وقرأ الباقون برفع «تجارةٌ حاضرةٌ»، على أن «تجارةٌ»: اسم «تكون»، و«حاضرةٌ»: صفة لها، وخبرها جملة: «تديرونها بينكم»، ومعنى «حاضرة» منجزة، وليست دينًا مؤجلًا.
﴿ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾: تتبادلونها بينكم، فيأخذ البائع الثمن، ويأخذ المبتاع السلعة.
والتجارة: اسم يقع على عقود المعاوضات التي تطلب بها الأرباح، كالبيع والشراء والإجارة، ونحو ذلك.
وأعظم التجارة المتاجرة والمرابحة مع الله- عز وجل- بالإيمان به، والجهاد في سبيله، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: 10 - 12].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30].
﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾ «الفاء» عاطفة، أي: فليس عليكم حرج ولا إثم في عدم كتابتها، إذ لا محذور يترتب على تركها؛ لأن الكتابة إنما أمر بها لتفادي الجحود والنسيان؛ إمّا لأصل البيع، أو قدر الدين، أو أجله ونحو ذلك، وكل هذا مرتفع في البيع الحاضر ونحوه.
﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ أي: واطلبوا من يشهد على البيع إذا باع بعضكم على بعض؛ حسمًا لمادة النزاع والاختلاف.
والأصل في الأمر الوجوب، لكن حمل جمهور أهل العلم الأمر هنا على الندب؛ لما في الإشهاد على كل بيع من المشقة، ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية بعد هذه الآية: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283].
وحديث عمارة بن خزيمة الأنصاري رضي الله عنه أن عمه حدثه- وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس، وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الإعرابي، قال: «أوليس قد ابتعته منك؟» قال الأعرابي: لا والله، ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى قد ابتعته منك». فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا. حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد»؟ قال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين»[16].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر أن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدًا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلًا. قال: صدقت. فدفعها إليه، إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلت: كفى بالله كفيلًا. فرضي بذلك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا. فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبًا، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لعل مركبًا يجيء بما له، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي تسلف منه، فأتاه بألف دينار وقال: وﷲ ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشدًا»[17].
﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ الواو: عاطفة و«لا» ناهية، و﴿ يُضَارَّ ﴾ مأخوذ من المضارة، وهي: إلحاق الأذى والضرر.
والفعل «يُضار» أصله «يضارر» ويحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل، أي: ولا يضارِرْ كاتب ولا شهيد، فـ«كاتب» فاعل، والواو: عاطفة و«لا» زائدة من حيث الإعراب مؤكدة للنفي من حيث المعنى و«شهيد» معطوف على «كاتب» أي: ولا يُضارِرْ كاتب في كتابته، فيكتب غير ما يُملى عليه، أو يمتنع من الكتابة مضارة للمملي أو لغيره.
ولا يُضارِرْ شهيد في شهادته، فيشهد بخلاف ما رأى وسمع، وبخلاف الحق، أو يمتنع من تحمل الشهادة، أو أدائها أو يكتمها مضارة للمشهود له.
ويحتمل أن يكون الفعل «يضار» مبنيًا للمفعول، فيكون «كاتب» نائب فاعل، أي: ولا يُضارَرْ كاتب إذا كتب كما أُملي عليه أو امتنع من الكتابة ونحو ذلك.
ولا يُضارَرْ شهيد إذا شهد بالحق وبما رأى وسمع، أو إذا امتنع من تحمل الشهادة، ونحو ذلك؛ لأن كلًا منهما محسن، وقد قال الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91].
﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ الواو: عاطفة، أو استئنافية، أي: وإن تفعلوا المضارة بأن يضار بعضكم بعضًا.
﴿ فَإِنَّهُ ﴾ أي: فعل المضارة ﴿ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ أي: خروج منكم عن طاعة الله- عز وجل- وفي التعبير بالباء في قوله: ﴿ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ بدل «من» إشارة إلى لزوم ذلك لهم، أي: فإنه فسوق كائن بكم، لازم لكم، لا تحيدون عنه، ولا تنفكون منه.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره وترك نواهيه يَقِكُم عذابه.
﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ الواو: للاستئناف، أي: ويعلمكم الله ما ينفعكم في أمر دينكم ودنياكم، وما تفرقون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: إن علمه- عز وجل- محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة: قبل وجودها، وبعد وجودها، وبعد عدمها، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف كان يكون.
وقدم المتعلِّقين ﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ على المتعلَّق به وهو قوله ﴿ عَلِيمٌ ﴾ لتأكيد شمول علمه عز وجل- لكل شيء.
قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾
قوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ الواو: استئنافية، أو عاطفة، و«إن»: شرطية، و«كنتم»: فعل الشرط، أي: وإن كنتم مسافرين، وتداينتم حال السفر، بدين إلى أجل مسمى.
والسفر: هو الضرب في الأرض والسير فيها، سُمي سفرًا لأنه خروج من البلد ومحل الإقامة إلى حيث السفر والنور. قال ابن فارس[18]: «سمي بذلك، لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم».
وقيل: سمي سفرًا، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
﴿ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ﴾ يكتب الدين بينكم، ومثل هذا إذا لم يجدوا أدوات الكتابة، كالقرطاس والقلم ونحو ذلك.
﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ جملة جواب الشرط «إن»، واقترن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، أي: فعليكم رهان مقبوضة، أو فالوثيقة رهان مقبوضة.
قرأ ابن كثير وأبوعمرو «فرُهُن» بضم الراء والهاء من غير ألف، وقرأ الباقون «فرهان» بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها.
و«الرهان» و«الرُهُن» ما تُوَثَّق به الديون من الأشياء العينية، وهي جمع «رهن» وهو في اللغة الحبس، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [المدثر: 38]؛ أي: مرتهنة محبوسة بما كسبت.
والرهن في الاصطلاح: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.
﴿ مَقْبُوضَةٌ ﴾ أي: يقبضها الدائن وهو «المرتهِن»، ويأخذها من «الراهن» وهو المدين، بأن يحوزها إليه، إذا كانت مما ينقل، أو تكون تحت سيطرته إذا كانت مما لا ينقل، كالعقار، ونحوه.
ومثل هذا إذا كان الدين في الحضر، ولم يجدوا كاتبًا، وإنما خص السفر؛ لأنه مظنة عدم وجود الكاتب، أما الحضر فيندر فيه عدم وجود الكاتب.
قال ابن القيم[19]: «وقاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر، والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه، فإن استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر، فلا عموم في ذلك، فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي، فلابد من القياس، إما على الآية، وإما على السنة».
﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن»: شرطية، و«أمن»: فعل الشرط، أي: فإن أمن بعضكم بعضًا، ولم تكتبوا الدين، ولم تشهدوا عليه.
والمعنى: فإن اطمأن بعضكم إلى بعض، ووثق بأنه لن يُنكِر أو يَبخس أو يُغيّر، فلم يوثق حقه برهن مقبوض، ولم يُشهد ولم يَكتب.
﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ جملة جواب الشرط ﴿ فَإِنْ أَمِنَ ﴾، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية، واللام: لام الأمر، أي: فليؤد المدين الذي ائتمنه الدائن، ﴿ أَمَانَتَهُ ﴾؛ أي: الذي ائتمن عليه من الدين وغيره.
قال صلى الله عليه وسلم: «أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»[20].
وقال صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»[21].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»[22].
﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ الواو: عاطفة، واللام: للأمر، والفعل: مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة الياء.
أي: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ فلا ينكر ما ائتمن عليه من دين وغيره، ولا يبخس منه شيئًا أو يماطل في أدائه.
وهذه الآية مخصصة لما سبق من الأمر بكتابة الدين والإشهاد عليه وتوثيقه بالرهن المقبوض.
﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: ناهية.
و«الكتمان»: الإخفاء والجحود، و«الشهادة»: ما شهد به الإنسان، مما حضره ورآه بعينه وسمعه بإذنه.
أي: لا تخفوا وتجحدوا ما شهدتم به، بإنكار الشهادة أصلًا، أو بالتغيير فيها والتبديل، بزيادة، أو نقصان، أو غير ذلك.
﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا ﴾ أي: ومن يكتم الشهادة ويخفها، أو يغير فيها ويبدل.
﴿ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا ﴾، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية. و«قلبه»: فاعل اسم الفاعل «آثم».
وأضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفي راجع إلى القلب؛ ولأن القلب ملك الأعضاء، عليه مدار الصلاح والفساد، كما قال صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[23].
وقال صلى الله عليه وسلم: «التقوى هـٰهنا، ويشير إلى صدره- ثلاث مرات»[24].
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
فمن كتم الشهادة فقلبه واقع في الإثم، وهو الذنب، وهو من الآثمين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: إن كتمناها.
﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، والله بالذي تعملون، أو بعملكم عليم، وسيحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها، خيرها وشرها. وقدم المتعلِّق وهو قوله: ﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ على المتعلق به، وهو «عليم» لتأكيد إحاطة علمه - عز وجل - بأعمالهم.
وفي هذا وعيد لمن خالف أمر الله، فأنكر ما عليه من حقوق، أو كتم الشهادة، أو غير في ذلك، وفيه وعد لمن أطاع الله واتقاه، فأدى ما عليه من حقوق، من دين أو شهادة، أو غير ذلك.
[1] أخرجه البخاري في السلم (2241)، ومسلم في المساقاة (1604)، وأبو داود في البيوع (3463)، والنسائي في البيوع (4616)، والترمذي في البيوع (1311)، وابن ماجه في التجارات (2280)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1913)، ومسلم في الصيام (1080)، وأبو داود في الصوم (2319)، والنسائي في الصيام (2140)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] في «تفسيره» (1/ 497).
[4] أخرجه البخاري في العتق (2518)، ومسلم في الإيمان (84)، وأحمد (2/ 388) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود في العلم (3658)، والترمذي في العلم (2649)، وابن ماجه في المقدمة (261)، وأحمد (2/ 304)- وقال الترمذي: «حديث حسن».
[6] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة- الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس (581)، وأبو داود في الصلاة (1276).
[7] في «تفسيره» (1/ 497).
[8] أي: تامة الخلق قوية.
[9] أخرجه مسلم في الإيمان (79)، وأخرجه البخاري في الحيض (304)، ومسلم في الإيمان (80)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[10] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 446).
[11] أخرجه مسلم في الأقضية (1719)، وأبو داود في الأقضية (4596)، والترمذي في الشهادات (2295)، وابن ماجه في الأحكام (2364).
[12] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2534).
[13] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533)، والترمذي في المناقب (3859)، وابن ماجه في الأحكام (2362).
[14] انظر «ديوانه» ص(35).
[15] انظر «ديوانه» ص(29).
[16] أخرجه أبو داود في الأقضية (3607)، والنسائي في البيوع (4647)، وأحمد (5/ 213- 214- 215- 216)، والحاكم في البيوع (2/ 17- 18)، وقال: «صحيح الإسناد، ورجاله باتفاق الشيخين ثقات، ولم يخرجاه»، وأخرجه البيهقي في الشهادات (10/ 145- 146).
[17] أخرجه أحمد (2/ 348)، وأخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم- في الكفالة (2291).
[18] في «مقاييس اللغة»، مادة «سفر».
[19] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 446- 447).
[20] أخرجه أبو داود في البيوع (3535)، والترمذي في البيوع (1264)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: «حسن غريب».
[21] أخرجه أبو داود في البيوع (3561)، والترمذي في البيوع (1266)، وابن ماجه في الأحكام (2400)، من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
[22] أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون (2387)، وابن ماجه في الأحكام (2411) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود في البيوع (3329)، والنسائي في البيوع (4453)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984).
[24] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2564)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.