عرض مشاركة واحدة
  #357  
قديم 07-11-2024, 03:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 86 الى صــ 95
الحلقة (357)

[ قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين

قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا هو تسلية للمؤمنين في تخلف [ ص: 86 ] المنافقين عنهم . والخبال : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف . وهذا استثناء منقطع ، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال . وقيل : المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالا ، فلا يكون الاستثناء منقطعا .

قوله تعالى ولأوضعوا خلالكم المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد . والإيضاع ، سرعة السير . وقال الراجز :


يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
يقال : وضع البعير إذا عدا ، يضع وضعا ووضوعا إذا أسرع السير . وأوضعته حملته على العدو . وقيل : الإيضاع سير مثل الخبب . والخلل الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال ، أي الفرج التي تكون بين الصفوف . أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين .

يبغونكم الفتنة مفعول ثان . والمعنى يطلبون لكم الفتنة ، أي الإفساد والتحريض . ويقال : أبغيته كذا أعنته على طلبه ، وبغيته كذا طلبته له . وقيل : الفتنة هنا الشرك .

وفيكم سماعون لهم أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم . قتادة : وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم . النحاس : القول الأول أولى ؛ لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام ، ومثله سماعون للكذب . والقول الثاني لا يكاد يقال فيه إلا سامع ، مثل قائل .

[ قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون

قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم ، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه . وقال ابن جريج : أراد اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .

وقلبوا لك الأمور أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به

حتى جاء الحق وظهر أمر الله أي دينه وهم كارهون

[ ص: 87 ] قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون

قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لي من أذن يأذن . وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل ، ولا يجتمع همزتان ، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت إيذن . فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين ، ثم همزت فقلت : ومنهم من يقول ائذن لي وروى ورش عن نافع " ومنهم من يقول اوذن لي " خفف الهمزة . قال النحاس : يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط . فإن قلت : إيذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء ؛ وكذا الفاء . والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل ، والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان . قال محمد بن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك : يا جد ، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء ؟ فقال الجد : قد عرف قومي أني مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قد أذنت لك فنزلت هذه الآية . أي لا تفتني بصباحة وجوههم ، ولم يكن به علة إلا النفاق . قال المهدوي : والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم . وقيل : سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم ، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة ، فكن صفرا لعسا . قال ابن عطية : في قول ابن أبي إسحاق فتور . وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اغزوا تغنموا بنات الأصفر . فقال له الجد : إيذن لنا ولا تفتنا بالنساء وهذا منزع غير الأول ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة . ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم : [ ص: 88 ] من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس ، غير أنه بخيل جبان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور . فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه :


وسود بشر بن البراء لجوده وحق لبشر بن البرا أن يسودا إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله
وقال خذوه إنني عائد غدا
ألا في الفتنة سقطوا أي في الإثم والمعصية وقعوا . وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي مسيرهم إلى النار ، فهي تحدق بهم .

قوله تعالى إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة شرط ومجازاة ، وكذا وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل عطف عليه . والحسنة : الغنيمة والظفر . والمصيبة الانهزام .

ومعنى قولهم : أخذنا أمرنا من قبل أي احتطنا لأنفسنا ، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال .

ويتولوا أي عن الإيمان .

وهم فرحون أي معجبون بذلك .

[ قوله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون

قوله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا قيل : في اللوح المحفوظ . وقيل : ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا ، وإما أن نقتل فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا . والمعنى كل شيء بقضاء وقدر . وقد تقدم في ( الأعراف ) أن العلم والقدر والكتاب سواء وقراءة الجمهور يصيبنا نصب ب " لن " . وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها . وقرأ طلحة بن مصرف " هل يصيبنا " وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ " قل لن يصيبنا " بنون مشددة . وهذا لحن ، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا ، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز . قال الله تعالى : هل يذهبن كيده ما يغيظ .

[ ص: 89 ] قوله تعالى قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قوله تعالى قل هل تربصون بنا والكوفيون يدغمون اللام في التاء . فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الإدغام ، كما قال جل وعز : التائبون لكثرة لام المعرفة في كلامهم ولا يجوز الإدغام في قوله : قل تعالوا لأن ( قل ) معتل ، فلم يجمعوا عليه علتين . والتربص الانتظار . يقال : تربص بالطعام ، أي انتظر به إلى حين الغلاء .

والحسنى تأنيث الأحسن . وواحد الحسنيين حسنى ، والجمع الحسنى . ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا . لا يقال : رأيت امرأة حسنى . والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة ، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . واللفظ استفهام والمعنى توبيخ .

ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي عقوبة تهلككم كما أصاب الأمم الخالية من قبلكم .

أو بأيدينا أي يؤذن لنا في قتالكم .

فتربصوا تهديد ووعيد . أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله .

قوله تعالى قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين فيه أربع مسائل الأولى : قال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به . ولفظ ( أنفقوا ) أمر ، ومعناه الشرط والجزاء . وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي ب " أو " كما قال الشاعر :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين .

ومعنى الآية : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم . ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله فكان في هذا أدل دليل ، وهي :

الثانية : على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا [ ص: 90 ] يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا . دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟ قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين . وروي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها . وهذا نص . ثم قيل : هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله : عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهذا هو الصحيح من القولين ، والله أعلم . وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر ، وإلا فلا يصح منه قربة ، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان . أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا . قولان أيضا .

الثالثة : فإن قيل : فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله ، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلمت على ما أسلفت من خير قلنا قوله : أسلمت على ما أسلفت من خير مخالف ظاهره للأصول ؛ لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته ؛ لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه ، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط . فكان المعنى في الحديث : إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام . وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة ، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية ، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير ؟ وكذلك فعل في الإسلام . وهذا واضح . وقد قيل : لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام ، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام . وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب ، ومات [ ص: 91 ] كافرا . وهذا ظاهر الحديث . وهو الصحيح إن شاء الله . وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل ، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه . وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال : أسلمت على ما أسلفت ، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك . كما تقول : أسلمت على ألف درهم ، أي على أن أحرزها لنفسه . والله أعلم .

الرابعة : فإن قيل : فقد روى مسلم عن العباس قال قلت يا رسول الله : إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح . قيل له : لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب بما عمل من الخير ، لكن مع انضمام شفاعة ، كما جاء في أبي طالب . فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله : فما تنفعهم شفاعة الشافعين . وقال مخبرا عن الكافرين : فما لنا من شافعين . ولا صديق حميم وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه . من حديث العباس رضي الله عنه : ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .

قوله تعالى إنكم كنتم قوما فاسقين أي كافرين .

[ قوله تعالى وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم " أن " الأولى في [ ص: 92 ] موضع نصب ، والثانية في موضع رفع . والمعنى : وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون " أن يقبل منهم " بالياء ؛ لأن النفقات والإنفاق واحد .

الثانية : قوله تعالى ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى قال ابن عباس : إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل ، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا . فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة . وقد تقدم في ( النساء ) القول في هذا كله . وقد ذكرنا هناك حديث العلاء موعبا . والحمد لله .

الثالثة : قوله تعالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون لأنهم يعدونها مغرما ، ومنعها مغنما ، وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم .

[ قوله تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج إنما يريد الله ليعذبهم بها قال الحسن : المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله . وهذا اختيار الطبري . وقال ابن عباس وقتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وهذا قول أكثر أهل العربية ، ذكره النحاس . وقيل : يعذبهم بالتعب في الجمع . وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير ، وهو حسن . وقيل : المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون ، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون .

وتزهق أنفسهم وهم كافرون نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين ، سبق بذلك القضاء .

ويحلفون بالله إنهم لمنكم بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون . نظيره إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية . والفرق الخوف ، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا .

قوله تعالى لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون

[ ص: 93 ] قوله تعالى لو يجدون ملجأ كذا الوقف عليه . وفي الخط بألفين : الأولى همزة ، والثانية عوض من التنوين ، وكذا رأيت جزءا . والملجأ الحصن ، عن قتادة وغيره . ابن عباس : الحرز ، وهما سواء . يقال : لجأت إليه لجأ " بالتحريك " وملجأ والتجأت إليه بمعنى . والموضع أيضا لجأ وملجأ . والتلجئة الإكراه . وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه . وألجأت أمري إلى الله أسندته . وعمرو بن لجأ التميمي الشاعر عن الجوهري .

أو مغارات جمع مغارة ، من غار يغير . قال الأخفش : ويجوز أن يكون من أغار يغير ، كما قال الشاعر :


الحمد لله ممسانا ومصبحنا
قال ابن عباس : المغارات الغيران والسراديب ، وهي المواضع التي يستتر فيها ، ومنه غار الماء وغارت العين .

أو مدخلا مفتعل من الدخول ، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه ، وأعاده لاختلاف اللفظ . قال النحاس : الأصل فيه مدتخل ، قلبت التاء دالا ؛ لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد . وقيل : الأصل فيه متدخل على متفعل ، كما في قراءة أبي : " أو متدخلا " ومعناه دخول بعد دخول ، أي قوما يدخلون معهم . المهدوي : متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول . وعن أبي أيضا : مندخلا من اندخل ، وهو شاذ ؛ لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن : " أو مدخلا " بفتح الميم وإسكان الدال . قال الزجاج : ويقرأ " أو مدخلا " بضم الميم وإسكان الدال . الأول من دخل يدخل . والثاني من أدخل يدخل . كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه :


مغار ابن همام على حي خثعما
وروي عن قتادة وعيسى والأعمش " أو مدخلا " بتشديد الدال والخاء . والجمهور بتشديد الدال وحدها ، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم . فهذه ست قراءات . لولوا إليه أي لرجعوا إليه . وهم يجمحون أي يسرعون ، لا يرد وجوههم شيء . من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام . قال الشاعر :


سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد
والمعنى : لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين .

[ ص: 94 ] قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات أي يطعن عليك ، عن قتادة . الحسن : يعيبك . وقال مجاهد : أي يروزك ويسألك . النحاس : والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن . يقال : لمزه يلمزه إذا عابه . واللمز في اللغة العيب في السر . قال الجوهري : اللمز العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها ، وقد لمزه يلمزه ويلمزه وقرئ بهما ومنهم من يلمزك في الصدقات . ورجل لماز ولمزة أي عياب . ويقال أيضا : لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه . والهمز مثل اللمز . والهامز والهماز العياب ، والهمزة مثله . يقال : رجل همزة وامرأة همزة أيضا . وهمزه أي دفعه وضربه . ثم قيل : اللمز في الوجه ، والهمز بظهر الغيب . وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات ، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم . قال أبو سعيد الخدري بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج ، ويقال له ذو الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا رسول الله . فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فنزلت الآية . حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه . وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق . فقال : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية .

[ قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله جواب ( لو ) محذوف ، التقدير لكان خيرا لهم .

[ ص: 95 ] قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

فيه ثلاثون مسألة :

الأولى : قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم ، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له ، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها .

الثانية : قوله تعالى ( للفقراء ) تبيين لمصارف الصدقات والمحل ، حتى لا تخرج عنهم . ثم الاختيار إلى من يقسم ، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما . كما يقال : السرج للدابة والباب للدار . وقال الشافعي : اللام لام التمليك ، كقولك : المال لزيد وعمرو وبكر ، فلا بد من التسوية بين المذكورين . قال الشافعي وأصحابه : وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين . واحتجوا بلفظة ( إنما ) وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت : يا رسول الله : احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم ، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أخا صداء المطاع في قومه . قال : قلت : بل من الله عليهم وهداهم ، قال : ثم جاءه رجل يسأله عن الصدقات ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك رواه أبو داود والدارقطني . واللفظ للدارقطني . وحكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف ، وجعله حقا لجميعهم ، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم . وتمسك علماؤنا بقوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم . والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض . وقال صلى الله عليه وسلم : أمرت أن آخذ الصدقة من [ ص: 96 ] أغنيائكم وأردها على فقرائكم . وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة ، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة . وقال به من التابعين جماعة . قالوا : جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية ، وإلى أي صنف منها دفعت جاز . روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله : إنما الصدقات للفقراء والمساكين قال : إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف ، وأي صنف منها أعطيت أجزأك . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس إنما الصدقات للفقراء والمساكين قال : في أيها وضعت أجزأ عنك . وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما . قال الكيا الطبري : حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.50 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]