عرض مشاركة واحدة
  #348  
قديم 06-11-2024, 09:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (7)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
من صــ 406 الى صــ 415
الحلقة (348)


وهذا كله ضعفه [ ص: 406 ] مالك ، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غزوه في أحد . قال أبو عمر بن عبد البر : اختلفوا في وقت إسلام العباس ، فقيل : أسلم قبل يوم بدر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من لقي العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : إن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها وذكر الحديث . وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر . وذكر أنه أسلم عام خيبر ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين ، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا .

قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون . واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال ، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم ، فإنها كانت محرمة على من قبلنا . فلما كان يوم بدر ، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عز وجل لولا كتاب من الله سبق أي بتحليل الغنائم . وروى أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا سلام عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرءوس غيركم . فكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها فأنزل الله تعالى : لولا كتاب من الله سبق إلى آخر الآيتين . وأخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وقال مجاهد والحسن . وعنهما أيضا وسعيد بن جبير : الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم . وقالت فرقة : الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب ، معينا . والعموم أصح ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر : وما يدريك لعل الله [ ص: 407 ] اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . خرجه مسلم . وقيل : الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم . وقيل : الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب أتاه جاهلا حتى يتقدم إليه . وقالت فرقة : الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر . وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها ، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى .

الثانية : ابن العربي : وفي الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه ، كالصائم إذا قال : هذا يوم نوبي فأفطر الآن . أو تقول المرأة : هذا يوم حيضتي فأفطر ، ففعلا ذلك ، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر ، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه ، وهي الرواية الأخرى . وجه الرواية الأولى أن طرو الإباحة لا يثبت عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك ، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها . وجه الرواية الثانية أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عز وجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله ، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته فإذا هي زوجته . وهذا أصح . والتعليل الأول لا يلزم ، لأن علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم ، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله . كما قال : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .

قوله تعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم يقتضي ظاهره أن تكون الغنيمة كلها للغانمين ، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء ، إلا أن قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة . وقد تقدم القول في هذا مستوفى .

[ ص: 408 ] قوله تعالى يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : له وحده . وقال ابن عباس رضي الله عنه : الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه . قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومك ، فنزلت هذه الآية . وقد تقدم بطلان هذا من قول مالك . وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة . وعن ابن إسحاق : بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس : يا رسول الله ، إني قد كنت مسلما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر . وقال : ما ذاك عندي يا رسول الله . قال : فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال : يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك . ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، وأنزل الله فيه : ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى الآية . قال ابن إسحاق : وكان أكثر الأسارى فداء العباس بن عبد المطلب ، لأنه كان رجلا موسرا ، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب . وفي البخاري : وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب : حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه . فقال : لا والله لا تذرون درهما . وذكر النقاش وغيره أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين [ ص: 409 ] أوقية ، إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أضعفوا الفداء على العباس وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية ، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب . وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر ، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم ، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب ، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية . فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل ؟ فقال العباس : أي ذهب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك . فقال : يا بن أخي ، من أخبرك بهذا ؟ قال : الله أخبرني . قال العباس : أشهد أنك صادق ، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم ، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر ، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، وكفرت بما سواه . وأمر ابني أخويه فأسلما ، ففيهما نزلت ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى . وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة ، وكان رجلا قصيرا ، وكان العباس ضخما طويلا ، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لقد أعانك عليه ملك .

الثانية قوله تعالى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا أي إسلاما يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي من الفدية . قيل في الدنيا . وقيل في الآخرة . وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ . فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله مختصر . في غير الصحيح : فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني ، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي . قال العباس : وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة . وأسند الطبري إلى العباس أنه قال : في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى . وقال : ذلك فيء فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي . وفي مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص . قالت : فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال : إن [ ص: 410 ] رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ؟ فقالوا : نعم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال : كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها . قال ابن إسحاق : وذلك بعد بدر بشهر . قال عبد الله بن أبي بكر : حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت : لما قدم أبو العاص مكة قال لي : تجهزي ، فالحقي بأبيك . قالت : فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت : يا بنت محمد ، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟ فقلت لها : ما أردت ذلك . فقالت ، أي بنت عم ، لا تفعلي ، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك ، فإن أردت سلعة بعتكها ، أو قرضا من نفقة أقرضتك ، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال . قالت : فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ، فخفتها فكتمتها وقلت : ما أريد ذلك . فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حموها يقود بها نهارا كنانة بن الربيع . وتسامع بذلك أهل مكة ، وخرج في طلبها هبار بن الأسود ونافع بن عبد القيس الفهري ، وكان أول من سبق إليها هبار فروعها بالرمح وهي في هودجها . وبرك كنانة ونثر نبله ، ثم أخذ قوسه وقال : والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما . وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال : يا هذا ، أمسك عنا نبلك حتى نكلمك ، فوقف عليه أبو سفيان وقال : إنك لم تصنع شيئا ، خرجت بالمرأة على رءوس الناس ، وقد عرفت مصيبتنا التي أصابتنا ببدر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رءوس الناس من بين أظهرنا . ارجع بالمرأة فأقم بها أياما ، ثم سلها سلا رفيقا في الليل فألحقها بأبيها ، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، وما لنا في ذلك الآن من ثؤرة فيما أصاب منا ، ففعل فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها ، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أنها قد كانت ألقت - للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن أم درهم - ما في بطنها .

الثالثة : قال ابن العربي : لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين .

قال علماؤنا : إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا ، إلا ما كان من الوسوسة التي [ ص: 411 ] لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة

وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا فقد خانوا الله من قبل بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك . وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم . وجمع خيانة خيائن ، وكان يجب أن يقال : خوائن لأنه من ذوات الواو ، إلا أنهم فرقوا بينه وبين جمع خائنة . ويقال : خائن وخوان وخونة وخانة .

قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى إن الذين آمنوا ختم السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به . وقد تقدم معنى الهجرة والجهاد لغة ومعنى .

والذين آووا ونصروا معطوف عليه . وهم الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ، وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون .

أولئك رفع بالابتداء بعضهم ابتداء ثان أولياء بعض خبره ، والجميع خبر إن . قال ابن عباس : أولياء بعض في الميراث ، فكانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقوله : وأولو الأرحام [ ص: 412 ] الآية . أخرجه أبو داود . وصار الميراث لذوي الأرحام من المؤمنين . ولا يتوارث أهل ملتين شيئا . ثم جاء قوله عليه السلام : ألحقوا الفرائض بأهلها على ما تقدم بيانه في آية المواريث . وقيل : ليس هنا نسخ ، وإنما معناه في النصرة والمعونة ، كما تقدم في " النساء " .

والذين آمنوا ابتداء والخبر ما لكم من ولايتهم من شيء

وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ( من ولايتهم ) بكسر الواو . وقيل هي لغة . وقيل : هي من وليت الشيء ، يقال : ولي بين الولاية . ووال بين الولاية . والفتح في هذا أبين وأحسن ، لأنه بمعنى النصرة والنسب . وقد تطلق الولاية والولاية بمعنى الإمارة .

الثانية : قوله تعالى وإن استنصروكم في الدين يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم ، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم . إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم ، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته . ابن العربي : إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة ، حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك ، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم . كذلك قال مالك وجميع العلماء ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال ، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد . الزجاج : ويجوز " فعليكم النصر " بالنصب على الإغراء .

الثالثة : قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين ، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، والكفار بعضهم أولياء بعض ، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم . قال علماؤنا في الكافرة يكون لها الأخ المسلم : لا يزوجها ، إذ لا ولاية بينهما ، ويزوجها أهل ملتها . فكما لا يزوج المسلمة إلا مسلم فكذلك الكافرة لا يزوجها إلا كافر قريب لها ، أو أسقف ، ولو من مسلم ، إلا أن تكون معتقة ، فإن عقد على غير [ ص: 413 ] المعتقة فسخ إن كان لمسلم ، ولا يعرض للنصراني . وقال أصبغ : لا يفسخ ، عقد المسلم أولى وأفضل .

الرابعة : قوله تعالى إلا تفعلوه الضمير عائد على الموارثة والتزامها . المعنى : إلا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون ، قاله ابن زيد . وقيل : هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي . ابن جريج وغيره : وهذا إن لم يفعل تقع الفتنة عنه عن قريب ، فهو آكد من الأول . وذكر الترمذي عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن محمد وسعد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . قالوا : يا رسول الله ، وإن كان فيه ؟ قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات . قال : حديث غريب . وقيل : يعود على حفظ العهد والميثاق الذي تضمنه قوله : إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق . وهذا وإن لم يفعل فهو الفتنة نفسها . وقيل : يعود على النصر للمسلمين في الدين . وهو معنى القول الثاني . قال ابن إسحاق : جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم ، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض . ثم قال : إلا تفعلوه وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين . تكن فتنة أي محنة بالحرب ، وما انجر معها من الغارات والجلاء والأسر . والفساد الكبير : ظهور الشرك . قال الكسائي : ويجوز النصب في قوله : تكن فتنة على معنى تكن فعلتكم فتنة وفسادا كبيرا .

حقا مصدر ، أي حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة . وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله : لهم مغفرة ورزق كريم أي ثواب عظيم في الجنة .

الخامسة : قوله تعالى والذين آمنوا من بعد وهاجروا يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان . وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى . والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصلح ، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة . ولهذا قال عليه السلام : لا هجرة بعد الفتح . فبين أن من آمن وهاجر من بعد يلتحق بهم . ومعنى منكم أي مثلكم في النصر والموالاة .

[ ص: 414 ] السادسة : قوله تعالى وأولو الأرحام ابتداء . والواحد ذو ، والرحم مؤنثة ، والجمع أرحام . والمراد بها هاهنا العصبات دون المولود بالرحم . ومما يبين أن المراد بالرحم العصبات قول العرب : وصلتك رحم . لا يريدون قرابة الأم . قالت قتيلة بنت الحارث - أخت النضر بن الحارث - كذا قال ابن هشام . قال السهيلي : الصحيح أنها بنت النضر لا أخته ، كذا وقع في كتاب الدلائل - ترثي أباها حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء :

يا راكبا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق لو كنت قابل فدية لفديته بأعز ما يفدى به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق صبرا يقاد إلى المنية متعبا رسف المقيد وهو عان موثق السابعة : واختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام - وهو من لا سهم له في الكتاب - من قرابة الميت وليس بعصبة ، كأولاد البنات ، وأولاد الأخوات وبنات الأخ ، والعمة والخالة ، والعم أخ الأب للأم ، والجد أبي الأم ، والجدة أم الأم ، ومن أدلى بهم . فقال قوم : لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام . وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر ، ورواية عن علي ، وهو قول أهل المدينة ، وروي عن مكحول والأوزاعي ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال بتوريثهم : عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلي في رواية عنه ، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق . واحتجوا بالآية ، وقالوا : وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان : القرابة والإسلام ، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام . أجاب الأولون فقالوا : هذه آية مجملة جامعة ، والظاهر بكل رحم قرب أو بعد ، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين . قالوا : وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الولاء سببا ثابتا ، أقام [ ص: 415 ] المولى فيه مقام العصبة فقال : الولاء لمن أعتق . ونهى عن بيع الولاء وعن هبته . احتج الآخرون بما روى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ترك كلا فإلي - وربما قال فإلى الله وإلى رسوله - ومن ترك مالا فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه . وروى الدارقطني عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها : الله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له . موقوف . وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الخال وارث . وروي عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال : لا أدري حتى يأتيني جبريل . ثم قال : أين السائل عن ميراث العمة والخالة ؟ قال : فأتى الرجل فقال : سارني جبريل أنه لا شيء لهما . قال الدارقطني : لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف ، والصواب مرسل . وروي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه : هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة ؟ قال لا . قال : إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر ، جعل الخالة بمنزلة الأم ، والعمة بمنزلة الأب .

بعونه تعالى تم الجزء السابع من الجامع لأحكام القرآن ويليه الجزء الثامن ، وأوله تفسير سورة " براءة " .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.04 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]