شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (345)
صـــــ(1) إلى صــ(19)
شرح زاد المستقنع - باب الشركة [2]
من الأمور المترتبة على عقد شركة العنان: تصرف الشريك في مال شريكه بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه، ويترتب على هذا أحكام الوكالة من الأمانة والنصح لمن يعامله ويشاركه، والضمان عند التعدي والإفراط، سواء في النقد أو في الشرط
تصرف الشريك في مال شريكه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فينفذ تصرف كل منهما فيهما]: يعني: في المالين.
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان حقيقة شركة العنان في اللغة والاصطلاح.
ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يترتب على وجود عقد هذه الشركة، و (الفاء) هنا للتفريع والتفصيل، فإذا ثبت أنه يجوز للطرفين أن يشتركا بماليهما ويكون ذلك على سبيل شركة العنان، فإنه يترتب على ذلك أن ينفذ تصرف كل منهما في المالين، فلو دفع زيد عشرة آلاف ريال ودفع رجل آخر عشرة آلاف ريال واشتركا، فإنه حينئذٍ يحق لكل واحد منهما أن يتصرف في ماله؛ لأنه يملكه في الأصل، ويحق له أن يتصرف في مال أخيه وصاحبه؛ لأنه وكيل عنه.
وإذا أُثبت في قوله: [فينفذ تصرف]: فالعقود: - فيها ما هو نافذ.
- وفيها ما هو موقوف.
- وفيها ما هو صحيح.
- وفيها ما هو فاسد.
- وفيها ما هو باطل.
فإذا قيل: عقد نافذ ترتبت عليه الأحكام الشرعية.
مثلاً: البيع، إذا قلنا: هذا بيع نافذ فإننا حينئذٍ نحكم بملكية الثمن والمثمن على سبيل المعاوضة بين الطرفين، ونحكم بالآثار المترتبة على البيع، فإذا قلنا: ينفذ تصرف كل منهما، فهذه العشرون ألفاً التي اتفقا عليها واشتركا فيها لو باع أحد الشريكين واشترى بهذا المبلغ فإنه ينفذ تصرفه، فلو أخذ العشرين ألفاً وأخذ منها خمسة آلاف، وصرفها دولارات، وتاجر في العملة، وأصبح يربح من خلال متاجرته وصرفه، قلنا: إن تصرفه صحيح؛ لأنه يتصرف في مال إما أصالةً وهي العشرة آلاف التي يملكها، وإما وكالةً بالنسبة لنصيب صاحبه، فأي مبلغ يسحبه من الشركة التي هي رأس مالها عشرون ألفاً، إذا سحب عشرة آلاف من العشرين ألفاً فخمسة آلاف يتصرف فيها بالأصالة، وخمسة آلاف يتصرف فيها بالوكالة.
كذلك أيضاً لو أنهما دفعا في شركة العنان خمسة ملايين، واتفقا على أنهما يتاجران بهذا المبلغ، فاشترى أحدهما عمارة لكي يستثمرها، فإن هذا الشراء والعقد الذي تم بمال الشركة عقد صحيح وينفذ وتترتب عليه الأحكام الشرعية، فيصح شراؤه، ثم بعد مدة لو رأى أن هذه العمارة من المصلحة أنه اشتراها بمليون على حساب الشركة وسيبيعها بثلاثة ملايين أو بأربعة ملايين فباعها، فإن البيع صحيح كما لو باع ماله هو؛ لأنه بمقتضى عقد الشركة صار إما أصيلاً يتصرف في المال أصالةً، وإما أن يتصرف فيه وكالةً، هذا معنى قوله: [فينفذ تصرف].
كذلك أيضاً لو أنهما اشتريا عمارةً بمليون، فهذه العمارة تكون ملكاً للطرفين، فلو أن أحدهما أجَّر هذه العمارة في الموسم بخمسمائة ألف أو بمليون أو بأي مبلغ ما دام أنه في حدود التصرف المعقول والمقبول وفق عرف أهل التجارة، نقول: إن التأجير الذي تم تأجير صحيح، وعقده صحيح، فليس للآخر أن يقول: أن أملك من العمارة نصفها فلا تؤجرها، أو يقول: العمارة أملك نصفها فلا تبعها، ولا يقول أيضاً: الخمسة ملايين أملك نصفها فلا تشترِ أية عمارة، ولا تشترِ العمائر، ليس من حقه، كل منهما يتصرف في هذا المال وفق المصلحة، ووفق ما فيه خير الشركة، وما يعود عليهما بالنفع
تصرف الشريك في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه
قوله: [بحكم المُلك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه]: (المُلك أو المِلك أو المَلك) هو مثلث من المثلثات، بحكم المُلك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب صاحبه، إذا اشترك الاثنان في مال الشركة فإن كلاهما أصيل في ماله وكيل في مال الآخر.
