الأسئلة
مسألة (ضع وتعجل) في الديون والتقسيط
السؤال
إذا قال صاحب الدين للمدين: إن عجلت في دفع الدين نقصت عنك كذا، فما الحكم إذا كان هذا الاتفاق في مجلس العقد أو بعده؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: إذا قال صاحب الدين للشخص المديون: عجل بالمال أسقط عنك نصفه، أو أعطاه مائة ألف وقال له: إن دفعت لي تسعين ألفاً سامحتك في عشرة آلاف، وكان هذا قبل حلول الأجل، فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله إلى جواز ذلك في الأصول، وبه أفتى حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين كالإمام ابن قدامة كما نص عليه في المغني وغيره، أنه يجوز أن يُسقط رب المال جزءاً من الدين ويتعجل الدين، وقد ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حينما أجلى بني قريظة فإنهم قالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام: (ضعوا وتعجلوا) فدل هذا على مشروعية (ضَع وتعجل) في هذه الصفة أنها مستثناة.
الحالة الثانية: وهي أن يكون البيع بالتقسيط، وتتركب الزيادة بالأجل، فيقول له: هذه السيارة على سنتين ثم يأخذها، وتكون هناك زيادة بقدر خمسة آلاف ريال مقابل السنتين، فيأتي عند نهاية السنة الأولى ويقول له: عجل وأسقط عنك ربح السنة الثانية هذا لا يجوز؛ لأنه من (ضع وتعجل) على الأصل الذي ورد به دين الجاهلية، وكانت الديون المستفادة مركبة بالآجال، ولذلك لا يجوز في بيع التقسيط؛ لأن المسامحة هنا مقابل الأجل، ولكن هناك في الأصل يجوز له أن يخلي يده من أصل المال فجاز له أن يسامحه عن كله أو بعضه، وتوضيح ذلك أكثر: أنه حينما يكون أصل المال الذي لك على المديون مائة ألف ريال، فإن من حقك أن تسامحه في المائة كلها، ويجوز لك أن تسامحه عن بعضها، فأنت إذا قلت له: عجّل التسعين ألفاً وأسامحك بالعشرة، فقد أسقطت شيئاً من مالك؛ لأن الديون تستحق بالأصل، وقد بينا هذا في باب القرض، وفي هذه الحالة حينما تكون المائة ألف كلها ملكاً لك، لم يكن شيء من المائة مركباً على أجل، بخلاف بيع التقسيط، فبيع التقسيط حينما قسط على سنة زاد زيادة متعلقة بالسنة وقسط على سنتين فزاد زيادةً تناسب السنتين، فحينما يأتيه في أثناء دفع الأقساط ويقول له: عجّل وأسقط على الشرطية، أو يأتي من اشترى السيارة ويقول لصاحب المعرض: ضع عني وأعطيك الآن كذا، فإنه لا يجوز؛ لأنه مركب على ديون الجاهلية، فصار الإسقاط تمحض مقابل الأجل، فأصبحت الشبه هنا أنه مقابل الأجل في شبهة الدين المعروف في دين الجاهلية، (ضع وتعجل وزد وتأجل).
على العموم: إذا كان أصل المال كله مستحقاً لك جاز لك الإسقاط، وأما في مسائل الديون التي تتركب فيه الزيادة مقابل الأجل فيحظر فيها الإسقاط، والله تعالى أعلم
إذا تلفت السلعة قبل القبض أو بعده في حال اشتراط النقل
السؤال
إذا اشترط البائع حملان الدابة إلى موضع كذا، أو اشترط حملان السلعة فتلفت هل يضمنها البائع؟
الجواب
المسألة الأولى: وهي مسألة النقص مقابل التعجيل، قلنا: إنه في حال التقسيط وفي حال الأجل لا يجوز، ويجوز إذا كان بعد القبض، فمثلاً: كنت تعطي صاحب المعرض أقساطاً، وبقي لصاحب المعرض من الأقساط ما يقارب خمسين ألفاً، إذا مكنته من الخمسين دون شرط ودون وعد وقبض الخمسين ثم قال لك: أنا متنازل عن خمسة فلا بأس بعد قبضه؛ لأنه يجوز بالعطاء ومحض الفضل ما لا يجوز بالشرط كما ذكرنا في الزيادة على الديون، إذا لم تكن على سبيل الشرط عند القضاء، والأصل في ذلك حديث أنس في الصحيحين: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) وقد قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فسمحاً إذا اقتضى يعني: إذا أخذ، فإذا سامحه بدون شرطية وبعد القبض جاز، لكن أن يشترط في قبض المال أن يسامحه لا يجوز.
