عرض مشاركة واحدة
  #464  
قديم 21-11-2024, 03:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,304
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
المجلد الحادى عشر
صـ 4396 الى صـ 4410
الحلقة (464)




القول في تأويل قوله تعالى :

[26 - 30] قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين

قال أي : بعد ما أيس من إيمانهم : رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه [ ص: 4397 ] أن اصنع الفلك بأعيننا أي : ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا ، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء ، ويراعى من الاختلال والزيغ ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية ، على طريق التمثيل ، وقيل : المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا . بناء على أن المراد بالعين البصر ، وأنه يسمى البصر عينا لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به . من باب تسمية الشيء باسم محله . وباسم ما هو قائم به .

قال الإمام ابن فورك في (" متشابه الحديث " ) - بعد حكاية نحو ما تقدم - : وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عز وجل من الوصف له بالعين . فمنهم من قال : إن المراد به البصر والرؤية . ومنهم من قال : إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع . وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه . انتهى .

ومذهب السلف ; أن الصفات يحتذى فيها حذو الذات ، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف ، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل . وقوله تعالى : ووحينا أي : أمرنا وتعليمنا كيف تصنع : فإذا جاء أمرنا أي : عذابنا : وفار التنور كناية عن الشدة . كقولهم : (حمي الوطيس ) . و(التنور ) : كانون الخبز حقيقة . وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء ، للآية مجازا : فاسلك فيها أي : فأدخل في الفلك : من كل أي : من كل أمة : زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي : في الدعاء لهم بالنجاة ، عند مشاهدة هلاكهم : إنهم مغرقون أي : في بحر الهلاك ، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم ، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني أي : في السفينة أو منها : منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين أي : لمن أنزلته منزل قربك : إن في ذلك أي فيما فعل بنوح وقومه : لآيات أي : يستدل بها ويعتبر أولو الأبصار : وإن كنا لمبتلين [ ص: 4398 ] أي : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد . أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويدكر . كقوله تعالى : ولقد تركناها آية فهل من مدكر و(إن ) مخففة على الأصح - وقيل نافية . واللام بمعنى (إلا ) والجملة حالية .
القول في تأويل قوله تعالى :

[31] ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين .

ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين هم عاد أو ثمود . قال الشهاب : ليس في الآية تعيين لهؤلاء . لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما . وأيده في (" الكشف " ) بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما . وعليه أكثر المفسرين . ومن ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام ، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها . كما صرح به في هذه السورة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[32 - 41] فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون [ ص: 4399 ] هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين .

فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم أي : نعمناهم : في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أي : لعزة أنفسكم ، بالتذلل لمثلكم : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون أي من الأجداث أحياء كما كنتم : هيهات هيهات لما توعدون تكرير لتأكيد البعد . أي : بعد الوقوع أو الصحة لما توعدون من البعث : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا أي : يموت بعض ويولد بعض . لينقرض قرن ويأتي قرن آخر وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة أي : العقوبة الهائلة ، أو صيحة ملك : بالحق فجعلناهم غثاء أي : كغثاء السيل : فبعدا للقوم الظالمين أي : هلاكا لهم . إخبار أو دعاء .
[ ص: 4400 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[42 - 45] ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين .

ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها أي : وقتها الذي عين لهلاكها : وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى أي : متواترين ، واحدا بعد واحد : كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا أي : في الإهلاك : وجعلناهم أحاديث أي : أخبارا يسمر بها ويتعجب منها . يعني أنهم فنوا ولم يبق إلا خبرهم ، إن خيرا وإن شرا .


وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى


فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين أي : حجة واضحة ملزمة للخصم . والمراد به الآيات نفسها . عبر عنها بذلك على طريقة العطف ، على جمعها لعنوانين جليلين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[46 - 48] إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين .

[ ص: 4401 ] إلى فرعون وملئه فاستكبروا أي : عن الانقياد وإرسال بني إسرائيل مع موسى لأرض كنعان ، وتحريرهم من تلك العبودية لهم : وكانوا قوما عالين أي : متمردين : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين أي : المغرقين في البحر .