وقول المصنف: [بحكم]: يعني: أن القاضي والفقيه والمفتي يفتي ويحكم بصحة هذا التصرف بناءً على أن عقد الشركة يقتضي أنه مالك لنصيبه؛ لأنه ماله وخرج من ماله، ويقتضي أيضاً أنه وكيل عن صاحبه
تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة في نصيب شريكه
قوله: [وبالوكالة في نصيب شريكه]: يعني: بحكم الوكالة.
وإذا قلتَ: إن الشريك مع شريكه وكيلٌ، تترتب عليه أحكام الوكالة
أحكام الوكالة المترتبة على تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة
وبناءً عليه: فأول مسألة أن يده على مال صاحبه يدُ أمانة، وقد قدَّمنا في باب الوكالة أن الوكالة تقتضي أن يكون أميناً على مال موكله، فإذا قلتَ: إن يده يدُ أمانة، تتفرع جميع الأحكام المتعلقة على يد الأمانة.
فتقول
الأمانة
- أولاً: مقتضى كونِها يد أمانةٍ: أن يتصرف بكل نزاهة بعيداً عن الخيانة والإضرار، فكل من الشريكين يجب عليه أن يكون ناصحاً لشريكه، وأن يكون قلبُه وقالَبُه على وَفْق المصلحة، فلا يُظْهِرُ أنه شريكُه في الظاهر ويريد أن يضر به في الباطن.
- ثانياً: لا يتعامل في الظاهر بما يخالف مقتضى الأمانة.
إذاً: عندنا جانبان: - ما يتعلق بقلبه إذا غش أخاه.
- إذا كان في ظاهره أنه لا يريد تنمية مال التجارة، ولا يريد تنمية مال الشركة.
فإنه يأثم شرعاً؛ لأنه دخل مع أخيه على النصيحة للمسلم، وأنه يريد أن يستثمر ماله، فيجب عليه أن يتعاطى جميع الأسباب.
قال بعض العلماء: ومقتضى ذلك أنه لو كان هناك عمل معين من التجارات يحسن القيام به والظروف مهيأة للقيام به، وعلم أن مصلحة مال الشركة أن يدخل في هذا المال فتأخر؛ فإنه يعتبر خلاف الأمانة، ولا يخلو من تبعةٍ ومسئوليةٍِ أمام الله عزَّ وجلَّ، لماذا؟ لأنهما حينما تعاقدا -والله مطلع على هذا العقد وآمرٌ لكل منهما أن يفي بمقتضى العقد- قد تعاقدا أن ينصح كل منهما للآخر، وتعاقدا على أن يبذل كل منهما ما في وسعه لتنمية المال كأنه ماله.
وعلى هذا: أولاً: ينبغي عليه النصيحة لمن يعامله ويشاركه
الضمان عند التعدي أو التقصير في النقد والبيع والشراء
ثانياً: لا يجوز له أن يتسبب في إدخال أي ضرر من خلال تصرفه في مال الشركة، فكل تصرف من الشريكين يُضْمَن بضابط الوكالة، فإن كان التصرف الذي قام به معتبراً عند أهل الخبرة، وليس فيه تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، وإن تعدى أو فرط من خلال تصرفه فإنه يضمن المال، ولا يكون -في هذه الحالة- الشريكُ متحملاً المسئولية.
أ- بيع النسيئة: ومثال ذلك لو أن اثنين اشتركا بمليون لاستثماره في التجارات، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن أحدهما أخذ من المليون نصفها -مثلاً- واشترى نوعاً من السلع، وأصبح يبيعها بالنسيئة والأجل ولا يبيعها نقداً، أو يبيع بعضها نسيئةً وبعضها حاضراً ونقداً، فنقول: إن الوكيل لا يجوز له أن يبيع نسيئة إلا إذا أذن له موكله.
