
30-11-2024, 10:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,366
الدولة :
|
|
لا يشكر الله من لا يشكر الناس
لا يشكر الله من لا يشكر الناس[1]
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها المسلمون، إن النفس الإنسانية ذاتُ مشاعرَ وأحاسيسَ تتأثر بمواقف الناس تجاهها، فإذا أحسنت فقُوبل إحسانها بالشكر، التذَّت واستراحت، وإذا قُوبل معروفها بالجحود ضاقت وتكدَّرت.
فما أسمى ذلك الإنسانَ الذي إذا صنع له امرؤٌ معروفًا شَكَرَه، فأثنى على المحسن بلسانه، وذَكَرَه بفضله وإحسانه!
وأما من جحد المعروف بالنُّكران، أو قابله بالتغافُل والنسيان، أو تجاوز حدودَ الأخلاق فأساء إلى من كان له محسنًا، فذاك إنسان فقير الأخلاق، لئيم الطِّباع، وسيُجزى من الناس بمثل فِعلِه، فيذوق من المرارة مثل ما أذاق مَن جَحَدَ فضلَ خيرِهِ عليه.
فشتَّان ما بين الشاكر الذي ينبُت فيه المعروف كما ينبت الغرسُ الطيب في الأرض الخِصبة، وبين الجاحد الذي ينزل عليه غيثُ الإحسان كما ينزل الغيث على القِيعانِ التي لا تُمسك ماءً ولا تُنبت كلأً.
وما الناس في شُكر الصنيعة عندهم 
وفي كُفرها إلا كبعض المزارعِ
فمزرعةٌ طابت فأضعف نبتها 
ومزرعة أكْدَت على كلِّ زارعِ [2]
عباد الله، إن الإنسان الكريم يشكر المعروف ولو جاءه من حيوان، فيحفظ لذلك الحيوان معروفه، ويُكافِئه عليه بما يقدر من الخير له، فكيف بمعروفٍ جاء من إنسان؟ بل كيف بمعروف جاء من قريب أو حبيبٍ، أو جار أو صديق؟!
فعن أبي عثمان الثقفي قال: "كان لعمر بن عبدالعزيز غلامٌ على بغل له يأتيه كل يوم بدرهم، فجاءه يومًا بدرهمين، فقال: ما بدا لك؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، أَجِمَّه ثلاثة أيام"[3].
بل إن بعض العرب كانوا يسقُون خيلهم اللبنَ المحض، ويَدَعُون لأنفسهم وأولادهم اللبن الممذوق؛ شكرًا للخيل على ما تُوليهم من النِّعَمِ والخدمة.
لهذا - معشر المسلمين - ينبغي لنا أن نتحلى بشكر ذوي المعروف والإحسان، وأن نحذر من الجحود والنكران؛ فإن شُكْرَ الناس من شُكْرِ الله، فمن لم يَشْكُر مَن أحسن إليه منهم، لم يشكر ربه العظيم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس))[4].
وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((إن أشْكَرَ الناس لله أشكرهم للناس))[5].
قال الشاعر:
إذا المرء لم يشكر قليلًا أصابه 
فليس له عند الكثير شُكورُ
ومن يشكر المخلوق يشكر لربه 
ومن يكفر المخلوق فهو كَفورُ [6]
ولا ينبغي أنْ نجهلَ أنَّ شُكْرَ الناس على معروفهم، والثناء على جميل إحسانهم، عبادةٌ من العبادات، وقُربة من القربات؛ وقد صدق من قال:
شكرتك إن الشكرَ لله طاعة 
ومن شكر المعروف فالله زائدُه [7]
وأحْسَنَ القائل:
شكرتُك إن الشكر حظٌّ من التُّقى 
وما كلُّ من أوليته نعمةً يقضي [8]
لهذا احذر - أيها المسلم - أن تكون للمعروف كَفورًا، وللإحسان جَحودًا؛ فإن هذا نوعٌ من اللؤم ودناءة الأخلاق، ومعصية من معاصي الخلَّاق؛ قال بعض العلماء السابقين: "كُفْرُ النعمة من لؤم الطبيعة، ورداءة الدِّيانة"[9].
وقال الشاعر:
وإذا اصطنعت إلى أخي 
ك صنيعةً فانسَ الصنيعهْ
والشكر من كرم الفتى 
والكفر من لؤم الطبيعهْ [10]
أيها المؤمنون، إنَّ شُكْرَ المعروف له مظاهرُ كثيرة، فمن عجز عن بعضها لم يعجَز عن بقيَّتها، ومن جمعها، فقد أحْسَنَ كلَّ الإحسان في ردِّ الجميل؛ فمن تلك المظاهر:
المكافأة المادية: وتكون بشكر الْمُحْسَن إليه معروفَ الْمُحْسِن بمالٍ يُعطيه، في مناسبة تستدعيه، كحاجة في جائحة، أو قضاء دين، أو إعانة في بعض تكاليف الحياة، أو يُرسلَ إليه هدية تعبِّر عن شكره، واعترافه بفضله.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهَدِيَّة ويُثيب عليها))[11].
