
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثالث
الحلقة (194)
صـ 177 إلى صـ 184
وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر. والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه، ولم يثبتوا (1) حكمة تعود إليه فسلبوه قدرته وحكمته (2) ومحبته وغير ذلك من صفات كماله، فقابلهم خصومهم [الجهمية المجبرة] (3) ببطلان التعليل في نفس الأمر.
كما تنازعوا في مسألة الحسن والقبح، فأولئك أثبتوه على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه (4) ، وأثبتوا حسنا وقبحا لا يتضمن محبوبا ولا مكروها، وهذا لا حقيقة له، كما أثبتوا تعليلا لا يعود إلى الفاعل حكمه.
وخصومهم سووا بين [جميع] (5) الأفعال، ولم يثبتوا لله محبوبا ولا مكروها، وزعموا أن الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل لم يختلف حاله. وغلطوا، فإن الصفة الذاتية للموصوف قد يراد بها اللازمة له (6) والمنطقيون يقسمون اللازم إلى ذاتي وعرضي، وإن كان هذا التقسيم خطأ. وقد يراد بالصفة الذاتية ما تكون ثبوتية قائمة بالموصوف، احترازا عن الأمور النسبية الإضافية.
ومن هذا الباب اضطربوا في الأحكام الشرعية، فزعم (7) نفاة الحسن
_________
(1) ع: ولم يبينوا.
(2) ن فقط: فسلبوه حكمته وقدرته وحكمته.
(3) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(4) ن: وبين خلقه.
(5) جميع ساقطة من (ن) ، (م) .
(6) أ، ب: اللازم له.
(7) وزعموا، ب: وزعم، م: فوهم، وهو تحريف
====================================
والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال، بل هي من الصفات النسبية الإضافية، فالحسن هو المقول فيه: افعله أو لا بأس بفعله، والقبيح هو المقول فيه: لا تفعله (1) .
قالوا: وليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية، وذكروا عن منازعيهم أنهم قالوا: الأحكام صفات ذاتية (2) للأفعال، ونقضوا ذلك بجواز تبدل أحكام الفعل مع كون الجنس (3) واحدا.
وتحقيق الأمر أن الأحكام للأفعال ليست من الصفات اللازمة، بل [هي] (4) من العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها ومنافرتها، فالحسن والقبح بمعنى كون الشيء محبوبا ومكروها ونافعا وضارا، وملائما ومنافرا. وهذه صفة ثبوتية للموصوف، لكنها تتنوع بتنوع أحواله فليست لازمة له.
ومن قال: إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح، فهو بمنزلة قوله: ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار، كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار.
وأما جمهور المسلمين الذين يثبتون طبائع الأعيان وصفاتها، فهكذا (5) ، يثبتون ما في الأفعال من حسن وقبح باعتبار ملاءمتها ومنافرتها، كما
_________
(1) أ، ن: لا يفعله، م: لا تفعل.
(2) أ، ب: أزلية، وهو تحريف.
(3) ع: الحسن، وهو تحريف.
(4) هي ساقطة من (ن) ، (م) .
(5) م: فكذلك، ب: فإنهم
================================
قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [سورة الأعراف: 107] ، فدل ذلك على أن الفعل في نفسه معروف ومنكر، والمطعوم طيب وخبيث.
ولو كان لا صفة للأعيان والأفعال إلا بتعلق الأمر والنهي، لكان التقدير: يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، والله منزه عن مثل هذا الكلام.
وكذلك قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [سورة الإسراء: 32] وقال: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} [سورة الأعراف: 28] ونظائر هذا كثيرة (1) .
[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر يلزم نسبة السفه إلى الله تعالى لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه]
(فصل) .
قال [الرافضي] الإمامي (2) : " ومنها أنه يلزم نسبة السفه (3) إلى الله تعالى لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه، وينهاه عن المعصية وقد أرادها منه (4) ، وكل عاقل ينسب من يأمر (5) بما لا يريد (6) وينهى عما يريد (7) إلى السفه، تعالى الله عن ذلك ".
_________
(1) أ، ب: كثير.
(2) الرافضي: ساقطة من (ن) ، (م) ، وفي (ع) : قال الإمامي الرافضي، والكلام التالي في (ك) 89 (م) .
(3) ك: السفه والحمق.
(4) منه: ساقطة من (ك) .
(5) ع: يأمره.
(6) ع، ن، م: بما لا يريده.
(7) ع، ن، م: بما لا يريده
===========================
فيقال له: قد تقدم أن المحققين من أهل السنة يقولون: [إن] (1) الإرادة، نوعان: إرادة الخلق وإرادة الأمر (2) فإرادة الأمر أن يريد من المأمور (3) فعل ما أمر به، وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها. والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية.
والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار، وهو ما (4) يحبه ويرضاه، ونهاه عن المعصية التي لم يردها منه، [أي لم يحبها ولم يرضها بهذا الاعتبار] (5) ، فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد. وقد قال تعالى: {إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [سورة النساء: 108] وإرادة (6) الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد، فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وفرق بين أن يريد هو أن يفعل، فإن هذا يكون لا محالة لأنه قادر على ما يريده، فإذا (7) اجتمعت الإرادة والقدرة وجب وجود المراد، وبين أن يريد من غيره أن يفعل ذلك الغير فعلا (8) لنفسه، فإن هذا (9) لا يلزم أن يعينه عليه.
_________
(1) إن: زيادة في (أ) ، (ب) .
(2) ن، م: الأمر كما تقدم.
(3) ن، م: من المأمور به.
(4) ن، م: مما.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(6) ن، م، ع: فإرادة.
(7) أ، ب: ما يريد وإذا.
(8) ع: فلا، وهو تحريف.
(9) أ، ب: فهذا
============================
وأما طائفة من المثبتين للقدر فظنوا أن الإرادة نوع واحد، [وأنها (1) هي المشيئة] (2) فقالوا: يأمر بما لا يريده (3) .
ثم هؤلاء على قسمين: فقسم قالوا: يأمر بما يحبه ويرضاه وإن لم يرده، أي لم يشأ وجوده، وهذا مذهب جمهور القائلين بهذا القول من الفقهاء وغيرهم.
وقسم قالوا: بل المحبة والرضا هي الإرادة وهي المشيئة، فهو يأمر بما لم يرده ولم يحبه ولم يرضه، وما وقع من الكفر والفسوق عند (4) هؤلاء أحبه ورضيه (5) ، كما أراده وشاءه، ولكن يقولون (6) : لا يحبه ولا يرضاه دينا، كما لا يريده دينا [ولا يشاؤه دينا] (7) ، ولا يحبه ولا يرضاه ممن لم يقع منه، [كما لم يرده ممن لم يقع منه، ولم يشأه ممن لم يقع منه] (8) وهذا قول الأشعري وأكثر أصحابه، وحكاه هو عن طائفة من أهل الإثبات، وحكي عنه كالقول (9) الأول.
وأصحاب هذا القول هم القدرية (10) من المعتزلة والشيعة وغيرهم
_________
(1) أ، ب: وإنما هو تصحيف.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(3) ن، م: بما لا يريد.
(4) ن، م: فعند.
(5) أ، ب: يحبه ويرضاه.
(6) ن، م: ولكن لا يقولون.
(7) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(8) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(9) م: مثل القول.
(10) ن، م: هم القدرية، وسقطت " هم " من (أ) ، (ب)
=============================
يجعلون الرضا والمحبة بمعنى الإرادة، ثم قالت القدرية النفاة: والكفر والفسوق والمعاصي لا يحبها ولا يرضاها (1) بالنص وإجماع الفقهاء، فلا يريدها ولا يشاؤها (2) .
وقال هؤلاء المثبتة: هو شاء ذلك بالنص وإجماع السلف، فيكون قد أحبه ورضيه وأراده. وأما جمهور الناس فيفرقون بين المشيئة والإرادة (3) وبين المحبة والرضا، كما يوجد الفرق بينهما في الناس، فإن الإنسان قد يريد شرب الدواء ونحوه من الأشياء الكريهة التي يبغضها ولا يحبها، ويحب أكل (4) الأشياء التي يشتهيها، كاشتهاء المريض لما حمي عنه (5) ، واشتهاء الصائم الماء البارد مع عطشه ولا يريد فعل ذلك (6) ، فقد تبين أنه يحب ما لا يريده ويريد ما لا يحبه (7) ، وذلك أن المراد قد يراد لغيره، فيريد الأشياء المكروهة لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة (8) ويكره فعل بعض ما يحبه (9) لأنه يفضي إلى ما يبغضه.
والله تعالى له الحكمة (10) فيما يخلقه، وهو سبحانه يحب المتقين
_________
(1) ن، م، ع: لا يحبه ويرضاه.
(2) ن، م، ع: فلا يريده ولا يشاؤه.
(3) والإرادة ساقطة من (أ) ، (ب) ، (ع) .
(4) ن: كل، وسقطت الكلمة من (م) .
(5) أ، ب: المريض الماء إذا حمي عنه، ن، ع: المريض لما حمي منه.
(6) أ، ب: ولا يريد فعله.
(7) ن، م: ما لا يريد ويريد ما لا يحب.
(8) ن: كما في عاقبتها من الأمور المحبوبة، م: لما في عاقبتها المحمودة من الأمور المحبوبة.
(9) ن، م: ما لا يحبه، وهو خطأ.
(10) ن، م: حكمة
==============================
والمحسنين والتوابين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في مهلكة إذا وجدها بعد الإياس (1) منها كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من غير وجه، كقوله: " «لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من رجل أضل راحلته (2) بأرض دوية (3) مهلكة عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته» " (4) .
والمتفلسفة (5) يعبرون بلفظ البهجة واللذة (6) والعشق ونحو ذلك عن الفرح والمحبة وما يتبع ذلك، وإذا كان كذلك فهو سبحانه يريد وجود [بعض] الأشياء (7) لإفضائها إلى ما يحبه ويرضاه، وهو سبحانه قد لا يفعل بعض ما يحبه لكونه يستلزم وجود ما يكرهه ويبغضه، فهو سبحانه قادر على أن يخلق من كل نطفة رجلا يجعله مؤمنا به (8) يحبه ويحب إيمانه، لكنه لم يفعل ذلك لما له في ذلك (9) من الحكمة، وقد يعلم أن ذلك يفضي إلى ما يبغضه ويكرهه.
_________
(1) ن، م، ع: اليأس.
(2) ن، ع: دابته.
(3) دوية: ساقطة من (أ) ، (ب) ، وفي (م) : دونه، وهو تصحيف.
(4) مضى الحديث من قبل 2 430، 3 162.
(5) ع: والمتفلسفون.
(6) أ: بلفظ المحبة واللذة، ب: بلفظ اللذة.
(7) ع: يريد وجود الأشياء، ن: يريد وجود أشياء، م: يريد الأشياء.
(8) به: زيادة في (ن) .
(9) أ، ب، م: لما فيه
================================
وإذا قيل: فهلا يفعل هذا ويمنع ما يبغضه.
قيل: من الأشياء ما يكون ممتنعا لذاته، ومنها ما يكون ممتنعا لغيره، واللذة (1) الحاصلة بالأكل لا تحصل هي ولا نوعها (2) بالشرب (3) والسماع والشم، وإنما تحصل لذة أخرى.
ووجود لذة الأكل في الفم تنافي حصول لذة الشرب في تلك الحال، وتلذذ العبد بسماع بعض (4) الأصوات يمنع تلذذه بسماع صوت آخر في تلك الحال، فليس كل ما هو محبوب للعبد ولذيذ له يمكن اجتماعه في آن (5) واحد، بل لا يمكن حصول (6) أحد الضدين إلا بتفويت الآخر، وما من شيء (7) مخلوق إلا له لوازم وأضداد، فلا يوجد إلا بوجود لوازمه ومع عدم أضداده (8) والرب تعالى إذا كان يحب من عبده أن يسافر للحج ويسافر للجهاد، فأيهما فعله (9) كان محبوبا له، لكن لا يمكن في حال واحدة (10) أن يسافر العبد إلى الشرق وإلى الغرب (11) ، بل لا يمكن (12) حصول هذين المحبوبين جميعا في وقت واحد، فلا يحصل
_________
(1) أ، ب: فاللذة.
(2) أ، ب: هي وأنواعها.
(3) ع: بالشراب.
(4) ن: تلك.
(5) ن: لون، م: أوان.
(6) حصول: ساقطة من (أ) ، (ب) ، (ع) .
(7) شيء: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(8) ن: ومنع عدم أضداده، م: ومنع أضداده.
(9) أ، ب: فعل.
(10) م: في وقت واحد، أ: في واحدة، ب: في آن واحد.
(11) ع، ن: إلى الشرق والغرب.
(12) ن، م، ع: فلا يمكن، أ: بل يمكن، وهو خطأ
============================