وعلى هذا: فلو أنه اشترى -مثلاً- بمليون ريال سلعاً، فباع نصفها نقداً ونصفها نسيئةً، نقول لشريكه: ما رأيك في هذه المسألة؟ هل استأذنك؟ فإن قال: لم يستأذني فإن مقتضى الوكالة ألا يبيع نسيئةً حتى يستأذن صاحبه، فإن عَدَلَ عن هذا الأصل فقد تعدَّى وفرَّط.
فنقول: بالنسبة لما بعتَه نقداً فهو بينك وبين أخيك، وما بعتَه نسيئةً فإنك تتحمل المسئولية عن جميع المبلغ، والمقدار الذي يتعلق بشريكك تدفعه له ولا يتحمل قيمة ذلك نسيئةً، هذا بيع، وأنت تصرفت فيه من عند نفسك، وتتحمل مسئوليته.
هذا إذا كان بيع النقد وبيع النسيئة.
ب- البيع عن طريق فيه مخاطرة: ولو أن اثنين دفع كل منهما عشرة آلاف ريال، فأصبح رأس مال الشركة عشرين ألف ريال، واشتريا به محلاً تجارياً، كأن يكون محل طعام، أو محل أدوية، أو محل أكسية أو نحو ذلك، فقام أحدهما وباع وأصبح يصرف البضاعة عن طريقٍ فيه مخاطرة.
ومن المعلوم أن البيع: - يكون نقداً.
- ويكون -مثلاً- عن طريق الشيكات.
والذي عن طريق الشيكات ليس كالذي هو نقد، فالنقد مضمون الحق؛ ولكن الذي عن طريق الشيك لا يأمن أن يكون الشيك بدون رصيد، وأيضاً لا يأمن ضياع الشيك، أو تحمل المسئولية في هذا الشيك، ففيه نوع من المخاطرة.
فإذا باع وأخذ وقبض المبلغ فلا إشكال، ولا ضرر على الشريك الآخر.
لكن لو أنه باع بالشيك، ثم تبين أن الشيك بدون رصيد، فقد تكون هناك مسئولية، ولا شك أنه سيتحمل المسئولية، فهذا الشيك -الذي هو بدون رصيد- سيضطر إلى انتظار تسديد المبلغ من هذا الشخص، فلو كان هذا الشخص قد تحمل عشر عمليات أو ثلاث عمليات أو أربع أو خمس، بهذه الطريقة، فسيصبح مديوناً لخمسة أو ستة، فلو دخلت الشركة في هذا الدين ربما جلست سنوات، وهذا مفلس، لو فرضنا أنه مفلس، وأعطى الشيك بدون رصيد، فستتضرر الشركة بتأخر سداده.
فحينئذٍ نقول: ما دمت قد أعطيت على هذه الوجه الذي فيه وجه النسأ فإنك تتحمل المسئولية لوحدك، وإذا رضي الشريك أن يدخل معه، وقال: أتحمل معك المسئولية فلا إشكال، أما إذا قال الشريك: لم أسمح لك أن تبيع بهذه الطريقة، وقد بعت بها؛ فإنك تتحمل المسئولية، وحينئذٍ تغرم للشريك حصته، فلو كانت الصفقة التي أتممتها -فرضاً- بخمسة آلاف ريال، فإن للشريك فيها ألفين وخمسمائة ريال تعطيه إياها نقداً قيمة المبيع حاضراً، ثم وجهه على هذا الذي ماطل.
إذاً: حينما قلنا: إنه بحكم الوكالة في مال صاحبه يستلزم هذا أن تترتب مسائل الوكالة على هذا النوع من المعاملة، وهذه فائدة: أن العلماء قدموا باب الوكالة على باب الشركة؛ لأن هناك مسائل في الشركة تترتب على الوكالة، ولأن الشركة تعتبر نوعاً من أنواع الوكالة؛ ولأن كلاً من الشريكين ينظر إلى المصلحة في ماله أو في الجزء الذي يتعلق به من مال الشركة.
ج- البيع بغير نقد البلد: وقول المصنف: [وبالوكالة في نصيب شريكه]: يطَّرِد في جميع المسائل، فلو أن الوكيل باع بغير نقد البلد، مثلاً: المعروف عندنا أننا نتعامل بالريالات، فباع بالدولارات، والبيع بالدولارات مشكلتها أنه إذا باع بغير نقد البلد لم يأمن أن تكون القيمة ناقصة، فاليوم -مثلاً- قيمة الدولار ثلاثة ريالات، وقد تكون في الغد ريالين، فحينئذٍ تكون -مثلاً- السلعة بثلاثة آلاف ريال، فإذا باعها فسيبيعها بألف دولار اليوم؛ ولكن المبلغ إذا صُرِف في الغد فسيصرف بألفين.
إذاً: البيع بغير نقد البلد فيه مخاطرة، فربما ترتفع قيمة النقد فيكون أربح للشركة، وربما نزلت قيمة النقد فأضر بالشركة.
وبناءً على ذلك: إذا باع الوكيل بغير نقد البلد ضمن.
ففي جميع هذه المسائل: أن يبيع نسيئة، وأن يبيع بغير نقد البلد، وأن يخاطر، كل هذه المسائل يتحمل الشريك فيها المسئولية إذا لم يجرِ العُرْف بذلك، ولم يكن هناك شرط -أي: استئذان- فلو أنه استأذن صاحبه وشريكه وقال له: يا فلان! نحن لو أننا لم نبِع إلا نقداً لأضررنا بمصلحة الشركة، فأرى من مصلحة الشركة ومن كثرة من يتعامل معنا أن الأفضل والأصلح أن نقبل هذه الشيكات أو أن الأفضل والأصلح أن نبيع بالنسيئة والأجل إلى سنة أو إلى سنتين، فإن قال له: قبلت فيتحملان المسئولية معاً.
ولو أن هذا المماطل والمفلس جلس سنوات فإنهما يتحملان المسئولية معاً.
هذا بالنسبة لو استأذنه.
كذلك لو قال له: يا فلان! أريد أن أبيع بالدولارات، أو ثمة أناس سيأتونني بجنيهات فهل أبيع فقط بالريالات؟ أو أبيع بالعملة الأخرى؟ فإن له: بِعْ بأية عملة، فهذا تفويض.
ولو باع بأية عملة، فغلت العملة أو رخصت فإنها تكون على مال الشركة ربحاً وخسارة.
وهذا معنى قوله رحمه الله: [وبالوكالة في نصيب شريكه]
الضمان عند التعدي أو التفريط في الشرط
قال العلماء: كما أن النقود وصفة البيع والشراء يتحمل فيها الوكيل المسئولية، كذلك يتحمل المسئولية عن شرط الشركة.
أ- مخالفة المكان المشروط لعمل الشركة فيه: فمثلاً: لو أن اثنين دفع كل منهما خمسة آلاف ريال، فأصبح رأس مال الشركة عشرة آلاف ريال.
وقال: يا فلان! نشترك -يعني: هذه شركة بيننا-؛ ولكن أشترط أن تكون شركتنا في المدينة، أو أشترط أن يكون عملنا في مكة، أو أشترط أن يكون عملنا -مثلاً- في هذه القرية، ولا نخرج عنها، فأنا أرى أنه من الخطر أن نخاطر ونخرج بشركتنا إلى مكان آخر، فإن قال: قبلتُ وقع الاتفاق بينهما على أن عمل الشركة يكون في المدينة، أو في مكة، أو في أي موضع، ويجب على الشريك الآخر ألَّا يجاوز هذا الاتفاق، فلو أنه خرج بالمال من مكة التي اتُّفِق على البيع فيها فبمجرد خروجه من مكة يُصبح المال في ذمته، ويخرج المال من الوكالة إلى باب الضمان.
وعلى هذا لا يتاجر إلا في حدود ما اتُّفِق عليه.
ب- مخالفة السلع المشروطة: كذلك لو قال له: يا فلان! هذه عشرة آلاف ريال؛ ولكني لا أستطيع أن أعمل بهذه العشرة آلاف إلا في تجارة العود أو في تجارة الطيب عموماً، فإن قال له -مثلاً-: في تجارة الطيب فقال: لا أريد إلا العود، ولا أريد إلا الخشب من العود، أو أريد الدهن من العود، أو أريد الدهن من الأطياب، أو أريد ثلاثة أنواع من الطيب، فبمجرد خروجه عن هذا المتَّفَق عليه خرج عن الشركة، وأصبح متحملاً المسئولية بذلك التصرف وضامناً للمال.
ج- مخالفة نوع التعامل المشروط: وهكذا بالنسبة للتعامل، فإذا قال له: نتعامل مع التجار، ويكون بيعنا بالجملة.
فباع بالمفرَّق، فإنه في هذه الحالة يضمن.
وكل ما اتُّفِق عليه من بنود الشركة وصار بينهما شرطاً -بشرط ألَّا يتضمن الغرر، وألَّا يتضمن الضرر- فإنه يصبح لازماً للطرفين.
د- مخالفة العرف فيما يوجب الضرر: - أيضاً: بالعرف: قد يكون العرف دالاً على تضمين الشريك.
الآن -مثلاً- لو أن شخصاً اتفق مع آخر، فدفع أحدُهما عشرة آلاف، والآخر عشرة آلاف، فأصبح رأس المال عشرين ألفاً، فاحتِيْج أن يتاجَرَ في القماش، فقال أحد الشريكين للآخر: سأسافر وأحضر القماش الذي نريد أن نتاجر فيه.
فقال له: سافِرْ، فسافَرَ واشترى صفقة من القماش بعشرة آلاف، فأراد أن يأتي بها، ويجلبها إلى المكان المتفق عليه بين الطرفين، فإذا به متردد بين ثلاث وسائل: وسيلة أكثر خطراً وضرراً، ووسيلة أقل خطراً وضرراً، ووسيلة بينهما، ولا يُقْدِم أحدٌ على النقل بالوسيلة التي هي أكثر مخطارة إلا ويتحمل المسئولية، فإنه لو كان -مثلاً- نقل البضاعة عن طريق البحر غير مأمون، فحينئذٍ يعدل إلى البر، فإن أصر على نقلها بالبحر نقول: يستأذن شريكه، فإن أذِنَ فالحمد لله، فلو غرقت السفينة غرقت عليهما، فإن لم يستأذنه فالعرف قاضٍ أنه إذا سلك هذا الطريق فقد خاطر وغرر بمال الشركة، فيتحمل المسئولية.
إذاً: كوننا نقول: يُعطى حكم الوكالة، فهذا يوجب الدخول في جميع التصرفات.
فكل ما يتصرف به الشريك في مال الشركة يتصرف به وَفق ما هو معروف وبمجرد خروجه عن المعروف المألوف يتحمل المسئولية، وبمجرد خروجه عن الشرط المتفق عليه بين الطرفين يتحمل المسئولية.
وقس على هذا ما يكون من مسائل التجارة بمال الشركة
شروط شركة العنان
[ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، ولو مغشوشين يسيراً]: الشركة تأتي على أقسام: القسم الأول: ما يسمى بشركة الأموال.
والقسم الثاني: يسمى بشركة الأعمال.
والقسم الثالث: يسمى بشركة الوجوه.
فشركة الأموال تشمل نوعين: - العنان.
- والمفاوضة.
ورأس المال -في كل من العنان والمفاوضة-: من النقود، على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في شركة المفاوضة؛ لأن الأمر أوسع منه في شركة العنان، وأما بالنسبة لشركة الأموال فلابد من أن يجتمع الطرفان أو الشريكان أو الثلاثة الشركاء أو الأربعة في المال، بخلاف شركة الأعمال، فقد يكون العمل من أحدهما والمال من الآخر، أو يكون العمل من الاثنين، فالأول: مضاربة، والثاني: شركة أبدان
شروط متعلقة بالشريكين
بالنسبة لمسألة الشروط المتعلقة بشركة العنان: فبعضها يتعلق بالشريكين، وبعضها يتعلق بمحل الشركة الذي هو المال المتفق عليه، وما ينتج عنه من الربح.
فأما بالنسبة للشريكين فقد ذكرنا أنه يُشترط فيهما أهليتهما للشركة، وذكرنا هذه الأهلية وضوابطها
الشروط المعتبرة في محل الشركة
يبقى
السؤال
ما هو الشرط المعتبر في محل الشركة؟ محل الشركة: مكان التعاقد، فإذا تعاقدا على شركة العنان، فينبغي أن يكون لها ضوابط وشروط: أ- رأس المال المعلوم: الشرط الأول: رأس مال، وأن يكون معلوماً: وبناءً على ذلك: فلو قال له: أشاركك بمالٍ، ولم يبين نوع المال ولا جنسه ولا قدره ولا صفته، فإن الشركة لا تصح؛ لأنها شركة بمجهول.
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن شركة العنان إذا وقعت بمال معلوم -والمال المعلوم: كقولك: أشاركك بعشرة آلاف مني وعشرة آلاف منك، فالعشرة آلاف ريال معلومة- فحينئذٍ تصح.
وأما بالنسبة للجهالة فيستوي أن يكون جهالةَ جنس، أو جهالةَ نوع، أو جهالةَ قَدْر، وقد فصلنا في أنواع الجهالات في باب البيوع.
لكن من أمثلتها: النقدان: فإن قال له: أشاركك بذهب، أو أشاركك بفضة فقد حدد الجنس، وحدد النوع بقوله: ذهب، أو قوله: فضة؛ ولكنه لم يحدد قَدْر الذهب وقَدْر الفضة، ولا نوع الذهب والفضة، هل هو تِبْر أم مصوغ أم مضروب، فحينئذٍ تكون جهالة، فهذا النوع من الجهالة يقتضي عدم صحة الشركة.
فلابد أن يعين تعييناً يوجب ارتفاع الجهالة، وقد ذكرنا ضوابط التعيين وما ينبغي أن يلتزم به المتعاقدان إذا اشترطنا العلم بالثمن والمُثمن.
يقول العلماء: إن محل الشركة الذي اتفق عليه الطرفان -وهو رأس المال- يُنَزَّل منزلة الثمن والمُثْمَن في البيع، لأن المراد من الثمن والمُثْمَن في المعاوضة بينهما: الربح، وكذلك في الشركة حينما دفعتَ أنتَ خمسة آلاف، ودفعتُ أنا خمسة آلاف، فمقتضى ذلك والمقصود من ذلك: أن تربح هذه العشرة، فتربح في نصيبك، ويربح أيضاً من يشاركك في نصيبه.
إذاً: الخلاصة: يشترط في صحة عقد الشركة أن يكون رأس المال معلوماً، فلا يصح أن يكون بالمجهول، ورأس المال إما أن يكون من النقدين؛ الذهب والفضة، أو يكون من غير النقدين، وسنبين حكم شركة العنان بغير النقدين، كالعُروض، فمثلاًَ: لو جاء يُمَثِّل بالنقدين عرفنا المثال؛ لكن من غير النقدين، مثل أن يقول له: أشاركك بهذا الكيس من الأرز -على القول بصحة شركة العنان بالعُروض، وسنبين ما هو الصحيح في هذه المسألة-، فلو دفع أحدهما كيس أرز، والثاني كيس سكر، على أن يباع وبقيمتهما تكون الشركة، فقالوا: إذا كان مجهول الكمية لا يصح؛ لأنه ربما ظن صاحبه أن هذا الكيس سعته مائة كيلو، ولربما ظن أنه مائة وخمسين، وإذا به أقل من ذلك، فإذا كان الطعام جزافاً وكان غير معين وزناً ولا كيلاً فإنه حينئذٍ لا يصح أن يُشارك عليه؛ لكن لو عُرِف أن هذا النوع من الأكياس فيه مائة كيلو فالمعروف عرفاً كأنه تلفظ به؛ لكن نتكلم إذا كان مجهول القدر، فهذا مثال الجهالة في رأس المال إذا كان من العُروض.
أو يقول له: أشاركك بسيارة من عندي بقيمة سيارة من عندك.
فالسيارة التي عنده أو قيمة هذه السيارة مجهولة، لا ندري هل هي غالية فتكون كما يرجو الشريك، أو تكون دون ذلك؟! الخلاصة: أنه يشترط أول شيء: العلم برأس المال، ولا يصح أن يكون رأس مال شركة العنان مجهولاً.
نعم.
ب- أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين: [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين]: هذا هو الشرط الثاني: النقدان هما: الذهب والفضة، وسبب تسميتهما بالنقدين كما قال بعض العلماء: أنهم كانوا في القديم إذا دفعت الدراهم وهي من الفضة، أو دفعت الدنانير وهي من الذهب، فإنها تُنْقَد وتُخْتَبر؛ لأنها ربما كانت زائفة، وربما كانت مغشوشة، فقد يكون ظاهرها ذهباً؛ ولكنها مغشوشة في داخلها، ويعرف ذلك بإنكسارها عند محاولة كسرها، كذلك تختبر بالضرب على الأرض، والصيارفة لهم ذوق وحس في ذلك.
فإذا اتفق اثنان على شركة عنان برأس مال من ذهب أو رأس مال من فضة من النقدين، الدراهم أو الدنانير، وفي زماننا الريالات أصلها فضة، والدولارات والجنيهات والليرات والدنانير أصلها ذهب، فهذه العُملة إذا اتُّفِق على أي نوع منها ننظر إلى رصيده وأصله، ننظر إلى الأصل، فإذا اتُّفِق في الريالات فشركة العنان هذه بفضة، وإذا اتفق على الجنيهات فهي شركة عنان بذهب، فإذا اتفق الطرفان على شركة عنان بذهب بقدر معلوم، فإن الشركة تصح بإجماع العلماء، وكل العلماء متفقون على أن الشريكين إذا دفعا من النقدين من الذهب أو الفضة واتفق النوع أنه ذهب من الطرفين أو فضة من الطرفين فإن شركة العنان صحيحة، وليس هناك خلاف بين أهل العلم، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء رحمهم الله وأشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة، والإمام ابن المنذر وغيرهما رحمة الله عليهم: أنه إذا اتفق الطرفان على ذهب مضروب أو فضة مضروبة -وفي زماننا العُملة على حسبها- أن الإجماع قائم؛ هذا إذا اتحد يعني: كان ذهباً من الطرفين، أو فضةً من الطرفين، أو أية عملة أخرى متحدة من الطرفين.
أما لو أن أحدهما دفع ذهباً والآخر دفع فضة فحينئذٍ شدّد طائفة من العلماء ونُسب هذا القول إلى الجمهور، فقالوا: لا يصح أن يدفع أحدهما بالذهب والثاني بالفضة؛ لأنه إذا وقع العقد على هذه الصورة فإنه يتضمن عقدين في عقد واحد، وأيضاً ربما تضمن الغرر.
وتوضيح ذلك: قالوا: لأنه إذا دفع أحدهما الذهب ودفع الآخر الفضة؛ فمعناه أننا سنضطر: إما إلى صرف الذهب، أو إلى صرف الفضة؛ لأنه لا يمكن أن تكون الشركة مُقَدَّرة حتى نعلم قدر رأس المال، فنحتاج -مثلاً- لو كان الرواج للذهب إلى أن نصرف الفضة بالذهب، فإذا كانت الدراهم في يوم الشركة نقول -مثلاً- الثلاثة دراهم أو الخمسة دراهم بدينار، فلو صُرِفت الثلاثة بدينار فإنها قد تأتي في الغد بأقل، وقد تأتي في الغد بأكثر، وقيل: إذا اتَّفَقَ اليوم فإن الصرف غداً يختلف، وحينئذٍ يتفقان على رأس مال بقيمة، وفي الغد تختلف القيمة، فلا يؤمَن الغرر، وحينئذٍ يدفع رأس مال معلوم أم مجهول؟ قيل: مجهول، صحيح أنه في الظاهر معلوم؛ لكنه سيئول إلى جهالة، إذْ لا نضمن أن يكون الصرف غالياً، ولا نضمن أن يكون الصرف رخيصاً، وكذلك في زماننا، لو دفع أحدهم بالريالات، ودفع الآخر بالدولارات فمعنى ذلك أنه يحتاج إلى صرف الدولارات بالريالات إذا كان الرواج للريالات، أو يحتاج إلى صرف الريالات بالدولارات إذا كان التعامل بالدولارات، وهذا الصرف لا يُضمن؛ لأنه إذا قال له: ادفع ثلاثين ألف ريال، وأدفع أنا عشرة آلاف دولار؛ لأن الصرف اليوم للدولار بثلاثة ريالات، فحينئذٍ يكون قد اتفق معه على شيء لا تُضْمَن نتيجته، فاليوم كما ذكرنا ربما تكون بثلاثة ريالات، وآخر النهار ربما يرتفع وربما ينخفض، وربما بقي على حاله.
فرأس المال متردد ومتذبذب ولا يمكن أن يُضمن بقاؤه على حال واحدة.
فلذلك شدد فيه طائفة من العلماء رحمهم الله؛ لكن على القول بأنه يجوز أن يدخل في الشركة بذهب مقابل فضة، وبفضة مقابل ذهب.
فالسؤال: كيف تطبق الأحكام؟ قالوا: يكون احتساب الصرف بيوم العقد، وهذا المبلغ يُنَزَّل على يوم العقد، وعند التقاضي يُرجع إلى القيمة يوم الاتفاق ويوم التعاقد.
وهذا لا شك أنه يوجِد شبهةً.
والذي ذكره أصحاب القول المانع، حتى نُسب إلى الجمهور، وشبهتهم قوية؛ لأنه لو أرادا أن يتخذا رأس ماليهما خاصةً عند حصول ضرر أو حصول مفسدة أو حصول أمر يوجِب انفساخ الشركة فجأة، فإننا قد نصرف الأربعة ريالات بدولار، وحينئذٍ يكون رُبُعُ المال مستهلَكلاً للطرف الثاني، مثلاً: لو أن الشركة دخلت بمائة ألف ريال، وهذه المائة ألف في الأصل مقسومة: خمسون ألفاً من هذا، وخمسون ألفاً من هذا، فالخمسون ألفاً من أحدهما كانت دولارات فصُرِفت ريالات في يوم التعاقد، وفي اليوم الذي حصل فيه ما يوجب فسخ الشركة ورجوع كل منهما برأس ماله على صاحبه أو على مال الشركة يوجب أن نعرف كم لهذا من الدولارات، فحينئذٍ سنضطر لو أنه صفيت الشركة على المائة ألف نفسها؛ لكنها نفس المائة ألف في ذلك اليوم كانت الدولارات غالية، فسيدخل قدر من صاحب الدولارات على صاحب الريالات؛ لأنه لا يستطيع أن يعاوضه إلا بحصول نقص في رأس المال، وكذلك أيضاً العكس، فلو أنها صرفت في النقص؛ فحينئذٍ سيأخذ صاحب الريالات ربحاً؛ لأنه سيحصل هناك نوع من الفضل، فلو فرضنا أنه في يوم التصافي بينهما، وعندنا الخسارة وعندنا الربح، فأنت إذا جئت تنظر إلى مائة ألف ريال، فإن خمسين ألف ريال منها لكل واحد منهما، فلا تستطيع أن تؤمِّن رأس مال هذا إلا بأكثر من خمسين ألفاً، في حالة ما إذا جئت تصرف دولارات حتى ترد له رأس ماله، وحينئذٍ يحصل الضرر فيدخل أحدهما على الآخر في حال الزيادة، وفي حال النقص لو أن الدولارات صُرفت بنصف قيمتها، يعني: كانت بأربعة ريالات حينما اتفقا على الشركة، وحينما فسخا الشركة كانت قيمة الدولار ريالين، فإذا كانت قيمة الدولار ريالين فمعناه أن هذا نصف القيمة، وستصبح المائة ألف فيها ما هو ربح، فيُقسم رأس المال ويُعطى هذا الدولارات التي له، ويُعطى هذا الريالات التي له، ويبقى نصف قيمة الدولارات الذي يعادل الثمن؛ لأنه يدخل بتشطير المبلغين، هذا الثمن سيأخذ (1 على 16) الطرف المقابل، وهذا القدر الذي هو (1 من 16) في الأصل من قيمة الدولارات.
إذاً: دخول العملتين المختلفتين في شركة بهذا الوجه يوجد نوعاً من التداخل ونوعاً من الإضرار لأحد الشريكين في مال الآخر، وفي حال الغلاء قد يتضرر الطرف الذي بالعملة الثابتة، وفي حال الرخص يتضرر الطرف الذي شارك بالعملة غير الثابتة، والتي صُرِف مال الشركة بها.
وعلى هذا فإنه يقوي مذهب من قال: إنه لابد من اتحادهما في النوع.
أي: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة.
وقوله رحمه الله: [من النقدين]: فيه مسألتان: المسألة الأولى: صحة شركة العنان إذا كانت من الذهب أو الفضة: على التفصيل الذي ذكرناه.
وهذا -كما ذكرنا- إجماع؛ أنك لو اتفقت مع أخيك على ريالات أو دولارات فإنه لا إشكال في صحة شركة العنان.
ج- النقد المضروب: المسألة الثانية في (النقدين): يشترط أن يكونا مضروبين: فلو أنه اتَّفَق معه بذهب أو فضة من غير النقد المضروب لم تصح الشركة، مثلاً: لو قال أحدهما: أدفع حلياً وأساور، مثل: البناجر، عندي مائة بنجرة من الذهب