عرض مشاركة واحدة
  #453  
قديم 31-08-2024, 02:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ طَهَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4226 الى صـ 4240
الحلقة (453)





وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: « إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر » . وقال: « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » ولا تظن أن قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم وقال حاكيا عنه أنه قال: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصا.

[ ص: 4227 ] وقال رحمه الله في (مفتاح دار السعادة): فسر غير واحد من السلف قوله تعالى: فإن له معيشة ضنكا بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة.

وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب [ ص: 4228 ] القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.

فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: ويحسبون أنهم مهتدون ؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.

والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة [ ص: 4229 ] الحجة عليه كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في أهل النار: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى: أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين، وهذا كثير في القرآن.

الخامسة: قال ابن القيم : اختلف في قوله تعالى: ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر ؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا وقوله: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله: لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله: يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون وقوله: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها

[ ص: 4230 ] والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الآي أيضا: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: ونحشره يوم القيامة أعمى قالوا لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون.

ومن نصر أنه العمى والبكم والصمم، المضاد للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئا يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن .

وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: اخسئوا فيها ولا تكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيبصرون بأجمعهم، عميا بكما صما، لا يبصرون [ ص: 4231 ] ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل .

والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة، هم عمي عنها، بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.

وفصل الخطاب; أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنكم محشورون إلي حفاة عراة » وكقوله تعالى: وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا انتهى.

[ ص: 4232 ] السادسة: قوله تعالى: وكذلك اليوم تنسى أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك.

قال ابن كثير : فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.

روى الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم » ;.

السابعة: قوله تعالى: وكذلك نجزي من أسرف الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائما. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[128] أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

أفلم يهد لهم أي: لهؤلاء المكذبين: كم أهلكنا قبلهم من القرون أي: الأمم المكذبة للرسل: يمشون في مساكنهم يريد قريشا ، أي: يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: إن في ذلك لآيات لأولي النهى أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض [ ص: 4233 ] فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[129] ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى .

ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: أفلم يهد لهم الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشاني : هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيهم نبي الرحمة. وقوله سبحانه: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

وقال الزمخشري : الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمود لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضا، كقولهم: مسعر حرب، ولزاز خصم بمعنى ملح على خصمه. من لز بمعنى ضيق عليه.

وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم.

وقوله تعالى: وأجل مسمى عطف على كلمة، أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلا.

قال أبو السعود : وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة.

[ ص: 4234 ] وقد جوز عطفه على المستكن في (كان) العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[130] فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى .

فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان:

الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامدا على ما ميزك بالهدى، معترفا بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسر تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها.

الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: واستعينوا بالصبر والصلاة والآيات يفسر بعضها بعضا. والمعنى: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: ومن آناء الليل فسبح أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك [ ص: 4235 ] لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب.

قوله تعالى: وأطراف النهار تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: آناء الليل أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار.

وقال الرازي : إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى . قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: لعلك ترضى أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى

ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجل وأسمى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[131] ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى .

ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم أي: أصنافا من الكفرة: [ ص: 4236 ] زهرة الحياة الدنيا أي زينتها. منصوب على البدلية من: أزواجا أو بـ: متعنا على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: لنفتنهم فيه أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فان وزائل وغرور وخدع تضمحل.

قال أبو السعود : " لنفتنهم " متعلق بـ: " متعنا " جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلا، إثر إظهار بهجته حالا. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: ورزق ربك خير وأبقى أي: ثوابه الأخروي خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشري رحمه الله، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه، وإعجابا به وتمنيا أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بـ: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا

وفيه: أن النظر غير الممدود معفو عنه . وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئا أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدن عينيك أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضار به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، [ ص: 4237 ] فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[132] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى .

وأمر أهلك بالصلاة يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: واصطبر عليها أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما، لتعاليه وتنزهه بقوله: لا نسألك رزقا نحن نرزقك أي: لا نسألك مالا. بل نكلفك عملا ببدنك نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير.

وقال أبو مسلم : المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقا ولا مفهوما. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: رجال لا تلهيهم تجارة [ ص: 4238 ] ولا بيع عن ذكر الله إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة

وقوله تعالى: والعاقبة للتقوى أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقابا ولا يرجو له ثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[133] وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى

وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب

وقوله تعالى: أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير .

وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنده. [ ص: 4239 ] وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هاديا للضال مقوما للمعوج كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذا لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثله، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وقال: [ ص: 4240 ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل.

معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.

وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جل شأنه أن يكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعا لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتا ما. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلا يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولا، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الإسبيريت [ ص: 4241 ] الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]