّ الطِّبَاعُ خِلْقَتَه، وهذه نِعْمَةٌ مِنَ الله عَلْيهِ، وَهِيَ مَوْهِبةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ.
الثَّانيةُ: مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ انْتِظَامِ الحَالِ، واتِّسَاعِ الَمالِ، حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ في اكْتِسَابِ الرِّزْقِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُه فَيَعُمُّهُمْ خَيْرُه، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ يَجِبُ شُكْرُهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُعْطَاها.
الثَّالِثَةُ: مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ عُصْبَةٍ وَعَشِيرَةٍ وَأَصْحَابٍ وَأَتْبَاعٍ، تَأَلَّفَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَاصْطِفَائِهِ، وَقَامُوا جُنَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَلَمْ يَطْرُقْهُ مِنَ الأَعْدَاءِ طَارِقٌ، بَلْ عَاشَ في أَمْنٍ مِنْ جَمِيعِ الخَلَائِقِ، يُنْظَرُ إِلَيْهِ بعَيْنِ الإِجْلَالِ والوَقَارِ، وَتُقْضَى حَوَائِجُه في قُطْرِهِ وفي جَمِيعِ الأَقْطَارِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ الحَاضِرُ، وَيَفْخَرُ بِذِكْرِهِ الأَعاَصِرُ.
الرَّابِعَةُ: مَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الَمرْأَةِ الصَّالِحَةِ الُموافِقَةِ، فَتَسْكُنُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ، وَيَتِمُّ لَهُ بِهَا أُنْسُه، ويَكْثُرُ مِنْهَا نَسْلُهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَدَدٌ وَافِرٌ، وَكُلُّهم للِه مُوَحِّدٌ، وَلآلائِهِ ذَاكِرٌ شَاكِرٌ، فَيَشْتَدُّ بِهِمْ في الدُّنْيَا أَزْرُه، وَيُحْبِطُ بِهِمْ في الآخِرِ وِزْرُه.
قُلْتُ ( أي القرطبيُ ): وشُعْبَةٌ خامسةٌ: وَهي مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الجِسْمِ، وفَراغِ البالِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: « نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، والفَرَاغُ »؛ خرَّجَهُ البخاريُّ[28].
وَقَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّه: « عَبَدَ اللهَ تَعَالَى عَابِدٌ خَمْسِينَ سَنَةً، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ وَمَا تَغْفِرُ لي وَلَمْ أُذْنِبْ؟ فَأَذِنَ اللهُ لِعْرِقٍ في عُنُقِهِ فَضَرَبَ عليه فَلَمْ يَنَمْ وَلَمْ يُصَلِّ ثَمَّ سَكَنَ فَنَامَ، فَأَتَاهُ الَملَكُ، فَشَكَا إليه، فَقَالَ: مَا لَقِيتَ مِنْ ضَرَبَانِ العِرْقِ، فَقَالَ لَهُ الَملَكُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: عِبَادَتُك خَمْسِينَ سَنَةً تَعْدِلُ سُكوُن َهَذَا العِرْقِ »، ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ في بابِ وَهْبِ بنِ منبهٍ [29].
[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: « ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ » .
[2] روَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم »، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك .
[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ » .
وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً » .
[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ » .
ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ في مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه » .
[5] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: « فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ » .
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ دَعَا إلى هُدَىً كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا » .
[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ »، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ .
[7] شرح العقيدة الطحاوية (ص: 206) .
[8] لسان العرب (13/ 114)، وكتاب العين (3/ 143)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 235) .
[9] انظر: طريق الهجرتين لابن القيم (ص: 470)، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 512) .
[10] انظر: النهج الأسمى (3/ 149-157) .
[11] وهو تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للآية كما في حديث صهيب رضي الله عنه عند مسلم .
[12] الصحاح (5/ 2099)، واللسان (2/ 877-879) .
[13] المفردات (ص: 119) .
[14] سنده حسن: ورواه ابن أبي عاصم في الديات (ص: 56)، وابن عدي في الكامل (6/ 2145)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 213) من طرق عن محمد بن بلال التمار حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أنس به .
عمران القطان هو ابن داور قال أحمد: « أرجوه أن يكون صالح الحديث»، وقال أبو داود: « هو من أصحاب الحسن وما سمعت إلا خيرًا»، وقال النسائي: « ضعيف »، وقال الحافظ: « صدوق يهم »، ومحمد بن بلال ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي: « أرجو أنه لا بأس به » .
وقال الحافظ: « صدوق يغرب »، والحديث ذكره الألباني في الصحيحة (470) .
[15] صحيح: رواه عبد الرازق في مصنفه (8603)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (7/ 7121) عن معمر عن أيوب عن أبي قِلَابَةَ الأشعث الصنعاني عن شداد به .
ورجاله ثقات رجال الشيخين، سوى أبي الأشعث الصنعاني واسمه شراحيل بن آدة فمن رجال مسلم .
وأصله في صحيح مسلم، فقد رواه (3/ 1548) عن إسماعيل بن علية عن خالد الحذاء عن أبي قلابة به، بلفظ: « إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة .. » الحديث .
[16] الكتاب الأسنى (2/ ورقة 414 أ، ب) .
[17] كذا قال، وقد مر ثبوت الحديث في (المحسن) .
[18] الكتاب الأسنى (2/ ورقة 414 أ) .
[19] فيض القدير (2/ 264) .
[20] قال القرطبي هنا: « قلت: ومن هذا المعنى ما رُوِيَ عن وهب بن منبه قال: رؤوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها » .
[21] البخاري في أول الرقاق (11/ 229) .
[22] الكتاب الأسنى (2/ ورقة 414ب-416أ) .
[23] فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تُحَدَّ الشَّفْرَةُ وتشحذ لئلا تؤذي الذبيحة، وألا يكون ذلك أمامها، وأن يريح ذبيحته فلا يربط قوائمها وأن يسوقها سوقًا جميلًا .
[24] هو معنى حديث أخرجه البخاري في مواضع أولها في الزكاة (3/ 305)، ومسلم في الزكاة (2/ 708-709) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[25] زاد المعاد (2/ 25-26) .
[26] صحيح: وقد تقدم .
[27] قال القرطبي هنا: « قلت: ومن هذا المعنى ما رُوِيَ عن وهب بن منبه قال: رؤوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها » .
[28] البخاري في أول الرقاق (11/ 229) .
[29] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 517) .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 13-08-2024 الساعة 07:40 PM.
|