
26-08-2024, 09:41 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (7)
سُورَةِ الْأَعْرَافِ
من صــ 246 الى صــ 255
الحلقة (332)
قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [ ص: 245 ] قوله تعالى وأورثنا القوم يريد بني إسرائيل الذين كانوا يستضعفون أي يستذلون بالخدمة .
مشارق الأرض ومغاربها زعم الكسائي والفراء أن الأصل " في مشارق الأرض ومغاربها " ثم حذف " في " فنصب . والظاهر أنهم ورثوا أرض القبط . فهما نصب على المفعول الصريح ; يقال : ورثت المال وأورثته المال ; فلما تعدى الفعل بالهمزة نصب مفعولين . والأرض هي أرض الشأم ومصر . ومشارقها ومغاربها جهات الشرق والغرب بها ; فالأرض مخصوصة ، عن الحسن وقتادة وغيرهما . وقيل : أراد جميع الأرض ; لأن من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرض .
التي باركنا فيها أي بإخراج الزروع والثمار والأنهار .
وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل هي قوله : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .
بما صبروا أي بصبرهم على أذى فرعون ، وعلى أمر الله بعد أن آمنوا بموسى .
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون يقال : عرش يعرش إذا بنى . قال ابن عباس ومجاهد : أي ما كانوا يبنون من القصور وغيرها . وقال الحسن : هو تعريش الكرم . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ( يعرشون ) بضم الراء . قال الكسائي : هي لغة تميم . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ( يعرشون ) بتشديد الراء وضم الياء .
قوله تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون
قوله تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف ، والباقون بضمها . يقال : عكف يعكف ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه . والمصدر منهما على فعول . قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولا بالرقة وقيل : كانت أصنامهم تماثيل بقر ; ولهذا أخرج لهم السامري عجلا .
قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة نظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط يعظمونها في كل سنة يوما : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات [ ص: 246 ] أنواط . فقال عليه الصلاة والسلام : الله أكبر . قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . وكان هذا في مخرجه إلى حنين ، على ما يأتي بيانه في " براءة " إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين
قوله تعالى إن هؤلاء متبر ما هم فيه أي مهلك ، والتبار : الهلاك . وكل إناء مكسر متبر . وأمر متبر . أي إن العابد والمعبود مهلكان .
وباطل أي ذاهب مضمحل ما كانوا يعملون كانوا صلة زائدة .
قال أغير الله أبغيكم إلها أي أطلب لكم إلها غير الله تعالى . يقال : بغيته وبغيت له .
وهو فضلكم على العالمين أي على عالمي زمانكم . وقيل : فضلهم بإهلاك عدوهم ، وبما خصهم به من الآيات .
قوله تعالى وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ذكرهم منته . وقيل : هو خطاب ليهود عصر النبي صلى الله عليه وسلم . أي واذكروا إذ أنجينا أسلافكم . حسب ما تقدم بيانه في سورة " البقرة "
[ ص: 247 ] قوله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين
قوله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة فيه ثلاث مسائل :
الأولى قوله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ذكر أن مما كرم الله به موسى صلى الله عليه وسلم هذا فكان وعده المناجاة إكراما له . وأتممناها بعشر قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم : هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة . أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة ; فلما صامه أنكر خلوف فمه فاستاك . قيل : بعود خرنوب ; فقالت الملائكة : إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك . فزيد عليه عشر ليال من ذي الحجة . وقيل : إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك : يا موسى لا أكلمك حتى يعود فوك إلى ما كان عليه قبل ، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك . وأمره بصيام عشرة أيام . وكان كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح ، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج . وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث . والفائدة في قوله : فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون ، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها ; فبين أن العشر سوى الثلاثين . فإن قيل : فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين ; فيكون ذلك من البداء . قيل : ليس كذلك ; فقد قال : وأتممناها بعشر والأربعون ، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف . وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف ; قال أربعين في قول مؤلف ، وقال ثلاثين ، يعني شهرا متتابعا وعشرا . وكل ذلك أربعون ; كما قال الشاعر :
عشر وأربع . . . يعني أربع عشرة ، ليلة البدر . وهذا جائز في كلام العرب .