أما المسألة الثانية وهي: إذا اشترى دابة، واشترط حملانها إلى موضعٍ معين، هذا فيه تفصيل: إذا اشتريت سلعةً واشترطت من صاحب المحل أن يحملها إلى موضع معين، فهذه مسألة البيع والشرط، وقد بينا هذه المسألة: مسألة البيع والشرط، والبيع والشرطين، وذكرنا خلاف العلماء في مسألة الشرط والشرطين، فعلى القول بجواز هذه الصورة وهي أن تشتري وتشترط -مثل ما يسمى الآن: التوصيل للمنزل- فلو أن هذه السلعة التي اشتريتها كالطعام وضعت في السيارة، ثم لما وصلت إلى بيتك وصلت تالفة كزجاج انكسر أو طعام فسد أو نحو ذلك، هذا فيه تفصيل: إن كانت قيادة السيارة والوسيلة التي تحمل هذا الشيء فيها تخريب فيضمن السائق، مثلاً: لو أن قائد السيارة يقودها بسرعة حتى تكسر الزجاج، هذا واضح أنه فرط فيضمن في هذه الحالة.
الحالة الثانية: أن يكون قائد السيارة لم يفرط، وهذا الأمر جاء بآفة سماوية ليست بيده، وهذا يشمل جميع ما يمكن أن يقال في الإجارات، حتى لو أنك أرسلت سيارة من مكة إلى المدينة تحمل لك -مثلاً- إسمنت، فمشت السيارة ثم أصابتها السماء والمطر، وفسد الإسمنت بهذا الماء الذي أصابه، فما الحكم؟ إذا كان النقل جرى العرف فيه بأمور يتحفظ فيها السائق والناقل، فالمسئولية مسئولية الناقل إذا فرط، فإذا جرى العرف أن هذه السلعة تغطى بالغطاء ولم يغطه فحينئذٍ يضمن، ويكون الضمان على السائق، لكن لو أن هذه الآفة والتلف حصل بدون تفريط، يعني: لم يفرط واحتاط السائق، ووقعت آفة سماوية أتلفت هذا الشيء، مثال ذلك: لو اشتريت بهائم، ووضعت في سيارة ماء، فلما وصلت إليك إذا نصفها ميت، وأثبت الطبيب البيطري: أنه ما في تعد، إنما ماتت قضاءً وقدراً، فهل البهائم يضمنها البائع؛ لأنها لم تصل إلى المشتري، أو يضمنها المشتري لأنه أمر بحملها؟ هذا فيه تفصيل: إن قبضت البهائم -وهذا ذكرناه في البيوع- وخلا البائع المشتري بينه وبين البهائم، فجاء المشتري بالسيارة وتعاقد معه، وحملت على ضمانه، فحينئذٍ قد خليت مسئولية البائع بخروجها من الزريبة أو من المستودع إذا كانت مبيعات متعلقة بالمستودعات ونحوها، فتبرأ ذمة البائع بإخراجها من المستودع لما قبضها المشتري، لكن إذا لم يحصل القبض وقال البائع للمشتري: نحن نوصل هذا الشيء إلى بيتك، أو لا يهمك إلا والشيء قد وصل إلى بيتك، أو نحن نتكفل بتوصيله، فيد المشتري لم تنتقل السلعة إليها، وحينئذٍ يضمن البائع ولا يضمن المشتري؛ لأن السلعة المباعة لا تضمن في هذه الصورة إلا إذا قبض المشتري، ومن أمثلة ذلك: لو أنك دخلت إلى بقالة فوجدت فيها -مثلاً- علبة من الزجاج قلت: بكم هذه العلبة؟ قال بخمسة ريالات، قلت له أنزل لي واحدةً منها أو أنزل لي هذه، فأخذها البائع لينزلها فانكسرت، من الذي يضمن؟ البائع؛ لأنك لم تقبض السلعة بعد، والضمان في المبيعات قلنا: شرطه القبض، أو ما في حكم القبض من التخلية على حسب ما يجري به العرف في المبيعات، وقد قررنا هذه المسائل.
