عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 21-11-2024, 04:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,783
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النُّورِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4546 الى صـ 4560
الحلقة (474)






القول في تأويل قوله تعالى :

[56 - 57] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير .

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة معطوف على أطيعوا الله وما اعترض بينهما كان تأكيدا ، أو على مقدر يستدعيه السوق . أي : فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا . أو فلا تكفروا وأقيموا . إلخ . ثم كرر طاعة الرسول ، تأكيدا لوجوبها ، بقوله : وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض أي : معجزين لله تعالى ، بل مدركون : ومأواهم النار ولبئس المصير

ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة ، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام ، ومن الترغيب والترهيب ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[58] يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين [ ص: 4547 ] تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم .

يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أي : من العبيد والجواري : والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم أي : هي ثلاث عورات لكم . إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختل فيها التستر عادة ، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبا . فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال ، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم أي : ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن . ولا عليهم جناح من الدخول بدونه ، بعد هذه الأوقات ، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته . وذلك لأنهم طوافون عليكم ، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة : بعضكم على بعض أي : بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا . أو بعضكم يطوف على بعض .

قال الزمخشري : يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام . فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدى إلى الحرج كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن .

تنبيه :

في الآية إقرار ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت الظهيرة . وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز . كذا في (" الإكليل " ) . [ ص: 4548 ] وقال الرازي : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما بقوله تعالى : ثلاث عورات لكم والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات .
القول في تأويل قوله تعالى :

[59] وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم .

وإذا بلغ الأطفال أي : الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة : منكم أي : من الأحرار ، دون المماليك ، فإنهم باقون على الرخصة : الحلم أي : حد البلوغ بالاحتلام ، و بالسن الذي هو مظنة الاحتلام : فليستأذنوا أي : في سائر الأوقات أيضا : كما استأذن الذين من قبلهم أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا

والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاثة . فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم خرجوا عن حد الطفولة ، بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن .

وهذا مما الناس منه في غفلة . وهو عندهم كالشريعة المنسوخة . وعن ابن عباس : آية لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن . وإني لآمر جارتي أن تستأذن علي .

[ ص: 4549 ] وسأله عطاء : أستأذن على أختي ؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها . وتلا هذه الآية .

وعنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله . وقوله : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فقال ناس : أعظمكم بيتا . وقوله : وإذا حضر القسمة كذا في (" الكشاف " ) .

تنبيه :

قال في (" الإكليل " ) : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ . وأن البلوغ يكون بالاحتلام . وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان ، كالأجانب . انتهى .

وقال التقي السبكي في " إبراز الحكم في شرح حديث رفع القلم " : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل . ويدل لذلك قوله تعالى : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : « وعن الصبي حتى يحتلم » . وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس . قال : والآية أصرح . فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم . وورد أيضا عن علي رضي الله عنه ، رفعه : « لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل » رواه أبو داود . والمراد بالاحتلام خروج المني . سواء كان في اليقظة أم في المنام ، بحلم أو غير حلم . ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم ، أطلق عليه الحلم والاحتلام ، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني ، فلا حلم له .

ثم قال : وقوله في الحديث : « حتى يحتلم » دليل البلوغ بذلك . وهو إجماع . وهو [ ص: 4550 ] حقيقة في خروج المني بالاحتلام ، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناما . أو منقول فيما هو أعم من ذلك ، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني ، إن أطلقناه عليه منقولا عنه . ولكونه فردا من أفراد الاحتلام . انتهى .

وفي (" القاموس " ) : الحلم (بالضم ) والاحتلام : الجماع في النوم . والاسم الحلم كعنق . انتهى .

وقال الراغب : سمي البلوغ حلما ، لكون صاحبه جديرا بالحلم : أي : الأناة والعقل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[60] والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم .

والقواعد من النساء أي : اللاتي قعدن عن الحيض والولد ، لكبرهن : اللاتي لا يرجون نكاحا أي : لا يطمعن فيه ، لرغبة الأنفس عنهن : فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أي : الظاهرة مما لا يكشف العورة ، لدى الأجانب . أي : يتركن التحفظ في التستر بها . فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن : غير متبرجات بزينة أي : مظهرات لزينة خفية . يعني الحلي في مواضعه المذكورة في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو المعنى غير قاصدات بالوضع ، التبرج . ولكن التخفف إذا احتجبن إليه : وأن يستعففن أي : من وضع تلك الثياب : خير لهن لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة . ولذا يلزمهن ، عند المظنة ، ألا يضعن ذلك . كما يلزم مثله في الشابة : والله [ ص: 4551 ] سميع عليم أي : فيسمع مقالهن مع الأجانب ، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب . وفيه من الترهيب ما لا يخفى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[61] ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون .

ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج أي : في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم . وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وزعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلا من الطائفتين منفي عنه الحرج . ومثال هذا - كما قال الزمخشري - أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان . وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر . قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاج أن تقدم [ ص: 4552 ] الحلق عن النحر . يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء ، والإفتاء كان ذلك جامعا بينها ، محسنا للعطف ، وإن تباينت .

قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده .

لأن ملاءمته لما بعده قد عرف وجهها . وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة ، إذا لم يعطف عليه . انتهى .

وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها . فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك . وخافوا أن يلحقهم فيه حرج . وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق ، لقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك .

وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم . ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر . والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه . والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف .

وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم . فكانوا يتحرجون . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت .

هذا ما ذكروه . ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله .

ولا يستلزم نفي الحرج عن مواكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه . بل يراد به حضوره مع [ ص: 4553 ] الصحيح على مائدة واختصاصه بقصعة على حدة . وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع . وقوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أي : بيوت أزواجكم وعيالكم . أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفراء .

وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم . فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب والده ، ماله كماله . قال صلى الله عليه وسلم : « إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأن ولده من كسبه » .

قال : والدليل على هذا ، أنه تعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد . لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . انتهى .

وعليه ، لا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم

وفي (" الكشف " ) : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء - حرج .

وقيل إنه على ظاهره . والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه .

قال الشهاب : وهو حسن . ولا يراد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : من بيوتكم انتهى .

أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن [ ص: 4554 ] يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفتاح كونها في يده وحفظه : أو صديقكم أي : أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحدا وجمعا . وكذلك الخليط والقطين والعدو . كذا في (" الكشاف " ) .

قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سر إفراده في قوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم دون الشافعين ، والتنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلا عن أن يكون صديقا .

ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع . فلا كلام . ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سره ذلك . والله أعلم .

قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره . وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم .

وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء . فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك .

وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين . إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات . فقالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح . وربما سمج الاستئذان وثقل . كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه . انتهى .

[ ص: 4555 ] ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا أي : مجتمعين أو متفرقين . روي أن قوما من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وإن قوما كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض . فأبيح لهم ذلك .

وقال قتادة : كان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم ; أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية . حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه . واشتهر هذا عن حاتم لقوله :


إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي


قال الشهاب : وفي الحديث : « شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده » والنهي في الحديث لاعتياده بخلا بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحيانا ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعا ، كما ذمت به الجاهلية .

فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم أي : إذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة ودينا . قاله الزمخشري .

أشار رحمه الله ، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله : ولا تقتلوا أنفسكم ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه . كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه . وأما إبقاؤه على ظاهره ; إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . كما روي عن ابن عباس - فبعيد غير مناسب لعموم الآية . كذا في (" الشهاب " ) .

[ ص: 4556 ] وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة . . فليطب نفسا بانبساط فيها : تحية من عند الله أي : ثابتة بأمر ، مشروعة من لدنه : مباركة أي : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها : طيبة أي : تطيب بها نفس المستمع : كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون أي : ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين .

ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول ، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[62] إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم .

إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم

قال الزمخشري : أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه . فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله . وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة (بإنما ) وإيقاع المؤمنين مبتدأ [ ص: 4557 ] مخبرا عنه بموصول ، أحاطت صلته بذكر الإيمانين . ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ، حيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله وضمنه شيئا آخر . وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرض بحال المؤمنين وتسللهم لواذا . ومعنى قوله : لم يذهبوا حتى يستأذنوه لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصوا بأن يأذن له .

والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس . فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز . وذلك نحو مقاتلة عدو ، أو تشاور في خطب مهم ، أو تضام لإرهاب مخالف ، أو تسامح في حلف وغير ذلك . أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ : أمر جميع . وفي قوله : وإذا كانوا معه على أمر جامع أنه خطب جلل ، لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم ، في كفايته . فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ، مما يشق على قلبه ، ويشعث عليه رأيه فمن ثم غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : لبعض شأنهم وذكر الاستغفار للمستأذنين ، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ، ولا يستأذنوا فيه .

وقيل : نزلت في حفر الخندق . وكان قوم يتسللون بغير إذن . وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام . إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن . على حسب ما اقتضاه رأيه .

تنبيه :

استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم . وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض . وهي مبسوطة في الأصول ، وقوله تعالى :
[ ص: 4558 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[63] لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .

لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي : إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه . ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا . ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قاله الزمخشري .

وكذا قال ابن الأثير في (" المثل السائر " ) أي : إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم . أي : لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والزموا معه الأدب .

وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر . منهم ابن أبي الحديد حيث قال في " الفلك الدائر " : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير - ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا . ولعله الأصح . وهي أن يراد بالدعاء الأمر . يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي : أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم أي : ندبكم . وقال سبحانه : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم أي : أمرتهم وندبتهم ، والقرينة المتأخرة قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره انتهى . وكذا قال المهايمي : أي : لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى . لأنه واجب الطاعة . لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعو .

قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا أي : ينسلون قليلا قليلا . و(اللواذ ) : الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا . يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة ، واستتار بعضهم ببعض . و (لواذا ) حال . أي : ملاوذين .

[ ص: 4559 ] هذا ، وقيل معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة . ولكن بلقبه المعظم . مثل : يا نبي الله ! ويا رسول الله ! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت .

وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق . وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، بأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله ! إنا نستأذنك . ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه . والأول أظهر وأولى كما في (" العناية " ) .

نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، جعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه . كآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الآية ، و : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إلى قوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي : يعرضون عنه ولا يأتون به . فضمن (المخالفة ) معنى الإعراض والصد . أو عن صلته . وقيل : إذا تعدى (خالف ) بـ(عن ) ضمن الخروج . وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب : أن تصيبهم فتنة أي : محنة في الدنيا : أو يصيبهم عذاب أليم أي : في الآخرة أو فيهما .

تنبيه :

استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه . فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله وفاعله ، كائنا من كان . كما ثبت في الصحيحين عنه صلوات الله [ ص: 4560 ] عليه وسلامه : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » واستدل بالآية أيضا أن الأمر للوجوب . فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين . قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : على أمر جامع وقد جوزا فيه مع إرادتهما معا . وتفصيل البحث في (" الرازي " ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[64] ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم .

ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص . وإنما أكد علمه بـ(قد ) لتأكيد الوعيد ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم أي : فلا يخفى عليه خافية . لأن الكل خلقه وملكه . فيحيط علمه به ضرورة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

* * *


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]