الثانية : قال علماؤنا : دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية ، ومعنى [ ص: 248 ] قديما أسسه الله تعالى في القضايا ، وحكم به للأمم ، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال . وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب . وقد بينا معناه فيما تقدم في هذه السورة من قوله : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام . قال ابن العربي : فإذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة . وقد بين الله تعالى ذلك لموسى عليه السلام فضرب له أجلا ثلاثين ثم زاده عشرا تتمة أربعين . وأبطأ موسى عليه السلام في هذه العشر على قومه ; فما عقلوا جواز التأني والتأخر حتى قالوا : إن موسى ضل أو نسي ، ونكثوا عهده وبدلوا بعده ، وعبدوا إلها غير الله . قال ابن عباس : إن موسى قال لقومه : إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه ، وأخلف فيكم هارون ، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا ; فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله بما فعلوه من عبادة العجل ; على ما يأتي بيانه . ثم الزيادة التي تكون على الأجل تكون مقدرة ; كما أن الأجل مقدر . ولا يكون إلا باجتهاد من الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر : من وقت وحال وعمل ، فيكون مثل ثلث المدة السالفة ; كما أجل الله لموسى . فإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز ، ولكن لا بد من التربص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر ، قال ابن العربي . روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة .
قلت : وهذا أيضا أصل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى . وكان هذا لطفا بالخلق ، ولينفذ القيام عليهم بالحق . يقال : أعذر في الأمر أي بالغ فيه ; أي أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده . وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم لتتم حجته عليهم ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . وقال وجاءكم النذير قيل : هم الرسل . ابن عباس : هو الشيب . فإنه يأتي في سن الاكتهال ، فهو علامة لمفارقة سن الصبا . وجعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العباد ، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله ، [ ص: 249 ] وترقب المنية ولقاء الله ; ففيه إعذار بعد إعذار . الأول بالنبي عليه السلام ، والثاني بالشيب ; وذلك عند كمال الأربعين ; قال الله تعالى : وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك . فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها . قال مالك : أدركت أهل العلم ببلدنا ، وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة ; فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس .
الثالثة : ودلت الآية أيضا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام ; لقوله تعالى : ثلاثين ليلة لأن الليالي أوائل الشهور . وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن الأيام ; حتى روي عنها أنها كانت تقول : صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . والعجم تخالف في ذلك ، فتحسب بالأيام ; لأن معولها على الشمس . ابن العربي : وحساب الشمس للمنافع ، وحساب القمر للمناسك ; ولهذا قال : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة . فيقال : أرخت تاريخا ، وورخت توريخا ; لغتان .
وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح المعنى : وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون : كن خليفتي ; فدل على النيابة . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي حين خلفه في بعض مغازيه : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . فاستدل بهذا الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على جميع الأمة ; حتى كفر الصحابة الإمامية - قبحهم الله - لأنهم عندهم تركوا العمل الذي هو النص على استخلاف علي واستخلفوا غيره بالاجتهاد منهم . ومنهم من كفر عليا إذ لم يقم بطلب حقه . وهؤلاء لا شك في كفرهم وكفر من تبعهم على مقالتهم ، ولم يعلموا أن هذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو بموته ، لا يقتضي أنه متماد بعد وفاته ; فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية وغيرهم . وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم [ ص: 250 ] وغيره ، ولم يلزم من ذلك استخلافه دائما بالاتفاق . على أنه قد كان هارون شرك مع موسى في أصل الرسالة ، فلا يكون لهم فيه على ما راموه دلالة . والله الموفق للهداية .
