عرض مشاركة واحدة
  #456  
قديم 31-08-2024, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,208
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4271 الى صـ 4285
الحلقة (456)




القول في تأويل قوله تعالى:

[35] كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .

كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير أي: نختبركم بما يجب فيه الصبر من المصائب، وما يجب فيه الشكر من النعم: فتنة أي: اختبارا. وهو مصدر مؤكد لـ " لنبلوكم " من غير لفظه: وإلينا ترجعون أي: فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر.

قال الزمخشري : وإنما سمى ذلك ابتلاء، وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار، أي: فهو استعارة تمثيلية. قال القاضي : وفي الآية إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق. وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون عني بهذه الآية مستهزئو قريش ، كأبي جهل وأضرابه ممن كان يسخر من رسالته صلوات الله عليه، ويتغيظ لسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم. كما قال تعالى: وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا وإضافة ذكر (للرحمن) من إضافة المصدر لمفعوله أي: بتوحيده. أو للفاعل، أي: بإرشاده الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. هم كافرون، أي: فهم أحق أن يهزأ بهم. وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص.
وقوله تعالى:

[ ص: 4272 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[37] خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون .

خلق الإنسان من عجل كقوله تعالى: وكان الإنسان عجولا جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه. كقولك: خلق زيد من الكرم، تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق، منزلة ما طبع هو منه من الأركان، إيذانا بغاية لزومه له، وعدم انفكاكه عنه، فالآية استعارة مكنية، بتشبيه العجل لكونه مطبوعا عليه، بمادته. ويجوز أن تكون تصريحية. والمراد بالإنسان الجنس. ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد: سأريكم آياتي أي: نقماتي في الدنيا كوقعة بدر. وفي الآخرة عذاب النار: فلا تستعجلون أي: بالإتيان بها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[38] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .

ويقولون متى هذا الوعد أي: الموعود من العذاب الأخروي، بطريق الاستهزاء والإنكار، لا لتعيين وقته: إن كنتم صادقين في إتيانه. قال الزمخشري : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار. فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم. فقدم أولا ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها. ثم نهاهم وزجرهم. كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا. فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم.
ثم بين هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه، وأن عجلتهم لجهلهم بمغبته، بقوله تعالى:

[ ص: 4273 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[39] لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [40] بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون .

لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم أي: لا يدفعونها عن أشرف أعضائهم وأقواها. فتقديم الوجه لشرفه، ولكون الدفع عنه أهم من غيره أيضا: ولا هم ينصرون أي: بدفع أحد عنهم. وجواب لو محذوف أي: لما استعجلوا. وقيل لو للتمني. لا جواب لها: بل تأتيهم بغتة فتبهتهم أي: فجأة فتحيرهم. لأنهم إن أرادوا الصبر عليها لم يقدروا عليه. وإن أرادوا ردها: فلا يستطيعون ردها أي: بسبب من الأسباب: ولا هم ينظرون أي: يمهلون ليستريحوا طرفة عين لتمام مدة الإنظار قبله. ثم أشار إلى تسليته عليه الصلاة والسلام عن استهزائهم، في ضمن وعيد لهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق أي: نزل: بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون أي عذابه أو جزاؤه، على وضع السبب موضع المسبب، إيذانا بكمال الملابسة بينهما، أو عين استهزائهم، إن أريد بذلك العذاب الأخروي، بناء على تجسم الأعمال. [ ص: 4274 ] فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية، تبرز في النشأة الأخرى بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. أفاده أبو السعود .
القول في تأويل قوله تعالى:

[42] قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون [43] أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون .

قل من يكلؤكم أي: يحفظكم: بالليل والنهار من الرحمن أي: من بأسه أي: يفجأكم. وتقديم (الليل) لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفي لفظ (الرحمن) تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وتلقين للجواب. وقيل إنه إيماء إلى شدته. كغضب الحليم. وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته. ودلالة على شدة خبثهم. قال المهايمي : ولا يمنع من ذلك عموم رحمته. إذ بتعذيبكم يعتبر أهل عصركم ومن بعدهم. فيكون لإصلاح أمورهم الموجب لرحمته عليهم، ولا يغترون في ذلك بعموم رحمته حتى يرجى منعها عن ذلك: بل هم عن ذكر ربهم معرضون أي: لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، ويعدوا ما هم عليه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة، حتى يسألوا عن الكالئ: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون أي: لهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا وأنزلنا بهم بأسنا، من دوننا. ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. ثم وصف جل ثناؤه تلك الآلهة بالضعف والمهانة وما هي به من صفتها. ومعناه: كيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا، وهي لا تستطيع نصر أنفسها ولا هي بمصحوبة منا بالنصر والتأييد. أفاده [ ص: 4275 ] ابن جرير . فـ (فيصحبون) بمعنى يجارون يقال: (صحبك الله)، أي: أجارك وسلمك، كما في (الأساس) . قال ابن جرير: أي: لا يصحبون بالجوار لأن العرب محكي عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب، بمعنى: أجيرك وأمنعك. وهم إذا لم يصحبوا بالجوار لم يكن لهم مانع من عذاب الله، مع سخطه عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون .

بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر إضراب عما توهموا، ببيان أن الداعي إلى غيهم وعنادهم هو ما متعوا به في الحياة الدنيا ونعموا به هم ومن قبلهم حتى طال عليهم الأمد. لا تأتيهم واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب حتى حسبوا أنهم على شيء وأنهم لا يغلبون: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: ننقص أرض الكفر فنخربها من نواحيها بقهرنا أهلها وغلبتنا لهم وإجلائهم عنها وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف. أفاده ابن جرير . وهذا كقوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون وقوله تعالى: أفهم الغالبون [ ص: 4276 ] أي: أفهؤلاء المشركون المستعجلون بالعذاب، الغالبون لنا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرض؟

وفي التعريف تعريض بأنه تعالى هو الغالب المعروف بالقهر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون .

قل إنما أنذركم بالوحي أي: تنزيل الله الذي يوحيه إلي من عنده وأخوفكم به بأسه، لا بالإتيان بما تستعجلون، لأن ذلك ليس إلي، على ما فيه من الحكمة في هذه البعثة التي بنيت على البراهين العقلية، لا الخارقات الحسية كما قدمنا. ثم أشار إلى كمال جهلهم وعنادهم، بأن هذا الإنذار لا يجديهم، بقوله تعالى: ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون أي: فهم لا يصغون بسمع قلوبهم إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكرى، فيتذكرون بها ويعتبرون فينزجرون إذا تلي عليهم، بل يعرضون عن الاعتبار به والتفكير فيه، فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به. وتقييد تصامهم بقوله: إذا ما ينذرون مع أنهم لا يسمعون نذارة ولا بشارة، إما لأن المقام مقام إنذار، أو لأن من لا يسمع إذا خوف، كيف يسمع في غيره، فهو أبلغ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[46] ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين .

ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين أي: ولئن أصابهم شيء أدنى من عقوبته تعالى، لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم في التصام والإعراض وعبادة تلك الآلهة وتركهم عبادة من خلقهم.

[ ص: 4277 ] لطيفة:

في صدر الآية مبالغات. ذكر المس. وما في النفحة من معنى القلة. فإن أصل النفخ هبوب رائحة الشيء. والبناء الدال على المرة. والتنكير. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

ونضع الموازين القسط ليوم القيامة بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. أي: نقيم الموازين العادلة الحقيقية التي توزن بها صحائف الأعمال. وقيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم مثقال ذرة. وإنما وصفت الموازين بالقسط وهو مفرد، لأنه مصدر وصف به للمبالغة، كأنها في نفسها قسط. أو على حذف المضاف أي: ذوات القسط. وقيل إنه مفعول له. واللام في ليوم القيامة للتعليل أو بمعنى في أي: لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه: فلا تظلم نفس شيئا أي: من حقوقها. أي: شيئا ما من الظلم. بل يوفى كل ذي حق حقه: وإن كان العمل أو الظلم: مثقال حبة من خردل أتينا بها أي: أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل. للوزن. وأنث لإضافته إلى الحبة: وكفى بنا حاسبين أي: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين. لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم، وما سلف في الدنيا من صالح أو سيئ منا.
وقوله تعالى:

[ ص: 4278 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[48] ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [49] الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون .

ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين شروع في قصص الأنبياء، تسلية له صلوات الله عليه وعليهم، فيما يناله من أذى قومه، وتقوية لفؤاده على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونها. قال أبو السعود : نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم إلى قوله: المسرفين وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم. وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه. والمراد بـ(الفرقان) التوراة وكذا بـ(الضياء) و(الذكر). أي: وبالله لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل. وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل وذكرا يتعظ به الناس. وتخصيص (المتقين) بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره. انتهى. الذين يخشون ربهم بالغيب أي: يخافون عذابه وهو غير مشاهد لهم. وفيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون في الإنذار، ما لم يشاهدوا ما أنذروه: وهم من الساعة مشفقون أي: وجلون أن تأتي الساعة التي تقوم فيها القيامة فيردوا على ربهم، قد فرطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم بما لا قبل لهم به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] وهذا ذكر مبارك أنـزلناه أفأنتم له منكرون .

وهذا أي: القرآن الكريم: ذكر أي: يتذكر به من يتذكر: مبارك أي: كثير الخير والنفع: أنـزلناه أفأنتم له منكرون أي: مع ظهور كون إنزاله كإيتاء [ ص: 4279 ] التوراة. وفي الاستفهام الإنكاري توبيخ لهم بأنه لا ينبغي لهم إنكاره وهم عارفون بمزايا إعجازه. وتقديم (له) للفاصلة أو للحصر. لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين .

ولقد آتينا إبراهيم رشده أي: هدايته للحق وهو التوحيد الخالص: من قبل أي: من قبل موسى وهارون : وكنا به عالمين أي: علمنا أنه أهل لما آتيناه. أو علمنا أنه جامع لمكارم الأخلاق التي آتيناه إياها، فأهلناه لخلتنا وأخلصناه لاصطفائنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[52] إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .

إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون أي: ما هذه الصور الحقيرة التي عكفتم على عبادتها. استفهام تحقير لها وتوبيخ على العكوف على عبادتها، بأنها تماثيل صور بلا روح، مصنوعة لا تضر ولا تنفع، فكيف تعبد؟.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [54] قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين .

قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين أي: فقلدناهم وتأسينا بهم. قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين أي: لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع. وفي الإتيان بـ(في) الظرفية دلالة على تمكنهم في ضلالهم، وأنه ضلال قديم موروث. فهو أبلغ من (ضالين).
[ ص: 4280 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[55] قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين [56] قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين .

قالوا أجئتنا بالحق أي: بالجد في دعوى الرسالة ونسبتنا إلى الضلال: أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين قال الزمخشري رحمه الله: الضمير في (فطرهن) للسماوات والأرض أو للتماثيل. وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. أي: لدلالته صراحة على كونها مخلوقة غير صالحة للألوهية، بخلاف الأول، وجوابه عليه السلام إما إضراب عما بنوا عليه مقالتهم في اعتقاد كونها أربابا لهم، كما يفصح عنه قولهم: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل: ربكم الآية. أو إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقوله: من الشاهدين أي: المبرهنين عليه بالحجة، لا لقولكم العاطل منها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين .

وتالله لأكيدن أصنامكم لأحتالن لفضيحتها بإظهار عجزها: بعد أن تولوا مدبرين أي: عنها بفراغكم من عبادتها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون .

[ ص: 4281 ] فجعلهم جذاذا أي: قطعا مكسرة، بعد أن ولوا عنها، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحد. فهو عجزهم في الدفع عن أنفسهم. فتوقع عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه: إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون أي: فيسألونه: لم فعل بآلهتهم؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق، فمن دونه أعجز منه في ذلك. فضلا عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه. فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[59] قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .

قالوا من فعل هذا أي: هذا الفعل الفظيع: بآلهتنا إنه لمن الظالمين أي: لجرأته على إهانتها وهي الجديرة عندهم بالتعظيم. أو لإفراطه في التجذيذ والحطم، وتماديه في الاستهانة بها. أو بتعريض نفسه للهلكة. والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتشنيع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [61] قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون .

قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون أي: يحضرون عقوبته.

قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، أن يبين في هذا المحفل العظيم كثيرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا. فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟.
[ ص: 4282 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[62] قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم [63] قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .

قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا يعني الذي تركه لم يكسره. فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله: فاسألوهم أي: يجيبوكم: إن كانوا ينطقون أي: والأظهر عجزهم الكلي المانع من القول بإلهيتها. والقول فيه، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة، وتبكيتهم. ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره، يسند إلى الحامل عليه. فيكون تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم، لإشراكهم بعبادته الأصنام. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. فكأنه قيل: فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم، والقضية ممكنة. وأظهر هذه الأوجه هو الأول. وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي، وعبارته: وأما قوله عليه السلام: بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار. فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر. وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم. ولم يقل إبراهيم هذا على [ ص: 4283 ] أنه محقق لأن كبيرهم فعله. إذ الكذب، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وقصدا إلى تحقيق ذلك. وجلي أن مراده عليه السلام، على كل، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون أي: إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا. قال أبو السعود : وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب، وأن عدم نطقهم أظهر، وتبكيتهم بذلك أدخل. وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون .

فرجعوا إلى أنفسهم أي: فراجعوا عقولهم، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر، والمراد بالنفس النفس الناطقة، والرجوع إليها عبارة عما ذكر: فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي: بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع، لا من كسرها، فلم تنسبونه إلى الظلم بقولكم: إنه لمن الظالمين
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون .

ثم نكسوا على رءوسهم أي: حياء من نقصهم، وخضوعا وانفعالا من إبراهيم ، قائلين: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون أي: ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟.
[ ص: 4284 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[66] قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم [67] أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .

قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أي: قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع.

تنبيه:

ذكر في الكشاف في قوله تعالى: ثم نكسوا على رءوسهم أربعة أوجه. وحاصله كما في العناية -أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله. فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها، مع عجزها فضلا عن كونها في معرض الألوهية. فقوله: لقد علمت معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به. والدليل عليه قوله: أفتعبدون إلخ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم: لقد علمت لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية، وسمي (نكسا) وإن كان حقا، لأنه ما أفادهم مع الإصرار. ولكنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل. أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلا وقولهم: لقد علمت لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم. أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر. وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة. قال الزمخشري : أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ولما عجزوا عن المحاجة أخذوا في المضارة، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته.
[ ص: 4285 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[68] قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين .

قالوا حرقوه أي: لأنه استحق أشد العقاب عندهم، والنار أهول ما يعاقب به: وانصروا آلهتكم أي: بالانتقام لها: إن كنتم فاعلين أي: به شيئا من السياسة، فلا يليق به غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .

قلنا أي: تعجيزا لهم ولأصنامهم، وعناية بمن أرسلناه، وتصديقا له في إنجاء من آمن به: يا نار كوني بردا أي: باردة على إبراهيم، مع كونك محرقة للحطب: وسلاما على إبراهيم أي: ولا تنتهي في البرد إلى حيث يهلكه، بل كوني غير ضارة. وجوز كون سلاما منصوبا بفعله. والأمر مجاز عن التسخير، كما في قوله: كونوا قردة ففيه استعارة بالكناية بتشبيهها بمأمور مطيع، وتخييلها الأمر والنداء، ولذا قال أبو مسلم : المعنى أنه سبحانه وتعالى جعل النار بردا وسلاما، لا أن هناك كلاما، كقوله: أن يقول له كن فيكون أي: فيكونه. فإن النار جماد ولا يجوز خطابه. وهو ظاهر.

تنبيه:

قال الرازي : لهم في كيفية برودة النار ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والاحتراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق. والله على كل شيء قدير.

وثانيها: أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه. كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة. وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة. وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 31-08-2024 الساعة 10:54 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.01 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]