شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: اسْتِلامُ الرُّكنَينِ اليَمَانِيين في الطَّوَاف
تَقبيل الحَجَرِ الأسوَدِ مِنَ السُّنَنِ المُستحبّة لمَن قَدِرَ عليه فإنْ لم يَقدِرْ فلا يُؤذِ النَّاسَ
الإيمانُ مَبنيٌّ على التَّسليمِ للهِ تعالى ولِرَسولِه صلى الله عليه وسلم في كُلِّ الأوامِرِ والنَّواهي سَواءٌ ظهَرَ لِلمُؤمِنِ العِلَّةُ أم لم تَظهَرْ
أجْمعت الأمّةُ على اسْتحباب اسْتلام الرُّكنين اليمانيين واتّفق الجماهير على أنّه لا يُمْسح الرُّكنين الآخرين واسْتحبّه بعضُ السّلف
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا ، فِي شِدَّةٍ ولَا رَخَاءٍ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْن ِ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج، في (2/924-925) باب: اسْتحبابُ اسْتلام الرُّكنين اليَمَانيين في الطّواف، دُون الرُّكنين الأخرين، وقد رواهما البخاري في الحَج (1608، 1609) باب: مَنْ لمْ يَسْتلم إلا الرُّكنين اليمانيين.
في الحديثِ الأول: يَروي نافعٌ مَولى ابنِ عُمَرَ، أنَّ عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أخبَرَ عن نَفْسِه: أنَّه ما تَرَكَ استِلامَ الرُّكنَيْنِ اليَمانِيَيْنِ -وهما الحَجَرُ الأسوَدُ، والرُّكنُ اليَمانِيُ، اللَّذانِ في جِهَةِ اليَمنِ- والاسْتلام: هو المَسح باليد، يقال: استلمتُ الحَجَر إذا لَمَسته، فالاستِلامُ هو المَسحُ باليَدِ عليهما، ويُزادُ مع الحَجَرِ الأسوَدِ التَّقبيلُ. الحجر الأسود
والحَجَر الأسْود هو في الزَّاوية القَريبة مِنْ باب الكعبة، والحَجَر ليس أسْود اللون، بل أحْمر إلى السّواد، لكنّه بالنسبة لبقية حِجارة الكعبة أسود، وعُرِف بهذا الاسم منْ بناء الكعبة، وهو مَوضُوعٌ على ارتفاع ذِراعين وثُلثي ذراعٍ مِنَ الأرض، والرُّكن الذي قَبله منْ جِهة الشّرق، هو الرُّكنُ اليَماني، ومِنَ المعلوم أنّ الطائف يجعل الحَجَر على يَساره ويَطوف. استلام النبي - صلى الله عليه وسلم - للحجر الأسود
قوله: «مُذْ رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا » مُذْ، أي: مُنذ رأيته يَستلمهما، وفي رواية: «يفعله» أي: يفعل الاسْتلام، وقوله: «في شدّةٍ ولا رَخَاء» أي: سواءً كان في زِحامٍ أو فُسْحة، في ضِيقٍ، ولا سَعةٍ، بل في كُلِّ الأحوالِ، مُنذُ رُؤيتِه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَستلِمُهما. وقد قال اللهُ -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21). اسْتلام الرُّكنين اليمانيين
قال النووي: وقد أجْمعت الأمّةُ على اسْتحباب اسْتلام الرُّكنين اليمانيين، واتّفق الجماهير على أنّه لا يُمْسح الرُّكنين الآخرين، واسْتحبّه بعضُ السّلف، وممّن كان يقول باسْتلامهما: الحَسَن والحُسين ابنا عليّ، وابن الزبير، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد -رضي الله عنهم-، قال القاضي أبو الطيّب: أجْمعت أئمّة الأمْصَار والفقهاء: على أنّهما لا يُسْتلمان، قال: وإنّما كان فيه خلافٌ لبعض الصّحابة والتابعين، وانْقَرضَ الخِلاف، وأجمعوا على أنّهما لا يُسْتلمان، والله أعلم. (شرح النووي). وكان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَستلِمُ ويَمسَحُ بيَدِه مِنَ الكَعبةِ، غيرَ الرُّكنَيْنِ اليَمانِيَّيْنِ : رُكنِ الحَجَرِ الأسوَدِ، والرَّكنِ اليَمانِيِّ، وذلك لأنَّهما على القَواعِدِ الإبراهيميَّةِ، ففي الرُّكنِ الأسوَدِ فَضيلتانِ: كَونُ الحَجَرِ فيه، وكَونُه على القَواعِدِ، وفي الثَّاني الثَّانيةُ فقطْ، ومِن ثَمَّ خُصَّ الأوَّلُ بمَزيدِ تَقبيلِه دُونَ الثَّاني. تَقبيل الحَجَرِ الأسوَدِ
وليُعلَمْ أنَّ تَقبيلَ الحَجَرِ الأسوَدِ مِنَ السُّنَنِ المُستحبّة لمَن قَدِرَ عليه، فإنْ لم يَقدِرْ فلا يُؤذِ النَّاسَ، بل عليه أنْ يَضَعَ يَدَه عليه مُستَلِماً، ثمّ يَرفَعَها ويُقَبِّلَها، فإنْ لم يَقدِرْ قام بحِذائِه وأشارَ نَحوَه وكَبَّرَ، ولا يُقبّل يده، وكان عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَمشي بَينَهما ولا يَرمُلُ، لِيَكونَ ذلك أيسَرَ وأرفَقَ لاستِلامِه، لِيَقْوَى عليه عِندَ الازدِحامِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّه كان يَرمُلُ في الباقي مِنَ البَيتِ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما سبق قد أمَرَ أصحابَه في عُمرةِ القَضاءِ أنْ يَمشُوا ولا يَرمُلوا بَينَ الرُّكنَينِ، حتى لا يَتعَبوا، ثمَّ يُسرِعوا في بَقيَّةِ الطَّوافِ حَولَ البَيتِ، في الأشْواطِ الثَّلاثةِ الأُولى، ثم إنَّه - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ في طَوافِه أوَّلَ قُدومِه في حَجَّةِ الوَداعِ مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثلاثًا، ومَشَى أربَعًا، فاستقَرَّتْ سُنَّةُ الرَّمَلِ على ذلك مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ، لأنَّه المُتأخِّرُ مِن فِعلِه - صلى الله عليه وسلم . فوائد الحديث
فَضيلةُ الصحابي ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، لِشِدَّةِ حِرصِه على تَتبُّعِ آثارِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والعَملِ بها.