فائدة :

قال الزمخشري : البشر يكون واحدا وجمعا : بشرا سويا لبشرين فإما ترين من البشر و(مثل ) و(غير ) يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث : إنكم إذا مثلهم ومن الأرض مثلهن ويقال أيضا : هما مثلاه وهم أمثاله : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم
القول في تأويل قوله تعالى :

[49 - 50] ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين .

ولقد آتينا موسى الكتاب أي : التوراة : لعلهم أي : قومه : يهتدون أي : إلى طريق الحق ، بما فيها من الشرائع والأحكام : وجعلنا ابن مريم وأمه آية أي : دلالة على قدرتنا الباهرة . لأنها ولدته من دون مسيس . فالآية أمر واحد نسب إليهما . أو المعنى : وجعلنا ابن مريم آية بما ظهر منه من الخوارق ، وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها : وآويناهما أي : جعلنا مأواهما أي : منزلهما : إلى ربوة أي : أرض مرتفعة ذات قرار أي : مستقر من أرض منبسطة مستوية . وعن قتادة : ذات ثمار [ ص: 4402 ] وماء . يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها : ومعين أي : وماء معين ظاهر جار . من (معن الماء إذا جرى ) أو مدرك بالعين (من عانه ) إذا أدركه بعينه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[51] يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم .

يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم نداء وخطاب لجميع الأنبياء باعتبار زمان كل وعهده . فدخل فيه عيسى دخولا أوليا . أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة . وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم . واحتجاجا على الرهابنة في رفض الطيبات . وقوله : واعملوا صالحا أي : عملا صالحا . فإنه الذي به سعادة الدارين . وقوله : إني بما تعملون عليم أي : ذو علم لا يخفى علي منها شيء . فأنا مجازيكم بجميعها ، وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[52] وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون .

وإن هذه أمتكم أي : واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها : أمة واحدة أي : ملة واحدة ، وهي شريعة الإسلام . إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده . كقوله : إن الدين عند الله الإسلام (فالأمة ) هنا بمعنى : الملة والدين : وأنا ربكم أي : من غير شريك : فاتقون أي : فخافوا عقابي ، في مفارقة الدين والجماعة . قيل إنه اختير على قوله : فاعبدون الواقع في سورة الأنبياء ، لأنه أبلغ في التخويف ، لذكره بعد إهلاك الأمم ، بخلاف ما ثمة وهذا بناء على أنه تذييل للقصص السابقة ، أو لقصة [ ص: 4403 ] عيسى عليه الصلاة والسلام ، لا ابتداء كلام . فإنه حينئذ لا يفيده . إلا أن يراد أنه وقع في حكاية لهذه المناسبة . كذا في (" العناية " ) .

ثم قص ما وقع من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[53 - 54] فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين

فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا أي : جعلوا دينهم بينهم قطعا وفرقا منوعة : كل حزب بما لديهم فرحون أي : كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم ، فرح بباطله ، مطمئن النفس ، معتقد أنه على الحق : فذرهم في غمرتهم أي : في جهالتهم ، ومشيهم مع هواهم ، ونبذهم كتاب الله : حتى حين أي : إلى وقت يستفيقون فيه من سباتهم ، بظهور دين الله وعلو كلمته وهزم عدوه . وشبه جهالتهم بالماء الذي يغمر القامة ، لأنهم مغمورون فيها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[55 - 56] أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون .

أيحسبون أنما نمدهم به أي : نعطيهم إياه ، ونجعله مددا لهم : من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون أي كلا . لا نفعل ذلك . بل هم لا يشعرون أصلا . كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ، ليتأملوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم . وهم يحسبونه معاجلة فيما لهم فيه إكرام .
ثم بين سبحانه من له المسارعة في الخيرات من أوليائه وعباده ، بقوله تعالى :

[ ص: 4404 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[57 - 61] إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون .

إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون أي : من خوف عذابه حذرون : والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون أي : شركا جليا ، ولا خفيا : والذين يؤتون ما آتوا أي : يعطون ما أعطوه من الصدقات : وقلوبهم وجلة أي : خائفة : أنهم إلى ربهم راجعون أي : من رجوعهم إليه تعالى ، فتخشى أن تحاسب على ما قصرت من الحقوق ، أو غفلت عنه من الآداب : أولئك يسارعون في الخيرات أي : في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة . كما في قوله تعالى : فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وقوله تعالى : وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، خلا أنه غير الأسلوب ، حيث لم يقل : { أولئك نسارع لهم في الخيرات } بل أسند المسارعة إليهم ، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم . وإيثار كلمة (في ) على كلمة (إلى ) للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات . لا أنهم خارجون عنها ، متوجهون إليها ، بطريق المسارعة كما في قوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة أفاده أبو السعود .

[ ص: 4405 ] وهم لها سابقون أي : إياها سابقون . أي : ينالونها قبل الآخرة ، حيث عجلت لهم في الدنيا ، فتكون اللام لتقوية العمل . كما في قوله تعالى : هم لها عاملون وقيل : المراد : بالخيرات الطاعات . والمعنى : يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة . وهم لأجلها فاعلون السبق ، أو لأجلها سابقون الناس ، والله أعلم ، وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[62 - 63] ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .

ولا نكلف نفسا إلا وسعها جملة مستأنفة ، سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ، ببيان سهولته ، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة . أي : سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها . أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين ، ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم . فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقاتهم ويستفرغوا وسعهم ، أفاده أبو السعود .

ولدينا كتاب ينطق بالحق وهو كتاب الأعمال . كقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا أي : مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين : ولهم أعمال أي : سيئة كثيرة : من دون ذلك أي : الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة ، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم : هم لها عاملون أي : معتادون لا يزايلونها .

[ ص: 4406 ] تنبيه :

أغرب الإمام أبو مسلم الأصفهاني فيما نقله عنه الرازي ، فذهب إلى أن قوله تعالى : بل قلوبهم في غمرة من هذا إلى آخر الآية ، من تتمة صفات المؤمنين المشفقين . كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ، ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق وهم لا يظلمون . بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم بل قلوبهم في غمرة من هذا هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي : لهم أيضا من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه . إما أعمالا قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل . ثم إنه تعالى رجع .

قال الرازي : وقول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين ، كان أولى من رده إلى ما بعد منه ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته ، بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أو رده ، وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر . انتهى .

وبعد فإن نظم الآية الكريمة يحتمل لذلك . ولكن لم يرد وصف الغمرة في حق المؤمنين أصلا بل لم يوصف بها إلا قلوب المجرمين ، كما تراه في الآيات أولا . فالذوق الصحيح ورعاية نظائر الآيات ، يأبى ما أغرب به أبو مسلم أشد الإباء . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[64] حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون .

حتى إذا أخذنا مترفيهم أي : متنعميهم : بالعذاب أي : بالانتقام ، مثل أخذهم يوم بدر : إذا هم يجأرون أي : يصرخون باستغاثة أو الآية . كقوله [ ص: 4407 ] تعالى : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[65 - 67] لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون .

لا تجأروا اليوم أي : يقال لهم تبكيتا لهم : لا تجأروا ، فإن الجؤار غير نافع لكم : إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون أي : تعرضون عن سماعها أشد الإعراض : مستكبرين به أي : بالبيت الحرام والذي سوغ الإضمار ، شهرتهم بالاستكبار به ، وأن لا مفخر لهم إلا أنهم قوامه . وجوز تضمين (مستكبرين ) معنى (مكذبين ) والضمير للتنزيل الكريم . أي : مكذبين تكذيب استكبار . ولم يذكروا احتمال إرجاع الضمير (للنكوص ) إشارة إلى زيادة عتوهم ، وأنهم يفتخرون بهذا الإعراض ولا يرهبون مما ينذرون به ، كقوله : ولى مستكبرا وليس ببعيد . فتأمل سامرا تهجرون يعني أنهم يسمرون ليلا بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وتسميته سحرا وشعرا ونحو ذلك . وهو معنى تهجرون من الهجر بالضم ، وهو الفحش في القول . أو معناه تعرضون . من (الهجر ) بالفتح .

تنبيه :

قال أبو البقاء : (سامرا ) حال أيضا وهو مصدر . كقولهم (قم قائما ) وقد جاء من المصادر على لفظ اسم الفاعل نحو العاقبة والعافية . وقيل : هو واحد في موضع الجميع . انتهى .

[ ص: 4408 ] فيكون واحدا أقيم مقام الجمع . وقيل هو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب . قال الشهاب : وعلى كونه مصدرا فيشمل القليل والكثير أيضا ، باعتبار أصله . ولكن مجيء المصدر على وزن (فاعل ) نادر . وقرئ (سمرا ) بضم وتشديد . (سمار ) بزيادة ألف .
القول في تأويل قوله تعالى :

[68] أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين .

أفلم يدبروا القول أي : القرآن ، ليعلموا أنه الحق المبين ، فيصدقوا به وبمن جاء به : أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أي : من الهدى والحق ، فاستبدعوه واستبعدوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال . مع أن المجيء بما لم يعهد ، لا يوجب النفرة . لأن المألوف قد يكون باطلا ، فتقتضي به الحكمة التحذير منه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[69 - 70] أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون .

أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أي : جاحدون بما أرسل به . وهذا توبيخ آخر يشير إلى عظيم جهالتهم ، بأنهم ما عرفوا شأنه ولا دروا سر ما بعث به مما يؤسف له . كما قال : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أم يقولون به جنة أي : جنون ، أو جن يخبلونه . وهذا توبيخ آخر ، فيه تعجيب من تلونهم في الجحود ، وتفننهم في العناد ، ثم أشار إلى أنه لم يحملهم على ذلك إلا أنفتهم للحق كبرا وعتوا بقوله : بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون أي : لما فيهم من الزيغ والانحراف .

[ ص: 4409 ] قال القاشاني : ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفأوا نورها بالرين والطبع ، على مقتضى قوى النفس والطبع ، واشتد احتجابهم بالغواشي الظلمانية عن نور الهدى والعقل ، لم يمكنهم تدبر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد ، والعدل فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه ، للتقابل بين النور والظلمة ، والتضاد بين الباطل والحق ، وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به .
القول في تأويل قوله تعالى :

[71 - 74] ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون .

ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي : ولو كان ما كرهوه من الحق الذي هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله عليه ، موافقا لأهوائهم المتفرقة في الباطل ، الناشئة من نفوسهم الظالمة المظلمة ، لفسد نظام الكون لانعدام العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، والتوحيد الذي به قوامهما فلزم فساد الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك ، وفيه من تنويه شأن الحق ، والتنبيه على سمو مكانه ، ما لا يخفى : بل أتيناهم بذكرهم إضراب عن توبيخهم بكراهته ، وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها . أي : ليس هو مكروها بل هو عظة لهم لو اتعظوا . أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون : لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فهم عن ذكرهم معرضون أي : بالنكوص عنه . وأعاد الذكر تفخيما . وأضافه لهم لسبقه . وفي سورة الأنبياء : ذكر ربهم لاقتضاء ما قبله له : أم تسألهم خرجا [ ص: 4410 ] أي : جعلا على أداء الرسالة ، فلأجل ذلك لا يؤمنون : فخراج ربك خير أي : عطاؤه : وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون أي : منحرفون . قال القاشاني : الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه ، هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس ، ووجود المحبة في القلب . وشهود الوحدة . والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات ، وعن القدس بالرجس ، إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة ، والركون إلى الكثرة . فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده . فهو في واد وهم في واد . وقال الزمخشري : قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم ، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم ، واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام ، الذي هو الصراط المستقيم . مع إبراز المكنون من أدوائهم ، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون ، بعد ظهور الحق ، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر . وقوله تعالى :



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.82 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]