عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 21-11-2024, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4561 الى صـ 4575
الحلقة (475)






سُورَةُ الْفُرْقَانِ

الجمهور على أنها مكية . وعن الضحاك : مدنية . وعن بعضهم : مكية إلا ثلاث آيات (والذين لا يدعون ) إلى (رحيما ) .

قال المهايمي : سميت بالفرقان لاشتمالها على أنه ظهر كثرة خيرات الحق بالفرقان ، الذي هو التمييز بين الحق والباطل . والأظهر أنه لذكره فيها بمعانيه الآتية المتسع لها اللفظ لا خصوص ما ذكره ، وآياتها سبع وسبعون .

[ ص: 4562 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

[1] تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا .

تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها ، لما أنزله من الفرقان ، كما قال : الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات

قال الزمخشري : (البركة ) : كثرة الخير وزيادته . ومنها : تبارك الله وفيه معنيان : تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه ، في صفاته وأفعاله . و : { الفرقان } مصدر فرق بين الشيئين ، إذا فصل بينهما . وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل . أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقا مفصلا بعضه عن بعض في الإنزال .

ألا ترى إلى قوله : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا انتهى .

قال الناصر : والأظهر ها هنا هو المعنى الثاني . لأنه في أثناء السورة بعد آيات : وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة قال الله تعالى : كذلك أي : أنزلناه مفرقا كذلك : لنثبت به فؤادك فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة - والله أعلم - . كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد . انتهى .

قال أبو السعود : وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان ، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ; ردا [ ص: 4563 ] على النصارى ، والكناية في (ليكون ) للعبد أو للفرقان . و(النذير ) صفة بمعنى منذر ، أو مصدر بمعنى الإنذار ، كالنكر مبالغة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[2] الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا .

الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا أي : أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية لما أريد منه . كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة . وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة . بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما ، ومصلحته مطابقا لما قدر له ، غير متجاف عنه .

ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة ، تأثره بالبرهنة عليهما ، وتضليل المخالفين فيهما ، بقوله سبحانه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[3] واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا .

واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا أي : لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أولا وبعثه ثانيا . ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية ، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها . وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء . أفاده القاضي .

[ ص: 4564 ] قال الشهاب : قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار ، إما بيانا لحاصل المعنى ، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة ، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال . كما في قوله : أنبتكم من الأرض نباتا
القول في تأويل قوله تعالى :

[4 - 5] وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما أي : بجعل الصدق إفكا ، والبريء عن الإعانة معينا : وزورا أي : باطلا لا مصداق له ، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها أي : ما سطروه ، كتبها لنفسه وأخذها : فهي تملى عليه أي : تلقى عليه ليحفظها : بكرة وأصيلا أي : دائما .

قال ابن كثير : وهذا الكلام ، لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه . فإنه قد علم بالضرورة : أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره . وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته . وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث (بالأمين ) لما يعلمون من صدقه وبره . فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال ، التي يعلم كل عاقل براءته منها . وحاروا بما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر . وتارة يقولون : شاعر . وتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون كذاب ، قال الله تعالى : انظر [ ص: 4565 ] كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[6] قل أنـزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما .

قل أنـزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض أي : الخفي فيهما . إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى . ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله ، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره . وفي طيه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبي عليه الصلاة والسلام ، مع ما يتقولونه ويفترونه ، لا يعزب عن علمه . فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم ، وسموق حقه وظهور أمره : إنه كان غفورا رحيما تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم ، مع استيجابهم إياها . أي : فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته . أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم . لأنه لا يوصف بالمغفرة إلا القادر . هذا ما يستفاد من (" الكشاف " ) ومن تابعه ، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله .

وقال ابن كثير : قوله تعالى : إنه كان غفورا رحيما دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه . فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم سبحانه إلى التوبة ، والإقلاع عما هم فيه ، إلى الإسلام والهدى . كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم [ ص: 4566 ] ولهم عذاب الحريق قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود . قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة .

ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[7] وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا .

وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام أي : كما نأكل : ويمشي في الأسواق أي : يتردد فيها لشؤونه كما نمشي . قال الزمخشري : يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش . أي : فيخالف حاله حالنا . قال أبو السعود : وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم ، وقصور أنظارهم على المحسوسات . فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما هو بأمور نفسانية . كما أشير إليه بقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا ، إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا : لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ثم نزلوا أيضا إلى اقتراح أن يرفد بكنز ، إن لم يرفد بملك ، فقالوا :
القول في تأويل قوله تعالى :

[8] أو يلقى إليه كنـز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .

أو يلقى إليه كنـز أي : من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى طلب المعاش ، ويكون دليلا على صدقه . ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه ، فقالوا : أو تكون له [ ص: 4567 ] جنة يأكل منها أي : بستان يرتزق منه : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي : مغلوبا على عقله . وقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[9] انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

انظر كيف ضربوا لك الأمثال استعظام للأباطيل التي اجترأوا على التفوه بها . والتعجب منها . أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول : فضلوا فلا يستطيعون سبيلا أي : القدح في نبوتك ، بأن يجدوا قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه .

قال ابن كثير : كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال ، حيثما توجه ، لأن الحق واحد ، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا .

ثم نبه تعالى على أنه إن شاء آتاه خيرا مما يقترحون ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[10] تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا .

تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا أي : إن شاء جعل لك خيرا مما قالوا . وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال . وليصدع بأن الأمر مبني على النظر والاستدلال ، لا ما يلهي المشاعر والخيال . مما يتطرق إلى الشغب فيه والجدال ، فسبحان الحكيم المتعال . وقوله تعالى .
[ ص: 4568 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[11] بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا .

بل كذبوا بالساعة إضراب انتقالي عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة ، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى ، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها ، من فنون العذاب ، بقوله : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا أي : نارا شديدة الاستعار ، أي : التوقد والالتهاب .

وقيل : هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو : وقالوا مال هذا الرسول على معنى : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيرا . فإن جراءتهم على التكذيب بها ، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها ، أعجب من القول السابق .

ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قيل : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها ؟ . ثم وصف تعالى السعير بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا أي : إذا كانت بمرأى منهم : (أي : قريبة منهم ) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم ، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها ، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم ، حقيقة أو تمثيلا . و(من ) في قوله : من مكان بعيد إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة ، حين رأتهم ، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة . فيه مزيد تهويل لأمرها . أفاده أبو السعود . و(التغيظ ) : [ ص: 4569 ] إظهار الغيظ وهو أشد الغضب ، وقد يكون مع صوت كما هنا . شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، وهو صوت يسمع من جوفه ، تصريحا أو مكنيا أو تمثيلا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[13 - 14] وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا .

وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين أي : قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل : دعوا هنالك ثبورا أي : هلاكا . أي : نادوه نداء المتمني الهلاك . ليسلموا مما هو أشد منه . كما قيل : أشد من الموت ما يتمنى معه الموت . فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا لكثرة أنواعه المتوالية . فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين . أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحدا . أو كثرته كناية عن دوامه . لأن الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقيل : وصف الثبور بالكثرة ، لكثرة الدعاء أو المدعو به .
القول في تأويل قوله تعالى :

[15 - 16] قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا .

قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا أي : حقيقا أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه . وما في (على ) من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف في وعده تعالى .
[ ص: 4570 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[17 - 18] ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا .

ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أي : الله تعالى للمعبودين ، تقريعا لعبدتهم : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل أي : عن السبيل بأنفسهم ، لإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن المرشد : قالوا سبحانك تعجبا مما قيل لهم . لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء . أو تنزيها له عن الأنداد : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء أي : نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك ، أو (من أولياء ) أي : أتباعا للعبادة : ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون ، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم . وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة . أي : ما أضللناهم . ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ، ليعرفوا حقها ويشكروها . فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر ، أي : ذكرك . أو التذكر في آلائك ، والتدبر في آياتك ، فجعلوا أسباب الهداية ، بسوء اختيارهم ، ذريعة إلى الغواية - أفاده أبو السعود : وكانوا قوما بورا أي : هالكين . ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[19] فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا .

[ ص: 4571 ] فقد كذبوكم أي : المعبودون ، أيها الكفرة : بما تقولون أي : في قولكم إنهم آلهة . أو في قولكم هؤلاء أضلونا : فما تستطيعون أي : ما تملكون : صرفا أي : دفعا للعذاب عنكم بوجه ما : ولا نصرا أي : لأنفسكم من البوار : ومن يظلم منكم أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء : نذقه عذابا كبيرا ثم أجاب عن شبههم السابقة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[20] وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا .

وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق أي : ليحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة . وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم . فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة القاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب به كل سليم وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقوله : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام

تنبيه :

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافا لمن كرهها لهم .

[ ص: 4572 ] وقوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا قال الزمخشري : هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق . بعدما احتج عليهم بسائر الرسل . يقول : وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم ، أيها الناس ، ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم . وبمناصبتهم لهم العداوة . وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل . ونحوه : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وفي قوله تعالى : وكان ربك بصيرا زيادة تسلية وعدة جليلة . أي : هو عالم فيما يبتلى به وغيره ، فلا يضق صدرك . فإن في صبرك سعادة وفوزا في الدارين .
ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة ، وإبطالها ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .

وقال الذين لا يرجون لقاءنا أي : الرجوع إليه بالبعث والحشر : لولا أنـزل علينا الملائكة أي : للرسالة ، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم : أو نرى ربنا أي : فيخبرنا بذلك : لقد استكبروا في أنفسهم أي : في شأنها حتى تفوهوا بمثل هذه العظيمة : وعتوا أي : تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان : عتوا كبيرا أي : بالغا أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الرباني من غير توسط الرسول والملك . ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم .
[ ص: 4573 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[22] يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا .

يوم يرون الملائكة أي : عند الموت أو في القيامة : لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا أي : كما كانوا يقولون عند لقاء العدو وشدة النازلة : حجرا أي : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا و : محجورا تأكيد لـ : حجرا وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي : جعل الله ذلك حراما عليكم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[23] وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا .

وقدمنا إلى ما عملوا من عمل أي : مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة ، ويرونه من مكارمهم : فجعلناه هباء منثورا أي : مثل الغبار المنثور في الجو ، في حقارته وعدم نفعه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[24 - 25] أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام ونـزل الملائكة تنـزيلا .

أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام أي : ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم . فيخرب العالم بأسره . و(الباء ) بمعنى : (مع ) أي : مع السحب الجوية أو بمعنى : (عن ) أي : تنفطر عن الغمام الذي يسود الجو ويظلمه ، ويغم القلوب مرآه : ونـزل الملائكة تنـزيلا فيحيطون بالخلائق في المحشر .
[ ص: 4574 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[26 - 29] الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا .

الملك يومئذ الحق للرحمن أي : فلا يدعيه ثم غيره . ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة : وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه أي : تشتد حسراته وتتصاعد زفراته : يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا يعني من أضله عن الذكر ، وصده عن سبيل الله : لقد أضلني عن الذكر أي : القرآن ، أو موعظة الرسول : إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا أي : مبالغا في إضلاله ، يعده ويمنيه في الدنيا ، ما يحسره عليه في العقبى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[30] وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .

وقال الرسول أي : إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم : يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا أي : متروكا ، معرضا عنه . وجملة : وقال الرسول عطف على : وقال الذين لا يرجون وما بينهما اعتراض ، سيقت لانتظام ما قالوه ، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهي مما أضاقوا به الصدور ، وجلبوه من الكدور ، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين .

[ ص: 4575 ] تنبيه :

الآية ، وإن كانت في المشركين ، وإعراضهم هو عدم إيمانهم ، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به ، والأخذ بآدابه . الذي هو حقيقة الهجر . لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك . إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها . ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها .

ومن (فوائد ) الإمام ابن القيم رحمه الله . قوله في هذه الآية : هجر القرآن أنواع :

أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .

والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .

والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .

والرابع : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها . فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .

قال : وكل هذا داخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى .

وفي (" الإكليل " ) : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهد بالقراءة فيه . وكذا قال أبو السعود : فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . ثم قال : وفيه من التحذير ما لا يخفى . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل لهم العذاب ولم ينظروا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]