وعلى العموم: يفرق في حكم هذه المسألة بين كون المشتري قد قبض المبيع أو لم يقبض، فإن كان قد قبض المبيع انتقل الضمان إليه، وإن لم يقبضه فإن الضمان باق على البائع، والله تعالى أعلم
ضبط العلم مطلوب قبل الدعوة إلى الله
السؤال
كيف يكون السير في أمور الدعوة إلى الله لطالب العلم؟
الجواب
هناك جانبان ينبغي التنبيه عليهما: الجانب الأول: يتعلق بشخصية طالب العلم، والداعية إلى الله عز وجل، والجانب الثاني: يتعلق بالقيام بمسئولية الدعوة، والجانب الثاني -وهو الدعوة إلى الله- مفتقر بإجماع العلماء إلى الجانب الأول، ولا يمكن أن يؤمر بالدعوة إلى الله إن كان جاهلاً، وقد أشار الله إلى هذا الأصل في قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فأثبت سبحانه أن الدعوة تكون بعد العلم والبصيرة، وكذلك قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، والبينة من البيان والوضوح أي: ما يتبين به الشيء ويتضح به الأمر، وعلى هذا: فلا بد لمن يدعو إلى الله أن يكون على بصيرة وعلم ونورٍ يفرق به بين الحق والباطل والصواب والخطأ، حتى يخرج إلى الناس وأرضيته ثابتة ويكون هادياً مهدياً؛ فإن استعجل وخرج للناس قبل العلم والبصيرة والنور من الله ضل وأضل، وكان -والعياذ بالله- ممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وكم من أمم ضلت وشقيت وبليت بسبب تقدم الجهّال وادعاء العلم من الأدعياء الذين لا بصيرة عندهم! فعلى طالب العلم أن يعلم أن الله لم يكلفه الدعوة إلا بعد العلم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] هذا النفير من أجل العلم والدعوة إلى العلم فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فجعل النذارة والقيام برسالة الرسل مفتقراً إلى التفقه والتعلم، فلا يمكن لنا أن نقوم بالدعوة إلا بعد العلم.
فيبدأ أولاً: بطلب العلم والتأصيل لهذا الطلب، والتأصيل من جهة من يأخذ عنه العلم والتأصيل للعلم الذي يأخذه، والتأصيل للطريقة والكيفية التي يضبط بها هذا العلم، فإذا بنى علمه على أصل صحيح وكان هذا العلم موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذه من العلماء العاملين الأئمة المهديين، الذين جمع الله لهم بين العلم والعمل، وبين الهداية والاهتداء، والصلاح والإصلاح؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك له كما بارك لهم، ويكون علمه علم حق وبصيرة، وسينفعه الله في نفسه، وسينفع به عاجلاً وآجلاً.
ولذلك أول ما ينبغي أن نبحث في مسألة: هل الدعوة أولاً أو العلم؟ أن نقول: إن العلم هو الأساس والأصل، ونصوص الكتاب والسنة دالةٌ على ذلك، ولا يمكن أن يؤمر إنسانٌ بالدعوة إلى الله عز وجل حتى يكون على علم، لكن هناك ما يسمى بالأحوال المستثناة التي يقوم فيها الإنسان بالدعوة في حدود العلم الذي يتعلمه، وهذه المسألة أظنها هي المقصودة بالسؤال، وهي مسألة: هل لطالب العلم أن يشتغل أثناء طلب العلم بشيء من الدعوة؟ فالحقيقة من حيث الأصل والأفضل والأكمل والذي كان عليه العلماء رحمهم الله: أن طالب العلم ينبغي أن يركز كل تركيزه واهتمامه لطلب العلم، ولا يمنع هذا أنه إذا كان عليه فريضة أو وقف في موقف يحتاج إلى بيان الحق أو إحقاق الحق أو إبطال الباطل أن يتكلم، إنما المراد أن يجعل شغله ضبط العلم؛ لأنه سيخرج للأمة بخيرٍ أكثر مما لو استعجل، ولذلك وجدنا من طلاب العلم من فرغ نفسه لطلب العلم إبان طلبه للعلم، فلما خرج للأمة وضع الله له من القبول ما تدارك به أزمنة كان قد احتبسها وادخرها لطلب العلم، فقد تجد طالب العلم ينحصر ثلاث سنوات في علمٍ يتقنه ويقوم بحقوقه على أتم الوجوه فينفعه الله عشرات السنين بهذا العلم، ويبقى إماما مهديا، ويضع الله له القبول؛ لأن كل من أنصت إليه وكل من نظر إلى علمه وجد فيه الأمانة، ووجد فيه الضبط والإتقان فأحب هذا العلم، ونجد من ثمرات هذه المحبة ما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات، فإذا نُظر إلى مسألة انحصار طالب العلم وعدم استعجاله بالخروج نجد أن ذلك يفضل بكثير ما لو استعجل.
ثانياً: أنه إذا استعجل ربما استزله الشيطان، ولربما وقف في مواقف لا يستطيع فيها أن يقف عما لا علم له -نسأل الله السلامة والعافية- فلربما أفتى بغير علم، ولذلك يهلك بالاستعجال، ولذلك قال العلماء: إن الغالب في طالب العلم إذا استعجل أن يصاب بفتنة الظهور، كما قال الإمام الشافعي إذا تصدر الحدث افتتن، وقالوا في حكمتهم المشهورة: (حب الظهور قَصَم الظهور)، فإذا استعجل وظهر للناس كلما تكلم أو تعلم كلمتين أحب أن يقف فيها أمام الناس، أو كلما تعلم شيئاً قليلاً في علم أخذ يرد على الأئمة والكبار، وأخذ يقوم في المساجد والمجالس، ويتعقب هذا، ويرد على هذا، ويخطئ هذا، حتى -نسأل الله السلامة والعافية- يبتليه الله بفتنة قد تكون سبباً في هلاكه وحرمانه من الخير في دينه ودنياه وآخرته، وسنة الله معلومة في مثل هذا، فطالب العلم عليه أن يتحفظ، ولذلك الذي أوصي به ضبط العلم ما أمكن، ليس معنى قولنا: إنه لا ينشغل بالدعوة أن هذا منع أو تحريم للدعوة، لا.
إنما المراد الأفضل، إلا أن بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم وبعض العلماء المعاصرين يرى أن هذا الزمان اختلف عن أزمنة السلف، وأن الناس بحاجة إلى كل طالب علم، وأن الحاجة ماسةٌ جداً فقال: صحيح أن هدي السلف ضبط العلم أولاً ثم الدعوة، ولكن هذه الأزمنة تستلزم أن يوجد طلاب العلم وأن يوجد الدعاة أكثر، والمسألة فيها اجتهاد، لكن من حيث الأصل لا شك أن الناظر إلى حال السلف والناظر إلى حال الأئمة يجد أنهم ما خرجوا للناس إلا على بصيرة، ولا خرجوا إلا على علم وحقيقة تامة، وإذا كان بينك وبين الله إخلاص وكان بينك وبين الله ورع أن تقف قبل الدعوة وتضبط العلم خوفاً من أن يستزلك الشيطان، فاحتبست لطلب العلم، وصبرت على مجالس العلم وصابرت، فوالله لن تموت حتى يقر الله عينك بفتح منه عاجلٍ أو آجل بهذا العلم، وهذا أمر كان مشايخنا رحمة الله عليهم يوصون به أننا لا نستعجل، ويعلم الله كم رأينا من الأقران ممن يحب أن يتكلم ويلقي الكلمات ويتقدم في المجالس حتى جاء الزمان الذي رأيناهم فيه دون ذلك بكثير، ورأينا من صبر فوقهم بكثير، وهذا لا شك كثيراً ما يكون مبنياً على الورع والخوف من الله عز وجل، وحينئذٍ ننبه على مسألة وهي: أننا إذا رأينا طالب علم تخصص في طلب العلم فينبغي أن لا نشوش عليه، فبعض طلاب العلم خاصة في مثل هذه القضايا الفكرية يضيقون فيها، ويكثر فيها الأخذ والرد، وأيضاً يكثر فيها الجدال والنقاش، فهذا يخطئ هذا، وهذا يصوب نفسه ويخطئ غيره، ينبغي أن نعلم أن مثل هذه المسائل اجتهادية، وأن طلاب العلم لم يبلغوا درجات الاجتهاد في مثل هذه المسائل، فعليهم أن يسمعوا من العلماء، فمن اقتنع بقول عالم يقدم الدعوة هو مأجور -إن شاء الله- غير مأزور، ومن اقتنع بقول عالم يقول: اضبط العلم، وأعطه حقه، والله يتولى أمرك في دعوتك بعد أن تضبط، ويشهد لك العلماء أنك أهل للفتوى والتعليم، فإذا ترجح عنده هذا القول فهو على خير مأجور غير مأزور، ولا ينبغي أن يثرب أحدٌ من الطائفتين، ولكن نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا الإخلاص، فوالله ما كان الإخلاص في قليلٍ إلا كثره، ولا كان في أمر إلا باركه، وليس هذا مانعاً أن يكون لطالب العلم نوع من النفع لعباد الله، فمثلاً: لو أنه كانت له كلمة أسبوعية أو جهد منحصر بسيط جداً في الدعوة يعني: بحيث يكون فيه نفع كثير فهذا لا بأس به، لا بأس أن يكون ذلك، شريطة أن يكون الأصل هو طلب العلم، وأن يجعل هذا بمثابة التنويع الذي يقويه ويقوي عزيمته على طلب العلم، ولعله -إن شاء الله- أن يجد من صالح الدعوات من المؤمنين والمؤمنات ما يكون سبباً في رفعة الدرجات له في الحياة وبعد الممات، فإن تذكير الناس بالله ووعظهم ودلالتهم على الخير من أحب الطاعات، وأفضل القربات، وفيه خير كثير للإنسان، وكم ينتفع الإنسان بدعوات المسلمين له بظاهر الغيب، والحب له في الله، والذكرٍ له بالجميل، إلى غير ذلك مما جعله الله من عاجل البشرى في هذا العلم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما نتعلم ونعلّم، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعفو عنا فيما كان من الزلل والخلل إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم
المراد بقوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)
السؤال
ما هو المراد بقوله تعالى في كفارة اليمين في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]؟
الجواب
{ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] اختلف فيه: من العلماء من يقول: الأمر راجع إلى المكفّر وهو الذي حلف اليمين فينظر إلى أوسط طعامه، فإن كان من الأغنياء نظر إلى أوسط طعامه في غناه، وإن كان من الفقراء نظر إلى أوسط طعامه في فقره، فيخرج على قدر وسعه.
ومنهم من قال: المراد به العرف، أي: من أوسط الطعام في أعرافكم؛ ولذلك جاء بصيغة الجمع: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والفرق بين القولين: أنه على القول الأول يمكن للغني أن ينظر أوسط ما يكون له في الغنى ويكون الوسط هذا للغني أرفع ما يكون في بيئته، مثال ذلك: لو أن غنياً حلف اليمين فحنث في بيئةٍ فقيرة، أوسط طعام فيها بخمسين ريالاً، لكن بالنسبة له هو أوسط الطعام بمائتين، فحينئذٍ يكفر بالمائتين ويطعم طعام المائتين؛ لأنه هو المخاطب على القول الأول، والعبرة به من أوسط طعامه، ويكسو الفقراء والمساكين من أوسط كسوته لا من أوسط كسوة العرف، وعلى هذا القول: يعتبر التحديد للشخص نفسه، والعكس بالعكس، فلو كانت العبرة بالعرف وكان العرف أوسط الكسوة فيه بمائة ريال وهو غني، وأوسط كسوته ربما بخمسمائة ريال، فإن قلنا: العبرة به أخرج كسوة بخمسمائة، وإن قلنا العبرة بالعرف أخرج كسوة بمائة، والعرف من أقوى ما يكون في هذه المسألة؛ لأن المراد به: من أوسط ما يطعم في عرف الحالف فيخرج من أوسط الطعام، وهذا يختلف من مدينة إلى مدينة ومن قريةٍ إلى أخرى فيكفر على حسب حال عرفه في الوسط سواءً كان طعاماً أو كسوةً، والله تعالى أعلم
شبهة الرضاع المجهول عدده
السؤال
امرأة رضعت من أمي ولكن لا أعلم عدد الرضعات وأنا أجلس معها على كونها أختاً لي فما الحكم في ذلك؟
الجواب
إذا علمت الرضاعة وجُهل عددها -عند من يعتد بالعدد- فإن اليقين لا يزال بالشك، فعندنا قاعدة تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، فإذا رضعت صبية من امرأة فإن الأصل أنها أجنبية عن أولادها حتى تثبت الرضاعة التي توجب المحرمية، فإذا كان عدد الرضعات لم يتحقق أنها خمس رضعات معلومات مشبعات فإنه حينئذٍ يحكم بكونها أجنبية، وعلى هذا: لا يحكم بالرضاعة ولا تثبت، هذا هو الأصل، وهو المعتبر والمعتمد في قول من قال بالتحديد في مذاهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله ومن وافقهم؛ لكن هناك من أهل العلم من يقول: في الرضاعة جانبان: الجانب الأول: كونك تجلس معها كأختٍ لك.
الجانب الثاني: حل زواجها وأنها أجنبية، فقالوا: إذا جئنا ننظر إلى المحرمية نأخذ بالأحوط أنها أجنبية، وإذا جئنا ننظر إلى الزواج منها نأخذ بالأحوط أنها حرامٌ عليه، وهذا مبني على حديث: (كيف وقد قيل؟)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) صيغة تمريض اقتضت الاحتياط في المحرمية ولذلك قالوا: إنه يتقي نكاحها لخوف أن تكون أختاً من الرضاعة، وتغليظاً لشبهة المحرمية، يتقي محرميتها لعدم ثبوت المحرمية والأصل أنها أجنبية، وهذا مما يتنازع في الشبهات، شبهة الحل وشبهة التحريم، ولذلك يقول بعض العلماء بهذا المذهب الوسط احتياطاً فيقول: لا يتزوجها لخوف أن تكون أختاً له، ولا يجلس معها؛ لأنه لم يثبت الرضاع المحرم.
أما على القول الأول: فهي ليست بأخته ويجوز له أن يتزوجها إذا قلنا: أن الرضاع لم يثبت؛ لكن في الحقيقة القول بالاحتياط طيب، وظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) يقوي مثل هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كيف وقد قيل؟)، و (قيل): صيغة تمريض، ولذلك يقوى في مثل هذا الاحتياط، والله تعالى أعلم
متابعة المسبوق للإمام في سجدتي السهو
السؤال
ما الحكم إذا أدرك المأموم بعض الركعات فلما كبر الإمام للسهو أخطأ في فهم التكبير فقام ليتم صلاته؟
الجواب
إذا صلى المأموم وراء الإمام وأخطأ في فهم تكبير الإمام، فكبر الإمام لسجود السهو فظن أنه قد سلم فوقف، فالواجب عليه أن يرجع من وقوفه إلى السجود؛ لأن هذا الوقوف واقعٌ في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يطالبه بالقيام إلا بعد سلام الإمام، وقد قام قبل سلام الإمام، فيجب عليه الرجوع؛ لأن القيام هذا غير مشروع وغير مأذون به شرعاً، فيلزم بالرجوع، ويتابع الإمام في سجدتي السهو، فإن ترك سجدتي السهو عمداً بعد علمه بأنه أخطأ في قيامه وتعمد ذلك فبعض العلماء يقول: إن كون سجدتي السهو واجباً من واجبات الصلاة يوجب بطلان صلاته؛ لأنه ترك الواجب وراء الإمام، أو أن انفراده في صلاته عمداً يوجب بطلان صلاته، فعلى هذا: إذا لم يرجع فإنه تكون صلاته باطلة.
وأما لو سها فقام ووقف واستمر يقرأ ساهياً عن سجود الإمام، كما لو كان خارج المسجد وظن أن الإمام يكبر على جنازة أو يكبر لسجود سهو بعدي، وأتم صلاته على هذا الوجه، فللعلماء وجهان: منهم من يقول: يقضي سجود السهو بعد المفارقة، ومنهم من يقول: لا يشرع قضاؤه وقد فات بفوات المتابعة، وإن قضاه فإنه أحوط وأقوى والله تعالى أعلم
توضيح حديث الذي دخل الجنة في شوك أزاحه عن طريق المسلمين
السؤال
حديث (إن الله يرحم من عباده الرحماء) هل يدل على أن من رحم الناس فقد استوجب رحمة الله ودخول الجنة كما في حديث الذي أزال الشوك من طريق المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة؟
رحمة الله واسعة، وفضل الله عظيم، ومن ظن بالله خيراً فإن الله عز وجل يعطيه ما ظن به كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له)، وعلى هذا فحسن الظن بالله سببٌ في رحمة الرب لعبده وإحسانه إليه في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، أما من حيث الاجتهاد وكون بعض الأعمال الصالحة توجب العظيم من رحمة الله فأولاً: الله يحكم ولا يعقب حكمه، الله يفعل ولا يسأل عما يفعل، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، ولا يسأل عما يفعل ونحن المسئولون والمحاسبون، الله جل جلاله وتقدست أسماؤه يفعل ما يريد: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، فالواجب على المسلم دائماً أن لا يسأل عما يكون منه سبحانه وتعالى، لكن أجاب بعض العلماء في قضية غصن الشوك، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر عن الرجل أنه مرّ على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، في الحديث أمر ينبغي أن ينتبه له -وبعض النصوص قد يقرؤها بعض طلاب العلم، أو يقرؤها من ليس عنده إلمامٌ بأصول الشريعة فيفهمها على ظاهرها، والواقع أنه ينبغي رد هذه النصوص إلى العلماء، وأن لا نجتهد في تفسيرها إلا بالرجوع إلى الأئمة الذين أعطوا أهلية النظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله أمثال هؤلاء بالرسوخ، فأخبر أن من هناك من رسخ في العلم- فالحديث فيه: (والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، قال بعض العلماء: معناه: أن قلبه غيب الخير لعموم المسلمين، يعني: هناك أمر عقدي يرجع إلى القلب، وهناك أمر ظاهر وهو زحزحة الغصن من الطريق، فالذي زحزح الغصن لم يزحزحه خوفاً على رجل أو على رجلين، ولكن خوفاً على المسلمين، فأعطي أجراً عظيماً بالنية؛ لأن عنده الشعور بحب الخير للمسلمين، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجل لو بات وليس في قلبه غلٌ على مسلم دخل الجنة)، فكيف بمن قد انطوى قلبه وسريرته على دفع الضرر عن المسلمين؟! فهذا الشعور الإيماني نابع عن حب الخير للمسلمين، ولذلك كان العلماء يوصون بكثرة الدعاء للمسلمين، والترحم على أمواتهم، وحسن النية لعباد الله المسلمين، والشعور بأخوة الإسلام والترابط الذي أمرنا الله عز وجل أن نكون عليه بالألفة والمحبة والتناصر والتآزر، هذا هو الذي ترفع به الدرجات، وتعظم به الأجور، وتضاعف به الحسنات، فهذا الشعور الذي دعا العامل لهذا العمل اليسير جعله عظيما، وهذا معنى قول بعض السلف: (كم من عملٍ يسير عظمته النية) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يقرض الناس، فقال لأعوانه: إذا رأيتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله، فقال الله عز وجل: نحن أحق وأولى بالعفو منه، تجاوزوا عن عبدي)، قالوا: لأنه من الممكن أن الشخص يسامح المديون من باب الشفقة والرحمة فهذا له منزلة، وممكن أن يسامح المديون من باب الشكر للنعمة؛ لأنه حينما أحس أن الله أغناه وأفقر غيره ونظر إلى نعمة الله عليه تذكر أيضاً قدرة الله عليه مع الغنى، فأصبح كأنه ليس بيده شيء فقال: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فأصبحت نيته صالحة موجبة لهذه العاقبة الحميدة، ولذلك ينبغي أن ينظر إلى النص بجميعه بما فيه من نية الباطن ودلالة الظاهر، وأما الفعل المجرد فإن الأفعال قد يفضل الله بعضها على بعض، وقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، فأفضل الأعمال وأحبها إلى الله أعمال القلوب التي تتصل بالعقيدة من التوحيد والإيمان ولوازم هذا الإيمان، فإن أعمال الجوارح لا تبلغ ما تبلغه هذه الأعمال كحب الله سبحانه، والإخلاص لله بالعبادة، وإفراده بالعبادة، وصدق اللجوء إليه بالرغبة والرهبة والخشية والخوف، فالإنسان إذا كان كثير الخوف من الله عز وجل والخشية له ربما أنه تمر عليه لحظة وهو يستشعر عظمة الله عليه فتفيض عيناه من الدمع، فيغفر الله بهذه الدمعة ذنوبه كلها، فالإنسان إذا أعانه الله سبحانه وتعالى ينبغي أن ينظر إلى فضائل الأعمال، وأن يختار منها أجمعها وأعظمها على الخير، وأما الرحمة التي سألت عنها (فإن الله يرحم من عباده الرحماء) رحمةُ الله ليس لها منتهى، ومن رحمته سبحانه: إذا أراد المسلم أن ينظر إلى عظيم رحمته فلينظر إلى ما في هذا الكون من رحمة الخلق بعضهم ببعض، فهو جزءٌ من مائة جزء من رحمة الله عز وجل، فإن الله عز وجل قسم الرحمة إلى مائة جزء، وأرسل للعباد جزءاً واحداً، وهذا الجزء هو الذي يراه الإنسان من رحمة الوالدة لولدها، ورحمة الوالد بولده، ورحمة الناس بعضهم ببعض، فإذا كان يوم القيامة جمع ذلك الجزء إلى ما عنده فرحم به خلقه سبحانه وتعالى، وأعظم ما يرحم الله به عبده العفو والمغفرة، فإنه من أعظم نعم الله عز وجل على العبد، أن يتلقاه بعفوه ومغفرته، خاصةً إذا تاب العبد إليه وأناب إليه سبحانه: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي) فالإنسان حينما يتذكر أنه يسيء ويظلم ويخطئ، ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ستر خطيئته وعيبه وفضيحته، وأعطاه الحول والقوة ومكنه، ومع ذلك: لو أذن للأرض أن تخسف به لانخسفت، ولو أذن للسماء لأرسلت قاصفاً من الريح فأهلكه، ولو شاء الله عز وجل أن يمسخه على مكانته فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا، لقدر الله على ذلك ولا يعجزه شيء، ولكن من رحمته سبحانه لم يفعل به ذلك كله، ثم إذا تاب وأناب ورجع إلى الله تلقاه الله بعفوه ومغفرته، فما أكرمه وما أحلمه وأرحمه! فيفرح بتوبته، والعبد أفقر ما يكون إليه، وهو سبحانه أغنى ما يكون عنه، سبحانه ما أرحمه، سبحانه ما أرحمه! فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا برحمته الواسعة، اللهم إنا نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا، وتؤلف بها بين أرواحنا، اللهم إنا نسألك رحمةً تهدينا بها فلا نضل أبداً، وتصلح بها أحوالنا فلا تفسد أبدا، وتثبتنا بها على صراطك المستقيم، وسبيلك القويم يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين