عرض مشاركة واحدة
  #424  
قديم 02-11-2024, 11:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ...َ ﴾


قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 274 - 281].

قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

في هذه الآية امتداح من الله- عز وجل- للمنفقين في سبيله في جميع الأوقات والأحوال، ووعد منه لهم- بالأجر عنده- عز وجل- وعدم الخوف والحزن.

قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ «الذين» مبتدأ. وخبره جملة ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾، والإنفاق: إخراج المال وبذله.

والمراد به هنا: إخراج المال وبذله في وجوهه الشرعية الواجبة كالزكاة، والنفقة على الأهل والأولاد، والكفارات ونحو ذلك، والمستحبة كسائر الصدقات والنفقات والهدايا، ونحو ذلك.

﴿ أَمْوَالَهُمْ ﴾ المال: اسم لكل ما يتمول ويملك من نقد، أو عين؛ من أثاث، أو عقار، أو غير ذلك.

﴿ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ الباء للظرفية، أي: في الليل والنهار، والمراد في جميع الأوقات.

﴿ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾: صفتان لمصدر محذوف وقع مفعولًا مطلقًا، أي: إنفاقًا سرًّا وعلانية، أو مصدران في موضع الحال، أي: مسرين ومعلنين.

ومعنى «سرًّا» أي: خفاءً. ﴿ وَعَلَانِيَةً ﴾؛ أي: جهرًا، كما قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 75].

والمراد أنهم ينفقون في جميع الأحوال، وحسب مقتضى الحال، فبعض الأحوال والمواقف يحسن فيها الإسرار؛ لما فيه من الإخلاص لله، والسلامة من الرياء والسمعة؛ ولما فيه من ستر حال المنفَق عليه.

ولهذا ذكر صلى الله عليه وسلم ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»[1].

وفي بعض الأحوال قد يحسن الإعلان والإظهار، إذا كان المقصود من ذلك إظهار السنة، وإشهارها بين الناس.

ولهذا لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من مضر قد اشتدت بهم الحاجة، تمعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة، وقام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس، وحثَّ على الصدقة، ورغَّب فيها، فجاءه رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى كان عنده كومان من طعام وثياب، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء»[2].

﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ الجملة خبر المبتدأ ﴿ الَّذِينَ، واقترنت بالفاء لمشابهة الموصول للشرط في العموم، وهذه الجملة مكونة من مبتدأ وخبر، وقدم فيها الخبر، وهو قوله: ﴿ فَلَهُمْ ﴾ على المبتدأ ﴿ أَجْرُهُمْ ﴾ لتأكيد إثابتهم بذلك.

والمعنى: فلهم ثوابهم العظيم على إنفاقهم.

وسمي ثوابهم أجرًا؛ لأن الله- عز وجل- تكفل به- وأوجبه على نفسه، كما أوجب- عز وجل- على المستأجر دفع أجرة الأجير، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»[3].

وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله- عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره»[4].

﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ في هذه إشارة لعظم ثوابهم، وتأكيد لضمان ذلك لهم؛ لأنه عند ربهم العظيم، خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم، ومربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة.

كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277].

وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تضع في فيّ امرأتك»[5].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة»[6].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل»[7].

﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ الخوف يكون مما يستقبل، من حصول مكروه، أو فوات محبوب، أي: ولا خوف عليهم مما أمامهم، من أهوال القيامة، وغير ذلك، بل هم آمنون مطمئنون.

كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30].

وهم أيضًا في الدنيا آمنون مطمئنون، لا يخافون مما يخاف منه كثير من الناس، لاعتمادهم على ربهم- عز وجل- وخوفهم منه وحده.

كما قال الله- عز وجل: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 173، 175].

فلهم في الدنيا الأمن النفسي، والأسري، والاجتماعي والدولي، حالهم كما قال الشاعر:
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
النور في جنبي وبين جوانحي
فعلام أخشى السير في الظلماء[8]



ولهم الأمن في الآخرة من أهوال يوم القيامة، وعذاب النار.

﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ الحزن يكون على ما مضى من فوات محبوب، أي: ولا هم يحزنون على ما أنفقوه لوجه الله تعالى، ولا على ما فاتهم من الدنيا، ولا على ما خلفوه فيها بعد مماتهم؛ لحقارتها في أعينهم، وثقتهم بأن ما عند الله هو خير لهم وأبقى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 30، 31].

قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.

ذكر الله- عز وجل- في الآية السابقة المنفقين أموالهم في سبيل الله في جميع الأوقات والأحوال ابتغاء مرضاة الله- عز وجل- وما أعد لهم من الأجر العظيم والأمن من الخوف والسلامة من الحزن، ثم أتبع ذلك بذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل، وما أعد لهم من سوء الحال والمآل، والخلود في النار وبئس القرار.

قوله: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ الربا في اللغة: الزيادة؛ قال تعالى: ﴿ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ﴾ [الحاقة: 10]؛ أي: زائدة، وقال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]؛ أي: زادت، وعلت.

وفي الشرع: زيادة بين شيئين يحرم التفاضل بينهما، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»[9].

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، تبرها وعينها، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر، مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا»[10].

ومعنى ﴿ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾؛ أي: يأخذونه وينتفعون به بأي وجه من أوجه الانتفاع من أكل أو شرب أو لباس أو سكن أو مركب، أو غير ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 16].

وعبر بالأكل مع أن أخذ الربا وصرفه في أي وجه من وجوه الاستعمال كل ذلك سواء؛ لأن الأكل هو المقصود الأهم من جمع المال، وهو- كما يقال: كسوة الباطن.

وقد قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278].

وهذا أعم من الأكل، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله»[11]. وفي رواية زيادة «وكاتبه وشاهديه»[12].

﴿ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾؛ أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6].

﴿ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ﴾ «إلا» أداة حصر، و«الكاف» للتشبيه، و«ما» مصدرية، أي: إلا قيامًا كقيام ﴿ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، والخبط والتخبط: الضرب الشديد العشوائي، الذي لا يتقي شيئًا، والمعنى: الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون، فهم يقومون ويسقطون، وذلك عقوبة لهم، وخزي وفضيحة وهوان، وهذا خبر عنهم ووعيد لهم.

والشيطان: كل متمرد عات خارج عن طاعة الله تعالى سمي بذلك لأنه شطُن وبَعُد عن رحمة الله تعالى وعن كل خير، ورأس الشياطين وأصلهم إبليس. لعنه الله.

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، قال: «ذلك حين يبعث من قبره»[13].

وقيل: لا يقومون في حياتهم عند التعامل بالربا إلا كقيام الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون، فهم في قيامهم وتصرفاتهم وجشعهم حين تعاملهم بالربا أشبه بالمجانين، قد أذهب عقولهم حب المال، وجمعه بأي وسيلة، ولو كان من طريق الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وفي هذا تشنيع عليهم، وبيان سوء حالهم في الدنيا قبل الآخرة. وهذه حالهم في الدارين.

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، الإشارة لقيامهم كقيام من يتخبطه الشيطان من المس، والباء للسببية، أي: إنما جُوزوا بما ذكر بسبب أنهم ﴿ قَالُوا ﴾ بلسان المقال والحال:
﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾؛ أي: إنما البيع شبه الربا ونظيره، فلم حرم الربا، وأبيح البيع، وهما متماثلان وشبيهان.

وهذا منهم اعتراض على الله- عز وجل- في أحكامه وشرعه، سواء كان عمي عليهم الفرق بينهما، أو قالوا ذلك على سبيل المكابرة، وهو الأظهر. فجمعوا بين فعل المحرم واستحلاله.

قال ابن كثير[14]: «وليس هذا منهم قياسًا للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾؛ أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا».

وقال السعدي[15]: «فجمعوا بجراءتهم بين ما أحل الله وبين ما حرَّم الله، واستباحوا بذلك الربا».

وليس ببعيد عن هؤلاء ما عليه كثير من الناس اليوم من إقدام كثير منهم على المعاملات الربوية المحرمة، أو التساهل في الدخول في المعاملات والمساهمات المختلطة وغير النقية، مصداق قوله- صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا» قيل له: الناس كلهم؟ قال: «من لم يأكله منهم ناله من غباره»[16].

﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا: الواو: استئنافية، وهذا رد عليهم في اعتراضهم وقولهم: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾.

فبيَّن الله - عز وجل - أنهما ليسا مثيلين؛ لأن الله - عز وجل - فرق بينهما، فأحل عز وجل البيع وأباحه، وحرم الربا ومنعه، عقدًا وأخذًا.

أباح- عز وجل- البيع لحاجة الناس إليه، ومنع الربا لأنه أخذ لمال الغير بلا عوض، وسبب لركود الاقتصاد وتضخم الأموال عند الأغنياء على حساب الفقراء، بلا كد ولا تعب، وانقطاع القرض الحسن الذي ندب الله- عز وجل- إليه، إلى غير ذلك.

﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى ﴾ الفاء: استئنافية، و«من» شرطية، «جاءه» فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾.

والموعظة: ذكر الحكم مقرونًا بالترغيب بامتثاله أمرًا كان أو نهيًا، والترهيب من مخالفته.

والمعنى هنا: فمن أتاه وبلغه ﴿ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ بتحريم الربا، والنهي عنه، والوعيد عليه، كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130].

﴿ فَانْتَهَى ﴾ أي: كف عن الربا، وتركه، وتاب منه.

﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾؛ أي: فله ما مضى من المعاملة بالربا، وما تم قبضه منه، قبل التحريم وقبل العلم بالحكم، دون ما لم يقبضه؛ لقوله تعالى في الآيات التالية بعد هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279].

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله»[17].

﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: وشأنه إلى ﷲ تعالى في مجازاته على الانتهاء من الربا، وهذا أشبه بالوعد، ويقوي هذا مقابلته بالوعيد في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.

أي: ﴿ ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ إلى أخذ الربا وأكله بعد أن بلغه تحريمه والوعيد عليه.

﴿ فَأُولَئِكَ ﴾ الإشارة بالجمع باعتبار معنى «من» أي: فأولئك العائدون إلى أخذ وأكل الربا، وما نهى الله عنه.

﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ أي: أهلها وساكنوها وملازموها، ملازمة الصاحب لصاحبه.

﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾؛ أي: هم فيها مقيمون.

وقد أشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم، وأكد ملازمتهم النار وخلودهم فيها بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين.

والخلود في الآية قد يحمل على الخلود الأبدي إذا كان المراد بالآية العودة إلى فعل ما يكفر من الذنوب، كاستحلال الربا، وغيره من المحرمات والمعاصي، وكالإشراك بالله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].

وقد يحمل الخلود على طول المكث والإقامة في النار، دون الخلود فيها إذا كان المراد العودة إلى فعل ما لا يكفر من الذنوب والمعاصي، كأخذ الربا من غير استحلال له، ونحو ذلك.

قوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾.

قوله: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾؛ أي: يزيله ويذهبه حسيًّا بالآفات والجوائح، ومعنويًّا بنزع بركته فلا ينتفع به صاحبه، معاملة له بنقيض قصده، حيث أراد الزيادة بهذا المسلك فصار أمره إلى قلة.

كما قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 101].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل»[18].

وفي رواية: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة»[19].

فأخذ الربا وأكله محق للكسب والمال، بخلاف ما يعتقده المرابون من أنه يزيد المال، كما أنه محق لبركة الأعمار، وفساد في الأخلاق، في الأنفس والأهل والأولاد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يربو لحم نبت من سحت، إلا كانت النار أولى به»[20].

وذكر صلى الله عليه وسلم: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك»[21].

ولهذا اعتبر الربا محاربة ﷲ ورسوله، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279].

و«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه»[22].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون حوبًا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه»[23].

وعن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية»[24].

﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ «ويُرْبي» بضم الياء والتخفيف من «ربا الشيء يربو» أي: زاد ونما «وأرباه» أي: زاده ونماه «يُرْبيه» أي: يزيده، وينميه.

والمعنى: ويزيد الصدقات وينميها ويضاعفها، بزيادة أجرها، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.

ويزيد أموال المتصدقين معنويًا؛ بالبركة فيها، وحسيًّا؛ بتنميتها ومضاعفتها بالخلف العاجل في الدنيا.

قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»[25].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل»[26].

وفي رواية: «فيربيها كما يربي أحدكم مُهْره- أو فلوه- حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله- عز وجل: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104] و﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾»[27].


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.45 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]