وفيه: أنّ الإيمانُ مَبنيٌّ على التَّسليمِ للهِ -تعالى- ولِرَسولِه - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ الأوامِرِ والنَّواهي، سَواءٌ ظهَرَ لِلمُؤمِنِ العِلَّةُ، أم لم تَظهَرْ.
وأنّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مَناسِكَ الحَجِّ والعُمرةِ وأعمالَهما، بالقَولِ والفِعلِ، وبَيَّنَ ما يَجوزُ، وما لا يَجوزُ فيهما.
الحديث الثاني
وهو حديثُ ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ ، وهو تأكيدٌ لما سَبق، مِنْ أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يَسْتلم مِنَ الأرْكان الأرْبَعة للكعبة، إلا الحَجَر الأسْود، والرُّكن اليَمَاني. - ولرُكن الحَجَر فَضِيلتان: الفضيلة الأولي: كونه على قواعد إبْراهيم -عليه الصّلاة والسّلام.
الفضيلة الثانية: وكون الحَجَر الأسود فيه.
- والرُّكن اليَماني له فضيلةٌ واحدة، وهو كونه على قواعد إبْراهيم. وليس للشّامي والعِراقي شَيء مِنْ هذا، فإنّ تأسِيسهما خارجٌ عن أسْاس إبْراهيم -عليه الصّلاة والسّلام-؛ حيثُ أخرج الحَجَر مِنَ الكعبة منْ جِهتهما؛ ولهذا فإنّه يُشْرع اسْتلام الحَجَر الأسْود وتَقْبيله، ويُشْرع اسْتلام الرّكن اليماني بلا تَقبيل، ولا يُشرع في حقّ الرُّكنين الباقيين اسْتلامٌ ولا تَقبيل، والشّرعُ مَبْناه على الاتّباع، لا على الإحْدَاث والابتداع، ولله -تعالى- في شَرعه حِكَمٌ وأسْرار، وقد روى البخاري: في الحج (1608) باب: مَنْ لمْ يَسْتلم إلا الرُّكنين اليمانيين. ومَنْ يَتّقي شَيئاً مِنَ البَيت؟
عن أبي الشّعْثاء أنّه قال: ومَنْ يَتّقي شَيئاً مِنَ البَيت؟ وكان معاويةُ يَسْتلم الأرْكان، فقال له ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: إنّه لا يُسْتلمُ هَذَان الرُّكْنان، فقال: ليسَ شَيءٌ مِنَ البيتِ مَهْجُوراً، وكان ابنُ الزبير -رضي الله عنهما- يَسْتلمهنّ كلّهن، ورواه الإمام أحمد: عن ابنِ عباس: أنَّهُ طافَ مع مُعاويةَ بالبَيتِ، فجعَلَ مُعاويةُ يَستَلِمُ الأركانَ كُلَّها؛ فقال له ابنُ عبَّاسٍ: لِمَ تَستَلِمُ هذَينِ الرُّكنَينِ، ولم يَكُنْ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَستَلِمُهما؟ فقال مُعاويةُ: ليس شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهجوراً. فقال ابنُ عبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)؛ فقال مُعاويةُ: صَدَقتَ. قال الحافظ: ويُؤخذ منه: حِفظُ المَرَاتب، وإعْطاء كلّ ذِي حَقٍّ حقّه، وتَنزيل كلّ أحَدٍ مَنزلته. وأجابَ الشّافعي عن قول مَنْ قال: ليسَ شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهْجُوراً، بأنّا لمْ نَدَع اسْتلامهما هَجْراً للبيت، وكيف يَهْجُره وهو يطُوف به؟ ولكنّا نَتّبعُ السُّنّة فِعلاً أو تَرْكاً، ولو كان تركُ استلامهما هَجْراً، لكان تَركُ اسْتلام ما بين الأرْكان هَجْراً لها، ولا قائلَ به. (الفتح).
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي