عرض مشاركة واحدة
  #455  
قديم 31-08-2024, 03:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4256 الى صـ 4270
الحلقة (455)






القول في تأويل قوله تعالى:

[19] وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون .

وله من في السماوات والأرض أي: ملكا وتدبيرا: ومن عنده وهم الملائكة: لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي: لا يعيون ولا يتعبون منها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] يسبحون الليل والنهار لا يفترون .

يسبحون الليل والنهار لا يفترون أي: من تنزيهه وعبادته،
ثم أشار تعالى إلى تقرير وحدانيته في ألوهيته ونفي الأنداد ، إثر تقريره أمر الرسالة- فإن ما سلف من أول السورة كان في تحقيق شأن النبوة بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[21] أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون .

أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون أي: يبعثون الموتى ويخرجونهم من العدم إلى الوجود.

أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى. كلا فإن [ ص: 4257 ] ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك. فكيف جعلوها لله ندا، وعبدوها معه؟

قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ كيف، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى؟ وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله عز وجل بأنه خالق السماوات والأرض: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى، منكرين للبعث. ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم. فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟.

قلت: الأمر كما ذكرت. ولكنهم بادعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار. لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات. انتهى.

قال في (الانتصاف): فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها. وهو أبلغ في الإنكار.

ثم قال الزمخشري : وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. انتهى.

لطيفة:

سر قوله تعالى: من الأرض هو التحقير، أي: تحقير الأصنام بأنها أرضية سفلية. وجوز إرادة التخصيص. أي: الآلهة التي من جنس الأرض. لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض. وإنما خصص الإنكار بها، لأن ما هو أرضي مصنوع بأيديهم كيف يدعي ألوهيته؟
ثم بين تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه، بل على استحالته ، بقوله سبحانه:

[ ص: 4258 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[22] لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون .

لو كان فيهما أي: يتصرف في السماوات والأرض: آلهة إلا الله أي: غيره: لفسدتا أي: لبطلتا بما فيهما جميعا، واختل نظامهما المشاهد، كما قال تعالى في سورة المؤمنون: وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض قال أبو السعود : وحيث انتفى التالي، علم انتفاء المقدم قطعا. بيان الملازمة; أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا، وإيجادا وإعداما وإحياء وإماتة. فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة. وإما بتأثير واحد منها، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا، واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما. وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله، فإن توافق الكل في المراد، تطاردت عليه القدر، وإن تخالفت تعاوقت. فلا يوجد موجودا أصلا. وحيث انتفاء التالي تعين انتفاء المقدم. انتهى.

وتفصيله كما في (المقاصد) أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا. وكلاهما محال. أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد، فإما أن يقع مرادهما وهو محال، لاستلزامه اجتماع الضدين. أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلو المحل عنهما، كحركة جسم وسكونه في زمان معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال. لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، وعجز من فرض قادرا حيث لم يقع مراده. وهذا البرهان يسمى برهان التمانع. وإليه الإشارة بقوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإن أريد بالفساد عدم [ ص: 4259 ] التكون، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض. لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما. والكل باطل. أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة. وأما الآخران فلما مر. وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب. وتميز صنع كل عن صنع الآخر، بحكم اللزوم العادي. فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد. ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع. وترتب الآثار. انتهى.

هذا وقد قيل: إن المطلب هنا برهاني، والمشار إليه في الآية إقناعي. ولا يفيد العلم اليقيني فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب، وممن فصل ذلك التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) قادحا لما أشار إليه نفسه في (شرح المقاصد) من كون الآية برهانا، كما ذكرناه عنه. وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل، لجواز الاتفاق على هذا النظام، أي: بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر فلا يستلزم التعدد التمانع بالفعل بل بالإمكان. والإمكان لا يستلزم الوقوع، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما. ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال. وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلا. فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين، فيلزم عجزهما. أو بكل منهما فيلزم التوارد. أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز. فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية. وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد أخرمها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة، أن يطلب كل الانفراد بالملك والعلو على الآخر وقهره، فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر، فكيف لا يطلب الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله: ولعلا بعضهم على بعض ؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال، فضلا عن إخطار فرضه، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر. [ ص: 4260 ] فعلى هذا التقدير، فالملازمة علم قطعي. هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في الحواشي. وقد شنع عليه في مقالته المتقدمة غير واحد. وبالغ معاصره عبد اللطيف الكرماني في الانتقاد.