قوله تعالى : وأصلح أمر بالإصلاح . قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه . وقيل : أي ارفق بهم ، وأصلح أمرهم ، وأصلح نفسك ; أي كن مصلحا .
ولا تتبع سبيل المفسدين أي لا تسلك سبيل العاصين ، ولا تكن عونا للظالمين .
قوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
قوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا أي في الوقت الموعود وكلمه ربه أي أسمعه كلامه من غير واسطة .
قال رب أرني أنظر إليك سأل النظر إليه ; واشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه .
قال لن تراني أي في الدنيا . ولا يجوز الحمل على أنه أراد : أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك ; لأنه قال إليك و قال لن تراني ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل ، كما أعطاه سائر الآيات . وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى ; فبطل هذا التأويل .
ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ضرب له مثالا مما هو أقوى من بنيته وأثبت . أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني ، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي ، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي . وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه : أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا ، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له . واستنبط ذلك من قوله : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني . ثم قال فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا وتجلى معناه ظهر ; من قولك : جلوت العروس أي أبرزتها . وجلوت السيف أبرزته من الصدأ ; جلاء فيهما . وتجلى الشيء انكشف . وقيل : تجلى أمره وقدرته ; قاله قطرب وغيره . وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة دكا ; يدل على صحتها دكت الأرض دكا وأن الجبل مذكر . وقرأ أهل الكوفة دكاء أي جعله مثل أرض دكاء ، وهي الناتئة لا تبلغ أن تكون جبلا . والمذكر أدك ، [ ص: 251 ] وجمع دكاء دكاوات ودك ; مثل حمراوات وحمر . قال الكسائي : الدك من الجبال : العراض ، واحدها أدك . غيره : والدكاوات جمع دكاء : رواب من طين ليست بالغلاظ . والدكداك كذلك من الرمل : ما التبد بالأرض فلم يرتفع . وناقة دكاء لا سنام لها . وفي التفسير : فساخ الجبل في الأرض ; فهو يذهب فيها حتى الآن . وقال ابن عباس : جعله ترابا . عطية العوفي : رملا هائلا .
وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه ; عن ابن عباس والحسن وقتادة . وقيل : ميتا ; يقال : صعق الرجل فهو صعق . وصعق فهو مصعوق . وقال قتادة والكلبي : خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر .
فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك قال مجاهد : من مسألة الرؤية في الدنيا . وقيل : سأل من غير استئذان ; فلذلك تاب . وقيل : قاله على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات . وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية ; فإن الأنبياء معصومون . وأيضا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة . وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة ، وهذا لا يقتضي التوبة . فقيل : أي تبت إليك من قتل القبطي ; ذكره القشيري . وقد مضى في " الأنعام " بيان أن الرؤية جائزة . قال علي بن مهدي الطبري : لو كان سؤال موسى مستحيلا ما أقدم عليه مع معرفته بالله ; كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد . وسيأتي في " القيامة " مذهب المعتزلة والرد عليهم ، إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى وأنا أول المؤمنين قيل : من قومي . وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر . وقيل : بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق ، في ذلك . وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصعقته الأولى . أو قال كفته صعقته الأولى . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال : إن الله تبارك وتعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما ; فكلمه موسى مرتين ، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين .
قوله تعالى قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين
[ ص: 252 ] قوله تعالى قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي الاصطفاء : الاجتباء ; أي فضلتك . ولم يقل على الخلق ; لأن من هذا الاصطفاء أنه كلمه وقد كلم الملائكة وأرسله وأرسل غيره . فالمراد على الناس المرسل إليهم . وقرأ ( برسالتي ) على الإفراد نافع وابن كثير . والباقون بالجمع . والرسالة مصدر ، فيجوز إفرادها . ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالة فاختلفت أنواعها ، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه ; كما قال : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير فجمع لاختلاف أجناس الأصوات واختلاف المصوتين . ووحد في قوله لصوت لما أراد به جنسا واحدا من الأصوات . ودل هذا على أن قومه لم يشاركه في التكليم ولا واحد من السبعين ; كما بيناه في " البقرة " .
قوله تعالى فخذ ما آتيتك إشارة إلى القناعة ; أي اقنع بما أعطيتك .
وكن من الشاكرين أي من المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك ; يقال : دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف . والشاكر معرض للمزيد كما قال : لئن شكرتم لأزيدنكم . ويروى أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه الله تعالى أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من نور الله عز وجل .
قوله تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين
قوله تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء يريد التوراة . وروي في الخبر أنه قبض عليه جبريل عليه السلام بجناحه فمر به في العلا حتى أدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله له الألواح ; ذكره الترمذي الحكيم . وقال مجاهد : كانت الألواح من زمردة خضراء . ابن جبير : من ياقوتة حمراء . أبو العالية : من زبرجد . الحسن : من خشب ; نزلت من السماء . وقيل : من صخرة صماء ، لينها الله لموسى عليه السلام فقطعها بيده ثم شقها بأصابعه ; فأطاعته كالحديد لداود . قال مقاتل : أي كتبنا له في الألواح كنقش الخاتم . ربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير . وأضاف الكتابة إلى نفسه على جهة التشريف ; إذ هي مكتوبة [ ص: 253 ] بأمره كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر . واستمد من نهر النور . وقيل : هي كتابة أظهرها الله وخلقها في الألواح . وأصل اللوح : لوح " بفتح اللام " ; قال الله تعالى : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ . فكأن اللوح تلوح فيه المعاني . ويروى أنها لوحان ، وجاء بالجمع لأن الاثنين جمع . ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبير عظم اليدين والرجلين . ابن عباس : وتكسرت الألواح حين ألقاها فرفعت إلا سدسها . وقيل : بقي سبعها ورفعت ستة أسباعها . فكان في الذي رفع تفصيل كل شيء ، وفي الذي بقي الهدى والرحمة . وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال : بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة ; فلما ألقى الألواح تكسرت فصام مثلها فردت إليه . ومعنى من كل شيء مما يحتاج إليه في دينه من الأحكام وتبيين الحلال والحرام ; عن الثوري وغيره . وقيل : هو لفظ يذكر تفخيما ولا يراد به التعميم ; تقول : دخلت السوق فاشتريت كل شيء . وعند فلان كل شيء . و تدمر كل شيء . وأوتيت من كل شيء . وقد تقدم .
موعظة وتفصيلا لكل شيء أي لكل شيء أمروا به من الأحكام ; فإنه لم يكن عندهم اجتهاد ، وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
فخذها بقوة في الكلام حذف ، أي فقلنا له : خذها بقوة ; أي بجد ونشاط . نظيره خذوا ما آتيناكم بقوة وقد تقدم .
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي ، ويتدبروا الأمثال والمواعظ . نظيره واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم . وقال : فيتبعون أحسنه . والعفو أحسن من الاقتصاص . والصبر أحسن من الانتصار . وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل ، وأدونها المباح .
سأريكم دار الفاسقين قال الكلبي : دار الفاسقين ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود ، والقرون التي أهلكوا . وقيل : هي جهنم ; عن الحسن ومجاهد . أي فلتكن منكم على ذكر ، فاحذروا أن تكونوا منها . وقيل : أراد بها مصر ; أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية عنهم ; عن ابن جبير . قتادة : المعنى سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها ; يعني الشأم . وهذان القولان يدل عليهما وأورثنا القوم الآية . ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض الآية ، وقد تقدم . وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير ( سأورثكم ) من ورث . وهذا ظاهر . وقيل : الدار الهلاك ، وجمعه أدوار . وذلك أن الله تعالى لما أغرق فرعون [ ص: 254 ] أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل ، قال : ففعل ; فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين .
قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون
قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قال قتادة : سأمنعهم فهم كتابي . وقاله سفيان بن عيينة . وقيل : سأصرفهم عن الإيمان بها . وقيل : سأصرفهم عن نفعها ; وذلك مجازاة على تكبرهم . نظيره : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم . والآيات - على هذا - المعجزات أو الكتب المنزلة . وقيل : خلق السماوات والأرض . أي أصرفهم عن الاعتبار بها . يتكبرون يرون أنهم أفضل الخلق . وهذا ظن باطل ; فلهذا قال : بغير الحق فلا يتبعون نبيا ولا يصغون إليه لتكبرهم .
قوله تعالى وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا يعني : هؤلاء المتكبرون أخبر عنهم أنهم يتركون طريق الرشاد ويتبعون سبيل الغي والضلال ; أي الكفر يتخذونه دينا .
ثم علل فقال : ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي ذلك الفعل الذي فعلته بهم بتكذيبهم وكانوا عنها غافلين أي كانوا في تركهم تدبر الحق كالغافلين . ويحتمل أن يكونوا غافلين عما يجازون به ; كما يقال : ما أغفل فلان عما يراد به ; وقرأ مالك بن دينار ( وإن يروا ) بضم الياء في الحرفين ; أي يفعل ذلك بهم . وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة " سبيل الرشد " بضم الراء وإسكان الشين . وأهل الكوفة إلا عاصما ( الرشد ) بفتح الراء والشين . قال أبو عبيد : فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال : الرشد في الصلاح . والرشد في الدين . قال النحاس : سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد مثل السخط والسخط ، وكذا قال الكسائي . والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد . قال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال : إذا كان الرشد وسط الآية [ ص: 255 ] فهو مسكن ، وإذا كان رأس الآية فهو محرك . قال النحاس : يعني برأس الآية نحو وهيئ لنا من أمرنا رشدا فهما عنده لغتان بمعنى واحد ; إلا أنه فتح هذا لتتفق الآيات . ويقال : رشد يرشد ، ورشد يرشد . وحكى سيبويه رشد يرشد . وحقيقة الرشد والرشد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد ، وهو ضد الخيبة .
قوله تعالى واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين
قوله تعالى واتخذ قوم موسى من بعده أي من بعد خروجه إلى الطور من حليهم هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة . وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ( من حليهم ) بكسر الحاء . وقرأ يعقوب ( من حليهم ) بفتح الحاء والتخفيف . قال النحاس : جمع حلي حلي وحلي ; مثل ثدي وثدي وثدي . والأصل " حلوي " ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء ، وتكسر الحاء لكسرة اللام . وضمها على الأصل .
عجلا مفعول جسدا نعت أو بدل له خوار رفع بالابتداء . يقال : خار يخور خوارا إذا صاح . وكذلك جأر يجأر جؤارا . ويقال : خور يخور خورا إذا جبن وضعف . وروي في قصص العجل : أن السامري ، واسمه موسى بن ظفر ، ينسب إلى قرية تدعى سامرة . ولد عام قتل الأبناء ، وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك ; فأخذ - حين عبر البحر على فرس وديق ليتقدم فرعون في البحر - قبضة من أثر حافر الفرس . وهو معنى قوله : فقبضت قبضة من أثر الرسول . وكان موسى وعد قومه ثلاثين يوما ، فلما أبطأ في العشر الزائد ومضت ثلاثون ليلة قال لبني إسرائيل وكان مطاعا فيهم : إن معكم حليا من حلي آل فرعون ، وكان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا لذلك اليوم ; فلما أخرجهم الله من مصر وغرق القبط بقي ذلك الحلي في أيديهم ، فقال لهم السامري : إنه حرام عليكم ، فهاتوا ما عندكم فنحرقه . وقيل : هذا الحلي ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق ، وأن هارون قال لهم : إن الحلي غنيمة ، وهي لا تحل لكم ; فجمعها في حفرة حفرها فأخذها السامري . 
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|