ومن شُكْرِ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام للمعروف: أنه أحْسَنَ الردَّ على جميل عمِّه أبي طالب الذي ربَّاه، ودافع عنه أذى من أذاه؛ فإن أبا طالب كان كثيرَ العيال: ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمِّه وكان من أيسر بني هاشم: يا عباسُ، إن أخاك أبا طالب كثيرُ العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه، فلنخفِّف عنه من عياله؛ آخُذ من بنيه رجلًا، وتأخذ أنت رجلًا، فنكلهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفِّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلًا، فاصنعا ما شئتُما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا، فضمَّه إليه، وأخذ العباس جعفرًا فضمَّه إليه، فلم يزل عليٌّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيًّا، فاتبعه عليٌّ رضي الله عنه، وآمن به وصدَّقه، ولم يزل جعفرٌ عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه))[12].
ومرَّ سعيد بن العاص بدار رجلٍ بالمدينة فاستسقى فسَقُوه، ثم مرَّ بعد ذلك بالدار ومنادٍ ينادي عليها: من يزيد؟ فقال لمولاه: سَل لِمَ تُباع هذه؟ فرجع إليه فقال: على صاحبها دَين، قال: فارجع إلى الدار، فرجع فوجد صاحبها جالسًا وغريمه معه، فقال: لِمَ تبيع دارك؟ قال: لهذا عليَّ أربعة آلاف دينار، فنزل وتحدث معهما، وبعث غلامه فأتاه ببَدْرَةٍ[13]، فدفع إلى الغريم أربعة آلاف، ودفع الباقي إلى صاحب الدار، وركب ومضى[14].
أرأيتم كيف شكر سعيدٌ على شربة ماء؟ وكيف كافأ صاحب الدار بهذا المال الكثير على كأس من ماء؟
ومن مظاهر شكر المعروف أيضًا: إيصال الشكر للمُحسن، والإعلان بالثناء عليه ومدحه على معروفه؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فأثْنُوا عليه حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه))[15].
سبحان الله! ما أعظم الإسلام في مراعاة مشاعر النفوس، وسُبُلِ راحتها، وإدخال السرور عليها!
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من صُنْعَ إليه معروفٌ فَلْيَجْزِهِ، فإن لم يجد ما يجزيه فَلْيُثْنِ عليه، فإنه إذا أثنى فقد شكره))[16] ، وفي رواية: ((من أُبْلِيَ بلاءً فذكره، فقد شكره، وإن كتمه فقد كَفَرَه))[17].
فهل بقِيَ من عذرٍ في ترك الشكر؟
قال الشاعر:
علامةُ شُكرِ المرء إعلانُ حمدهِ 
فمن كتم المعروف منهم فما شَكَر [18]
ومن شكر المعروف: قَبول شفاعة ذي المعروف في الأمور الكبيرة وعدم ردِّها.
فعن محمد بن جبير، عن أبيه رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في أُسارى بدرٍ: ((لو كان الْمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النَّتنى لتركتُهم له))[19].
وكان المطعم بن عدي ممن شارك في شقِّ صحيفة الظلم بحصار الشِّعب، وهو أيضًا الذي أجار النبي عليه الصلاة والسلام عند دخول مكة حين رجع من الطائف، فأراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يكافئه على هذا المعروف، ولكنَّ موتَ الْمُطعم سبق غزوة بدر.
ومن شُكْرِ المعروف أيضًا: الدعاء للمُحسن.
فعن أنس رضي الله عنه أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب الأنصار بالأجر كلِّه قال: ((لا، ما دعوتُمُ الله لهم، وأثنيتُم عليهم به))[20].
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء))[21].
ومن شُكْرِ المعروف كذلك: التغاضي عن إساءة المحسن، وهذا مظهر من أسمى مظاهر الشكر، ومن الأمثلة على ذلك: موقف عروة بن مسعود قبل إسلامه يوم الحديبية مع أبي بكر رضي الله عنه؛ ففي صحيح البخاري: ((... قال عروة عند ذلك: أي محمدُ، أرأيتَ إن استأصلتَ أمرَ قومِك، هل سمعتَ بأحدٍ من العرب اجتاح أهلَه قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهًا، وإني لأرى أوشابًا من الناس خليقًا أن يَفِرُّوا ويَدَعُوك، فقال له أبو بكر الصديق: امْصُصْ ببَظْرِ اللات، أنحن نَفِرُّ عنه ونَدَعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجْزِك بها، لَأجبْتُك)).
نسأل الله أن يجعلنا للمعروف شاكرين، وبين الناس من المحسنين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|