قال العلامة المرجاني : وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفي في كتابه (التبصرة) وتابعه صاحب (الكشف) حيث شنع على أبي هاشم الجبائي تشنيعا بليغا. حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعا على هذا المدعي، ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد. ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان، ولا تكفير ولا تضليل، ما دام المرء على سواء السبيل.

وقد أوضح بيان هذه الملازمة مفتي مصر في رسالة (التوحيد) إيضاحا ما عليه من مزيد، وعبارته: ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا. أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجا وعقلا. وأما الوحدة في الصفة، أي: أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود، فلما بينا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود. فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات. وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد الممكنات، فهي ثابتة، لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر بالضرورة. وإلا لم يتحصل معنى التعدد. وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها، بتعين ما يثبت له بالبداهة. فيختلف العلم والإرادة باختلاف الذوات الواجبة. إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها. هذا التخالف ذاتي، لأن علم الواجب وإرادته لا زمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج. فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق. وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته، فيكون فعل كل صادرا على حكم يخالف [ ص: 4261 ] الآخر مخالفة ذاتية. فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإرادتهم. وهو خلاف يستحيل معه الوفاق. وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات. فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته. ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى. فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإرادتهم، فيفسد نظام الكون، بل يستحيل أن يكون له نظام، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات. لأن كل ممكن لا بد أي: يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة. فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال فـ: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لكن الفساد ممتنع بالبداهة. فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته لا شريك له في وجوده ولا في أفعاله. انتهى.

وأشار حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) في بحث الوحدة، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد، وأنه لا مزيد على بيان القرآن. قال الكلنبوي : الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء الأنواع وترتيب الآثار كما هو الظاهر. وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا. ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله . فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة. انتهى.

وقوله تعالى: فسبحان الله رب العرش عما يصفون أي: من وجود شرك له فيهما والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم. أي: فسبحوه سبحانه اللائق به، ونزهوه عما يفترون. وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش، غيره ممن لا يقدر على شيء البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[23] لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

لا يسأل عما يفعل أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته [ ص: 4262 ] وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه: وهم يسألون الضمير للعباد. أي: يسألون عما يفعلون كقوله: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون

قال الزمخشري : إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم، أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بحكمة، ولا يجوز عليه خطأ، ثم قال: وهم يسألون أي: هم مملوكون مستعبدون خطاءون. فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه. انتهى.

قال ابن كثير : وهذه الآية كقوله تعالى: وهو يجير ولا يجار عليه

تنبيه:

قال الإمام الغزالي في (المضنون به على غير أهله): وأما معنى قول الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقوله تعالى: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام. يقال: ناظر فلان فلانا وتوجه عليه سؤاله. وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يسأل التلميذ أستاذه. والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام. وهو المعني بقوله: لا يسأل عما يفعل إذ لا يقال لم قول إلزام. فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم، فليس كذلك. وهو المراد بقوله: لم حشرتني أعمى وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون .

[ ص: 4263 ] أم اتخذوا من دونه آلهة كرره استعظاما لكفرهم، وإظهارا لجهلهم، وانتقالا إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة، ومع خلوها عن خصائص الإلهية. وتبكيتهم بإقامة البرهان على دعواهم. ولذا قال تعالى: قل هاتوا برهانكم أي: دليلكم على ما تفترون. أما من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا برهان له ولا دليل عليه.

قال أبو السعود : وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا، ضرب من التهكم بهم. وقوله تعالى: هذا ذكر من معي وذكر من قبلي إنارة لبرهانه، وإشارة إلى أنه مما نطقت له الكتب الإلهية قاطبة، وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة. وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم. أي: هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد، المتضمن للبرهان القاطع العقلي، ذكر أمتي أي: عظتهم، وذكر الأمم السابقة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم. انتهى.

ثم أشار تعالى أنه لا ينجع فيهم المحاجة بتحقيق الحق وإبطال الباطل بقوله سبحانه: بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون أي: عن النظر الموصل إلى الهدى.
ثم بين تعالى أن التوحيد دعوى كل نبي ، بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[25] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .

وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه وقرئ يوحى بالياء وفتح الحاء: أنه لا إله إلا أنا فاعبدون كما قال: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال: ولقد بعثنا [ ص: 4264 ] في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
ثم بين تعالى بطلان ما يفتريه بعض المشركين من أن الملائكة بناته، تعالى علوا كبيرا، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[26] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [27] لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون أي: مقربون: لا يسبقونه بالقول أي: يتبعون قوله، فلا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو شأن العبيد المؤدبين: وهم بأمره يعملون فلا يعصونه في أمر. إشارة إلى مراعاتهم في أدب العبودية في الأفعال أيضا، كالأقوال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[28] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون .

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي: مما قدموا وأخروا. فهو المحيط بهم علما: ولا يحيطون بشيء من علمه فكيف يخرجون عن عبوديته؟ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى أي: أن يشفع له، مهابة منه تعالى.

قال المهايمي : كيف يخرجون عن عبوديته ولا يقدرون على أدنى وجوه معارضته. لأنهم لا يشفعون [ ص: 4265 ] إلا لمن ارتضى. إذ الشفاعة لغير المرتضى نوع معارضة معه. وكيف يعارضونه: وهم من خشيته أي: قهره: مشفقون أي: خائفون.

قال ابن كثير : وقوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى كقوله: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له في آيات كثيرة بمعنى ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[29] ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين الضمير في (منهم) للملائكة. لتقدم ذكرهم واقتضاء السياق، وكونه أبلغ في الرد والتهديد.

قال الزمخشري رحمه الله: وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية، فاجأ بالوعيد الشديد. وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم. إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون كما قال: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون قصد بذلك تفظيع أمر الشرك، وتعظيم شأن التوحيد. انتهى.

وفي قوله: كذلك نجزي الظالمين إشعار بظلم من يقول تلك العظيمة. كيف لا؟ وقد استهان برتبة الإلهية وجاوز بها مقامها الأسمى.
[ ص: 4266 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[30] أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .

أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون

هذا شروع في آياته الكونية، الدالة على وحدته في ألوهيته، التي عمي عنها المشركون، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر. ومعنى قوله: كانتا رتقا أي: لا تمطر ولا تنبت: ففتقناهما أي: بالمطر والنباتات. فالفتق والرتق استعارة. ونظير قوله تعالى: والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع و(الرجع) لغة هو الماء و(الصدع) هو النبات لأنه يصدع الأرض أي: يشقها. وقوله تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه أي كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته: أنا صببنا الماء صبا أي: من المزن بعد أن لم يكن: ثم شققنا الأرض شقا أي: ثم بعد أن كانت الأرض رتقا متماسكة الأجزاء، شققناها شقا مرئيا مشهودا، كما تراه في الأرض بعد الري. أو شقا بالنبات.

وقال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: فاطر السماوات والأرض وكقوله: قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن فأخبر عن الإيجاد بلفظ (الفتق) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ (الرتق).

قال الرازي : وتحقيقه أن العدم نفي محض. فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة. بل [ ص: 4267 ] كأنه أمر واحد متصل متشابه. فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فهذا الطريق حسن جعل (الرتق) مجازا عن العدم والفتق عن الوجود. انتهى.

وقال بعض علماء الفلك: معنى قوله تعالى: كانتا رتقا أي: شيئا واحدا.

ومعنى: ففتقناهما فصلنا بعضهما عن بعض.

قال: فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي أنها إحدى هذه السيارات. وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، كلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس. وعلى طريقة واحدة. اهـ كلامه.

وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده: وجعلنا من الماء كل شيء حي فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقا بالماء. وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى: أولم ير بصرية. وعلى قول أبي مسلم وما بعده، علمية. على حد قوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل مع أنه لم يشاهد الحادثة، بل ولد بعدها. وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة. وكذلك ما هنا من الفتق والرتق، بمعنييه الأخيرين، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته. فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمه.

ومعنى قوله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء، لا يحيا دونه. فيدخل فيه النبات والشجر. لأنه من الماء صار ناميا. وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى. كقوله تعالى: ويحيي الأرض بعد موتها وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لآية: [ ص: 4268 ] والله خلق كل دابة من ماء ولا ضرورة إليه. بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة، وأبلغ في الخطاب، وألطف في المعنى.

وقوله تعالى: أفلا يؤمنون إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[31] وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .

وجعلنا في الأرض رواسي أي: جبالا ثوابت: أن تميد بهم أي: لئلا تتحرك وتضطرب بهم. فلولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان.

وقوله تعالى: وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون الضمير في (فيها) للأرض. وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه. أو للرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق. وعلى الثاني اقتصر ابن كثير . قال: فقد يشاهد جبل هائل بين بلدين، وإذا فيه فجوة يسلك الناس فيها، رحمة منه تعالى: " و سبلا " بدل من: " فجاجا " أشير به إلى أنه مع السعة نافذ مسلوك، وأنه خلق ووسع لأجل السابلة، ومعنى: يهتدون أي: إلى مصالحهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون .

وجعلنا السماء سقفا أي: على الأرض كالقبة عليها: محفوظا أي: عاليا محروسا أن [ ص: 4269 ] ينال أو محفوظا من التغير بالمؤثرات، مهما تطاول الزمان. كقوله تعالى: وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهم عن آياتها معرضون أي: عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر، بالشمس والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم. والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وأي جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو، عزت قدرته ولطف علمه؟.

وقرئ: " عن آيتها " ، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس، أي: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها. وهم عن كونها آية بينة على الخالق، معرضون. أفاده الزمخشري .
القول في تأويل قوله تعالى:

[33] وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون .

وهو الذي خلق الليل أي: ليسكنوا فيه: والنهار ليتحركوا لمعاشهم وينشطوا لأعمالهم: والشمس والقمر أي: ضياء وحسبانا: كل في فلك يسبحون أي: كل واحد منهما يجري في الفلك، كالسابح في الماء. و(الفلك) في اللغة كل شيء دائر.

قال بعض علماء الفلك: تشير الآية إلى حركة هذه الكواكب كآية: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وهما تدلان على أن حركة الكواكب ذاتية . لا كما يقول القدماء من أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها، وبدورانها تتحرك الكواكب.
وقوله تعالى:

[ ص: 4270 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[34] وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون .

وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون نزلت حين قالوا: نتربص به ريب المنون فكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، لما يأملون ذهاب الدعوة النبوية، وتبدد نظامها، بفقد واسطة عقدها. فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذه الآية، بما قضى أنه لا يخلد في الدنيا بشرا، لكونه مخالفا للحكمة التكوينية . وأعلم بحفظ تنزيله وحراسته من المؤثرات ما بقيت الدنيا بقوله: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون

قال ابن كثير : فقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن. لأنه بشر سواء كان وليا، أو نبيا أو رسولا. انتهى.

وتقدم بسط ذلك في سورة الكهف فتذكر. وفي معنى الآية قول عروة الصحابي رضي الله عنه:


إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا


وقول الشافعي :


تمنى أناس أن أموت، وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى: تهيأ لأخرى مثلها، وكأن قد






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 31-08-2024 الساعة 10:29 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.89 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.39%)]