عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 21-11-2024, 04:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النُّورِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4531 الى صـ 4545
الحلقة (473)






لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيكم نزلت : رجال لا تلهيهم الآية . وأخرج عن الضحاك والحسن وسالم وعطاء ومطرف مثل ذلك . انتهى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[39] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب .

والذين كفروا عطف على ما ينساق إليه ما قبله . كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف ، والذين كفروا : أعمالهم أي : التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب : كسراب وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس ، وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري : بقيعة بمعنى القاع ، وهو المنبسط من الأرض . أو جمع قاع (كجيرة ) في (جار ) : يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أي : لا محققا ولا متوهما . كما كان يراه من قبل ، فضلا عن وجدانه ماء ، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل . وقوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أي : وجد عقاب الله وجزاءه عند السراب ، أو العمل . وفي التعبير بذلك زيادة تهويل . وقيل : المعنى وجده محاسبا إياه . فالعندية بمعنى الحساب ، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده . قيل : هذه الجملة معطوفة على : لم يجده ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو : (لم يجد ما عمله نافعا ) .

قال الشهاب : ويحتمل أن يكون بيان لحال المشبه به ، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه . ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب . والمعنى : وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب ، فوفاه ما كتب له ، من لا يؤخر الحساب - كان الكلام [ ص: 4532 ] متناسبا . واختار الثاني أبو السعود حيث قال : هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة ، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط ، كما هو شأن الظمآن . ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلا . فليست الجملة معطوفة على : لم يجده شيئا بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل ، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا . كما في قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا فإن قيل : لم خص (الظمآن ) بالذكر ، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك ؟ فكان الظاهر الرائي بدله . وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله : ووجد الله عنده إلخ ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به . وهو أبلغ . لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق . ونحوه : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا إلخ ، فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية . يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة ، ومآلها الخيبة ، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر ، سرابا يحسبه شرابا ، فينتظم عطف (وجد الله ) أحسن انتظام كما نوروه . كذا في (" الكشف " ) .

الثالثة : قال الشهاب : وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قول مالك بن نويرة :


لعمري إني وابن جارود كالذي أراق شعيب الماء والآل يبرق

فلما أتاه ، خيب الله سعيه
فأمسى يغض الطرف عيمان يشهق


ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[40] أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

[ ص: 4533 ] أو كظلمات في بحر لجي أي : عميق كثير الماء : يغشاه موج من فوقه موج أي : متراكم بعضه على بعض : من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض أي : متكاثفة متراكمة . وهذا بيان لكمال شدة الظلمات : إذا أخرج يده أي : وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينه لينظر إليها : لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ، فما له هداية ما . وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين : يهدي الله لنوره من يشاء والجملة تقرير للتمثيل قبل ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم ، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك ، قال تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا

لطيفة :

قال ابن كثير : هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار . كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريا ومائيا . وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم ، في سورة الرعد ، مثلين مائيا وناريا .

ثم قال : أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء . فمثلهم كالسراب . والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم ، الذين لا يعقلون . فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب . بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري انتهى .

وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم ، وليس بمتعين . ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم ، عليهما الرحمة والرضوان ، في (الجيوش الإسلامية ) ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد . قال : انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم [ ص: 4534 ] انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال . فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها ، فيظنها شيئا له حاصل فينتفع به . وهي كسراب بقيعة إلخ ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ، ولم يعارضوها بالشبهات . وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات . فلا هم في عملهم ، من أهل الخوض الخراصين : الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون . أضاء لهم نور الوحي المبين ، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون . وفي ضلالهم يتهوكون . وفي ريبهم يترددون . مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين ما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان .

القسم الثاني : أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم . الذين قال الله تعالى فيهم : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهؤلاء قسمان : أحدهما ، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال . فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادونه ، ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالون أهله . وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه ، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . وهكذا هؤلاء . أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه . ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان ، كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء . بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين . سبحانه وتعالى . فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر . وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه [ ص: 4535 ] فجعله هباء منثورا . إذ لم يكن خالصا لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة ، كذلك هباء منثورا . فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه . و(السراب ) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري و(القيعة ) و(القاع ) هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله ، بسراب يراه المسافر في شدة الحر ، فيؤمه ، فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى . فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش ، بدت لهم كالسراب . فيحسبونه ماء . فإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب ، فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما ، فقطع أمعاءهم . وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع ، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه . كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم الذين عنى بقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وهم الذين عنى بقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار

القسم الثاني من هذا الصنف ، أصحاب الظلمات . وهم المنغمسون في الجهل . بحيث قد أحاط بهم من كل وجه ، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا . فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى : كظلمات جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم . والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور . فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم [ ص: 4536 ] من الهدى ودين الحق ، يتقلب في خمس ظلمات : قوله : ظلمة . وعمله ظلمة . ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة . وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم . وحاله مظلم . وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور ، جد في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره ، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل :


خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم


وقوله تعالى : في بحر لجي اللجي العميق . منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه . وقوله تعالى : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب تصوير لحال المعرض عن وحيه . فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره ، بتلاطم أمواج ذلك البحر ، وأنهم أمواج بعضها فوق بعض . والضمير الأول في قوله : يغشاه راجع إلى البحر ، والضمير الثاني في قوله : من فوقه عائد إلى الموج . ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب . فها هنا ظلمات : ظلمة البحر اللجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله : إذا أخرج من في هذا البحر : يده لم يكد يراها واختلف في معنى ذلك . فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية . وإنه قد ينفي وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته . فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه .

قال هؤلاء : (كاد ) من أفعال المقاربة . لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات . فإذا قيل : كاد يفعل ، فهو إثبات مقاربة الفعل . وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فهو نفي لمقاربة الفعل .

وقالت طائفة أخرى : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد . وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات : قالوا : لأن (كاد ) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت . وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت : (ما كدت أصل إليك ) فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول . وإذا قلت : (كاد زيد يقوم ) فهي نفي لقيامه . كما قال تعالى : وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا

[ ص: 4537 ] ومنه قوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم وأنشد بعضهم في ذلك لغزا :


أنحوي هذا العصر ! ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود ؟


إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود


وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره : إن استعمالها مثبتة ، يقتضي نفي خبرها . كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى ، فهي عنده تنفي الخبر . سواء كانت منفية أو مثبتة . (فلم يكد زيد يقوم ) أبلغ عنده في النفي من (لم يقم ) واحتج بأنها إذا نفيت - وهي من أفعال المقاربة - فقد نفيت مقاربة الفعل . وهو أبلغ من نفيه . وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوعه . واعتذر عن مثل قوله تعالى : فذبحوها وما كادوا يفعلون وعن مثل قوله : (وصلت إليك وما كدت أصل ) و(سلمت وما كدت أسلم ) بأن هذا وارد على كلامين متباينين . أي : فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له ، فالأول يقتضي وجود العمل ، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له ، بل كان آيسا منه . فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .

وذهبت فرقة رابعة إلى الفرقة بين ماضيها ومستقبلها . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل . سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرف النفي ، فإن كانت بصيغة المستقبل ، كانت لنفي الفعل ومقاربته . نحو قوله : لم يكد يراها وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله : فذبحوها وما كادوا يفعلون فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة .

والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال . ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه . وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت [ ص: 4538 ] مقاربة الفعل ، لم يكن واقعا ، فيكون منفيا باللزوم . وأما إذا استعملت منفية ، فإن كانت في كلام واحد ، فهي لنفي المقاربة . كما إذا قلت : (لا يكاد البطال يفلح ) و(لا يكاد البخيل يسود ) و(لا يكاد الجبان يفرح ) ونحو ذلك . وإن كانت في كلامين ، اقتضت وقوع الفعل ، بعد أن لم يكن مقاربا . كما قال ابن مالك : فهذا التحقيق في أمرها .

والمقصود إن قوله : لم يكد يراها إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها ، فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :


إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى في حب مية يبرح


أي لم يقارب البراح . وهو الزوال ، فكيف يزول ؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولا ، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم ، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد . فإذا جاءه وجده عنده عكس ما أمله ورجاه . شبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها ، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان ، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج : الذي قد غشيه السحاب من فوقه . فيا له تشبيها ما أبدعه ! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال ! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم . وكل واحد من السراب والظلمات ، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها . وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه ، التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع ، لأوليائه وأعدائه . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ثم أشار تعالى إلى تعديل الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته ، وظهور أمره وجلالته ، بقوله سبحانه :

[ ص: 4539 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[41] ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون .

ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض أي : ينزهه ويقدسه وحده ، أهلوهما : والطير صافات أي : يصففن أجنحتهن في الهواء : كل قد علم صلاته وتسبيحه أي : كل واحد مما ذكر ، قد هدي وأرشد إلى طريقته ومسلكه ، في عبادة الله عز وجل . فالضمير في (علم ) لكل . أو للفظ الجلالة ، كالضمير في صلاته وتسبيحه .

قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه ، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .

وتقدم في سورة الإسراء كلام في تسبيح الجمادات ، فارجع إليه : والله عليم بما يفعلون
القول في تأويل قوله تعالى :

[42] ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير .

ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير أي : هو الإله الحاكم المتصرف فيهما ، الذي لا تنبغي العبادة فيهما إلا له ، وإليه يوم القيامة ، مصير الخلائق ، فيحكم بينهم ، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[43] ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار .

[ ص: 4540 ] ألم تر أن الله يزجي سحابا أي : يسوقها برفق . ومنه البضاعة المزجاة ، يزجيها كل أحد . أي : يدفعها لرغبته عنها ، أو لقدرته على سوقها وإيصالها : ثم يؤلف بينه بضم بعضه إلى بعض . فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة : ثم يجعله ركاما أي : متراكما بعضه فوق بعض : فترى الودق أي : المطر : يخرج من خلاله وهي فرجه ومخارج القطر منه : وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء قال ابن كثير : يحتمل المعنى : فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء . ويحتمل المعنى : فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع . ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم . انتهى .

وخلاصته أن الضمير إما للأقرب ، على الثاني ، أوله ولما قبله ، على الأول .

لطيفة :

قد ذكرت (من ) الجارة في الآية ثلاث مرات . فالأولى ابتدائية اتفاقا . والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية ، على جعل مدخولها بدلا مما قبله بإعادة الجار . والثالثة فيها هذه الأقوال . وتزيد برابع ، وهو أنها لبيان الجنس . والتقدير : ينزل من السماء بعض جبال ، التي هي البرد .

يكاد سنا برقه أي : لمعانه : يذهب بالأبصار أي : يخطفها لشدته وقوته .
القول في تأويل قوله تعالى :

[44] يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

يقلب الله الليل والنهار أي : يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفا له . أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد ، لانتظام معايشهم : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
[ ص: 4541 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[45 - 46] والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

والله خلق كل دابة من ماء كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، وهو جزء مادته . أو ماء مخصوص هو النطفة ، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة . وقيل : من ماء متعلق بـ(دابة ) وليست صلة (لخلق ) : فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات . وتسمية حركتها مشيا ، مع كونها زحفا ، بطريق الاستعارة أو المشاكلة : ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء أي : مما ذكر وغيره ، على من يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات : إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو صراط تلك الآيات ، صراط الحق والهدى والنور . وهم المؤمنون الصادقون الذين استجابوا لله والرسول ، وإذا دعوا إلى حكمها استكانوا .

ثم أشار إلى ما كان يقع من المنافقين من أثر النفاق ، تحذيرا من صنيعهم ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[47 - 50] ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ ص: 4542 ] وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون .

ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك أي : دعوى الإيمان : وما أولئك بالمؤمنين أي : في قلوبهم . ثم برهن عليه بقوله : وإذا دعوا إلى الله أي : كتابه : ورسوله أي : سنته وحكمه : ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون أي : عن المجيء إليه : وإن يكن لهم الحق أي : الحكومة لهم ، لا عليهم : يأتوا إليه مذعنين أي : مسرعين طائعين . وقوله تعالى : أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله أي في الحكم فيظلموا فيه . قال أبو السعود : إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور . وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والمتوقعة منهم . وتردي المنشئية بينها . فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأم من الأمور الثلاثة ، بل هو منشئيتها له . كأنه قيل : أذلك ، أي : إعراضهم المذكور ، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه السلام ، مع ظهور حقيتها ؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك ؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة ، التي كل واحد منها كفر ونفاق .

ثم بين اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم ، بقوله تعالى : بل أولئك هم الظالمون أي : الذين رسخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم . فالإضراب انتقالي .

والمعنى : دع هذا كله ، فإنهم هم الكاملون في الظلم ، الجامعون لتلك الأوصاف .
[ ص: 4543 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[51 - 52] إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .

إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع ، وتحريم الامتناع ، واستحباب أن يقول : سمعنا وأطعنا . انتهى .

ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه ، وذلك إقسامهم الكاذب ، ليستدل به على إيمانهم الباطن ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[53] وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون .

وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم أي : بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم : ليخرجن أي : مجاهدين . و(جهد ) منصوب على الحالية . أو هو مصدر (لأقسموا ) من معناه . وهو مستعار من (جهد نفسه ) إذا بلغ وسعها . أي : أكدوا الأيمان وشددوها : قل لا تقسموا طاعة معروفة أي : لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا . فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة ، لا تنكرها النفس . إذ لا حرج فيها . فأطيعوا بالمعروف من غير حلف ، كما يطيع المؤمنون . وقيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة . أي : أنها قول بلا عمل . [ ص: 4544 ] إذ عرف كذبكم في أيمانكم . كما قال تعالى : يحلفون لكم لترضوا عنهم الآية ، وقال تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة الآية ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون وقوله تعالى : إن الله خبير بما تعملون أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي منها الأيمان الكاذبة ، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين ، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[54] قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين .

قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا أي : تولوا عن الإطاعة : فإنما عليه ما حمل أي : كلفه من أداء الرسالة . فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه .

وعليكم ما حملتم أي : ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه : وإن تطيعوه تهتدوا أي : لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم . فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى . وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه : وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي : التبليغ البين بنفسه ، أو الموضح لما أمرتم به .

[ ص: 4545 ] ولما تضمن قوله تعالى : { تهتدوا } إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم ، استأنف التصريح به تقريرا له ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[55] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض أي : يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم . أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة : كما استخلف الذين من قبلهم أي : من الأمم المؤمنة برسلها . التي أهلك الله عدوها ، وأورثها أرضها وديارها . كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين ، بعد إهلاك الجبابرة : وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم أي : فليجعلن دينهم ثابتا مقررا ، مرفوع اللواء ، ظاهرا على غيره ، قاهرا لمن ناوأه .

قال أبو السعود : وفي إضافة الدين إليهم . وهو دين الإسلام ، ثم وصفه بارتضائه لهم ، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه ، وفضل تثبيت عليه : وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك أي : بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين : فأولئك هم الفاسقون أي : الكاملون في فسقهم . حيث كفروا تلك النعمة العظيمة . وجسروا على غمطها .

[ ص: 4546 ] تنبيه :

في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه - ما لا يخفى . فقد أنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب . ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا ، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.01 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]