عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 21-11-2024, 09:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4576 الى صـ 4590
الحلقة (476)








القول في تأويل قوله تعالى :



وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا أي : إلى ما يبلغك ما تتمناه : ونصيرا أي : لك على كل من يناوئك . ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[32 - 33] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : كذلك لنثبت به فؤادك أي : نقويه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : ورتلناه ترتيلا أي : فصلناه تفصيلا بديعا ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .

قال القاشاني : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالا : ولا يأتونك بمثل أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : إلا جئناك بالحق أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه وأحسن تفسيرا أي : بيانا وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد .

تنبيه :

يذكر المفسرون ها هنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سر مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت . لمقدار مكث النبي . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[32 - 33] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : كذلك لنثبت به فؤادك أي : نقويه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : ورتلناه ترتيلا أي : فصلناه تفصيلا بديعا ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .

قال القاشاني : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالا : ولا يأتونك بمثل أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : إلا جئناك بالحق أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه وأحسن تفسيرا أي : بيانا وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد .

تنبيه :

يذكر المفسرون ها هنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سر مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت . لمقدار مكث النبي . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[34 - 36] الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا .

الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا وهم فرعون وقومه . والآيات الخوارق التسع . أي : فذهبا إليهم . فأرياهموها فكذبوها : فدمرناهم تدميرا أي : بالإغراق في البحر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[37 - 39] وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا .

وقوم نوح لما كذبوا الرسل يعني نوحا . وجمع تعظيما لرسالته . أو هو ومن تقدمه عليهم السلام : أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا يعني قوم هود : وثمود بالصرف وعدمه . قراءتان . على معنى الحي أو القبيلة : وأصحاب الرس اسم بئر . ونبيهم قيل : شعيب ، وقيل غيره . ويروي هنا بعضهم آثارا منكرة لا تصح . كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله . فلا يحل الجراءة على روايتها ، ولا تنزيل الآية عليها . لأنه من قفو ما ليس للمرء به علم . ومثله يحظر الخوض فيه وقرونا أي : أقواما : بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال أي : الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد : وكلا تبرنا تتبيرا أي : إهلاكا عظيما .
القول في تأويل قوله تعالى :

[40] ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا .

ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أي : أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط : أفلم يكونوا يرونها أي : في مرورهم ، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ؟ وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر ، عند مشاهدة ما يوجبه : بل كانوا لا يرجون نشورا أي : كفرة ، لا يتوقعون عاقبة وجزاء .
القول في تأويل قوله تعالى :

[41 - 42] وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا .

وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا أي : يستهزئون قائلين ذلك . والإشارة للاستحقار . لأن كلمة (هذا ) تستعمل له . وعائد الموصول محذوف . أي : بعثه . و (رسولا ) حال منه : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي : أنه كاد ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا ، لولا أن ثبتنا عليها .

قال الزمخشري : فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم ، حتى شارفوا بزعمهم ، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا جواب منه تعالى لآخر كلامهم . وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال . ولا بد للوعيد أن يلحقهم ، فلا يغرنهم التأخير .
القول في تأويل قوله تعالى :

[43] أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا .

أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا تعجيب للنبي صلوات الله عليه من شناعة حالهم ، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال .

قال الزمخشري : من كان في طاعة الهوى في دينه ، يتبعه في كل ما يأتي ويذر ، ولا يتبصر دليلا ، ولا يصغي إلى برهان ، فهو عابد هواه وجاعله إلهه . فيقول تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه ، فكيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى ؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام ؟ وتقول : لا بد أن تسلم ، شئت أو أبيت . ولا إكراه في الدين . وهكذا كقوله : وما أنت عليهم بجبار لست عليهم بمصيطر
القول في تأويل قوله تعالى :

[44] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا أي : منهم . لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها ، والنفرة مما يضرها . وهؤلاء عطلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق ، ويميز بها بين الخير والشر . ثم أشار تعالى إلى بعض دلائل التوحيد ، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر ، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[45] ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا .

ألم تر إلى ربك كيف مد الظل أي : عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس : ولو شاء لجعله ساكنا أي : ثابتا على حاله ، من الطول والامتداد . من السكنى أو غير متقلص من (السكون ) بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد : ثم جعلنا الشمس عليه دليلا أي : علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتا في مكان ، زائلا ومتسعا ومتقلصا . فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه ، على حسب ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى :

[46 - 47] ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا .

ثم قبضناه إلينا أي : أنزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا ، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه : قبضا يسيرا أي : على مهل ، قليلا قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقتها . وفي هذا القبض اليسير ، شيئا بعد شيء ، من المنافع ما لا يعد ولا يحصر . ولو قبض دفعة واحدة ، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا أي : ساترا كاللباس : والنوم سباتا أي : راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها : وجعل النهار نشورا أي : زمان انتشار لطلب المعاش .
القول في تأويل قوله تعالى :

[48 - 49] وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنـزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا .

وهو الذي أرسل الرياح بشرا أي : ناشرات للسحاب وفي قراءة بشرا بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين ، أي : مبشرات : بين يدي رحمته أي : قدام المطر . وهي استعارة بديعة . استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت . كقوله : يبشرهم ربهم برحمة منه وجعلها بين يديه تتمة لها . لأن البشير يتقدم المبشر به . ويجوز أن تكون تمثيلية . و (بشرا ) من تتمة الاستعارة ، داخل في جملتها . ومن قرأ (نشرا ) كان تجريدا لها .

لأن النشر يناسب السحاب : وأنـزلنا من السماء ماء طهورا أي : مطهرا ، لقوله : ليطهركم به وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء .

قال القاضي : وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه ، وتتميم للمنة فيما بعده . فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته . وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها ، فبواطنهم بذلك أولى : لنحيي به بلدة ميتا أي : بإنبات النبات : ونسقيه أي : ذلك الماء : مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا قال الكرخي : خص الأنعام بالذكر ، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر . ولذلك قدم سقيها على سقيهم ، كما قدم عليها إحياء الأرض . فإنها سبب لحياتها وتعيشها ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[50 - 52] ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا .

ولقد صرفناه أي : كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر : بينهم ليذكروا أي : ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا : فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : كفران النعمة وجحودها : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا أي : نبيا ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة . لكن لم نشأ ذلك ، فلم نفعله . بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا إجلالا لك وتعظيما ، وتفضيلا لك على سائر الرسل .

وقال المهايمي : أي : لكن لم نشأ . لأنه يقتضي تفرق الأمم ، وتكثر الاختلافات .

فجعلنا الواحد نذيرا للكل ليطيعوه أو يقاتلهم . والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه : فلا تطع الكافرين أي : فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر . ولا تطعهم فيما يريدونك عليه . وأراد بهذا النهي ، تهييجه وتهييج المؤمنين ، وتحريكهم . أي : إثارة غيرته وغيرتهم . وإلا فإطاعته لهم غير متصورة .

وقال أبو السعود : كأنه نهي له ، عليه الصلاة والسلام ، عن المداراة معهم ، والتلطف معهم . أي : لأن في ذلك إضعافا للحق وتغشية عليه . وطول أمد في سريانه . ولذا قال : وجاهدهم به أي : بالقرآن وما نزل إليك من الحق : جهادا كبيرا أي : لا يخالطه فتور ، بأن تلزمهم بالحجج والآيات ، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات ، لتتزلزل عقائدهم ، وتسمج في أعينهم عوائدهم . وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين ، ودعوتهم إلى الحق بقوة ، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة . فإن الحق يتضح بالأدلة . كما أن الشهور تشتهر بالأهلة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[53] وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا .

وهو الذي مرج البحرين أرسلهما متجاورين متلاصقين ، بحيث لا يتمازجان : هذا عذب فرات أي : شديد العذوبة قامع للظمأ : وهذا ملح أجاج أي : بليغ الملوحة : وجعل بينهما برزخا أي : حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر : وحجرا محجورا أي : منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر ، وامتزاجه به ، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة .

لطيفة :

تلطف هنا المهايمي في تأويل الآية ، بمعنى يصلها بالآية قبلها ، في أسلوب غريب .

قال رحمه الله في قوله تعالى : وجاهدهم به جهادا كبيرا يؤثر في بواطنهم فيكون : { كبيرا } يفوق ما يؤثر في الظواهر (و ) إن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها ؟ قيل : غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين . وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان ، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ : وهو الذي مرج أي : جاور : البحرين اللذين بينهما غاية الخلاف إذ : هذا عذب فرات أي : قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق ، القاطعة عطش الطلب : وهذا ملح أجاج أي : مبالغ في الملوحة . وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدا لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد : وجعل بينهما برزخا أي : مانعا من الخلط . وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل (و ) أما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها ، كما أنه جعل بينهما : حجرا أي : منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر : محجورا أي : ممنوعا أن يمنع . وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج ، قيل : ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل ، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب . وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالا ، في قوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[54] وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا .

وهو الذي خلق من الماء بشرا أي : كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم : فجعله أي : البشر : نسبا أي : أصلا أو فرعا أو حاشية لقوم : وصهرا أي : لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره ، فيعتقد باطلهم حقا . كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم : وكان ربك قديرا أي : وهو وإن صعب إزالته ، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير ، قدير على إزالته . كما قدر في النسب والصهر . فلا يبالي المؤمنون لهما . انتهى كلام المهايمي رحمه الله .

وهو منزع في باب الإشارة غريب ، أثرناه عنه للطافته . وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه ، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب ، أي : ذكورا ينسب إليهم ، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان . وذوات صهر أي : إناثا يصاهر بهن ، فظاهر . ونظيره قوله تعالى : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى
القول في تأويل قوله تعالى :

[55] ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا .

ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا أي : معينا للشيطان على عصيان ربه . والمراد بالكافر الجنس ، فهو إظهار في مقام الإضمار ، لنفي كفرهم عليهم ، ولرعاية الفواصل الكريمة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[56 - 57] وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا .

وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه أي : على تبليغ الرسالة المفهوم من : أرسلناك من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي : يتقرب إليه بالإيمان والطاعة . أي : إلى رحمته أو جنابه . فاتخاذ السبيل ، مراد به لازم معناه . لأن من سلك طريق شيء ، قرب إليه ، بل وصل .

قال الزمخشري : مثال : إلا من شاء والمراد : إلا فعل من شاء . واستثنائه عن .

الأجر قول ذي شفقة عليك ، قد سعى لك في تحصيل مال : (ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت ، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ) . فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب . ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه ، فأفاد فائدتين : إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله . كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثوابا ، فإني أطلب الثواب .

والثانية : إظهار الشفقة البالغة ، وأنك إن حفظت مالك اعتد بحفظك ثوابا ورضي به ، كما يرضى المثاب بالثواب .

ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه . انتهى .

والاستثناء على هذا متصل ادعاء .
القول في تأويل قوله تعالى :

[58] وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا .

وتوكل على الحي الذي لا يموت أي : في دفع شرهم ومكرهم : وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا أي : عليما لا يعزب عنه منها شيء ، فيجزيهم عليها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[59] الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا .

الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام أي : من أيامه تعالى ، أو أيام الخلق ، قولان للسلف : ثم استوى على العرش أي : علا فوقه علوا يليق بجلاله المقدس . وتقدم تفسيره : الرحمن مرفوع على المدح . أي : هو الرحمن ، وهو في الحقيقة وصف آخر للحي ، كما قرئ بالجر . وقيل : الموصول مبتدأ والرحمن خبره . وقيل : الرحمن بدل من المستكن في : { استوى } وقوله تعالى : فاسأل به خبيرا فيه أوجه : منها (الباء ) في به صلة (اسأل ) ومنها أنها صلة (خبيرا ) و (خبيرا ) مفعول (اسأل ) أي : فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته . أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته . وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده .

قال الشهاب : ويصح تنازعهما - أي : اسأل وخبيرا - في الباء . وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب . وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية . وقد ذكره السعد في أواخر (" شرح المفتاح " ) وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات . انتهى . ومنها أن الباء للتجريد . كقولك رأيت به أسدا . أي : برؤيته . أي : اسأل بسؤاله خبيرا والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا .

قال في (" الكشف " ) : وهو أوجه ، ليكون كالتتميم لقوله : الذي خلق إلخ فإنه لإثبات القدرة ، مدمجا فيه العلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[60] وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا .

وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أي : من المسمى به ؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه . أو الاستفهام للتعجب والاستغراب ، تفننا في الإباء . أي : وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها ، وتقرع آذاننا بالإذعان لها أنسجد لما تأمرنا وزادهم أي : الأمر بالسجود ، المراد به الإذعان بالإيمان : نفورا أي : استكبارا عن الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى :

[61] تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا .

تبارك الذي جعل في السماء بروجا أي : نجوما أو هي البروج الاثنا عشر ، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة ، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية وجعل فيها سراجا وهي الشمس : وقمرا منيرا أي : مضيئا بالليل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[62] وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .

وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أي : ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر : لمن أراد أن يذكر أي : يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته : أو أراد شكورا أي : يشكر على النعمة فيهما ، من السكون بالليل والتصرف بالنهار . ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له .
القول في تأويل قوله تعالى :

[63 - 64] وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما .

وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا أي : هينين . أو مشيا هينا . أي : بسكينة وتواضع . لا يضربون بأقدامهم ، ولا يخفقون تبعا لهم أشرا وبطرا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي : إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيئ لم يقابلوهم بمثله ، بل قالوا كلاما فيه سلام من الإيذاء والإثم . سواء كان بصيغة السلام كقولهم : (سلام عليكم ) ، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح . وكظم للغيظ . دفعا بالتي هي أحسن : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما أي : يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة ، كما قال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقوله : تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية ، وقوله : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون و(البيتوتة ) لغة : الدخول في الليل . يقال : بات يفعل كذا يبيت ويبات ، إذا فعله ليلا . وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقا . إلا أن الحقيقة أولى ، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا . ولذلك قال السلف : في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله . وفي قوله : لربهم إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم . لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله : وقياما جمع قائم أو مصدر أجري مجراه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[65 - 66] والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما .

والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما أي : هلاكا دائما . والمراد من قولهم ذلك ، فزعهم منها ، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى ، واعتصامهم بالسبب الأقوى . لا مجرد قلقلة اللسان ، بلا تأثر من الجنان . فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى ، ويتعوذوا به من سعيرها ، إلا لعلمهم بسوء حالها . ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه . ولذا قال تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما أي : موضع استقرار وإقامة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[67] والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما .

والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما أي : لم يجاوزوا الحد في الإنفاق ، ولم يضيقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلا ولؤما . بل كانوا في ذلك متوسطين ، وخير الأمور أوسطها .

قال الزمخشري : وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير . وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من فقه الرجل رفقه في معيشته » وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما عال من اقتصد » وروى البزار عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أحسن القصد في الغنى ، وما أحسن القصد في الفقر ، وما أحسن القصد في العبادة » .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 52.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.20%)]