
30-11-2024, 10:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,829
الدولة :
|
|
رد: لا يشكر الله من لا يشكر الناس
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد أيها المسلمون:
فإن شكر المعروف خُلُقٌ كريم، وعمل حميد عظيم، يُثمر ثمراتٍ جميلةً، وتنتج عنه أعمال جليلة؛ فمن ذلك: أنَّ شكر المعروف يحُثُّ ذويه على استمرار خيرهم، ومواصلة معروفهم وبرِّهم، وقد يستنهضهم إلى مضاعفة إحسانهم وزيادته، وتوسيع نطاقه ودائرته؛ لأن بعض أصحاب المعروف إذا لم يجدوا لمعروفهم شاكرًا، ولا لفضلهم مُثنيًا، قد يدعوهم ذلك إلى قطعِهِ، أو تحويله إلى قوم شاكرين.
فقد قيل في المثل:
من لا يؤدِّبه الجمي 
ل ففي عقوبته صلاحه [22]
وقال الشاعر:
يزهِّدني في كل خيرٍ فعلته 
إلى الناس ما جربتُ من قلة الشكرِ [23]
وقال رجل لبعض جلسائه: "على أي شيء أنتم أشد ندامة؟ قالوا: على وضع المعروف في غير أهله، وطلب الشكر ممن لا يشكره"[24].
ومن ثمرات شكر المعروف: ترسيخ المحبة بين الناس، والبعد عن الهِجران والكراهية؛ فإن كُفرانَ المعروف جالبٌ للقطيعة، ومُوقِد للعداوة، فكم قد رأينا - معشر المسلمين - من أُناسٍ كانوا متوادِّين متواصلين، فلما أحسن بعضهم إلى بعض ولم يُشكَر ذلك الإحسان، انقلبت تلك المودة إلى بُغْضٍ وقطيعة!
عباد الله، وإذا كان شكر المعروف له ثمرات، فإن جحوده له مضرَّات كذلك؛ فمنها: انقطاع المعروف عن الجاحد، وتفويت الخير على نفسه، وذهاب البركة عن المعروف الذي وهبه فلم يشكره، "والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر لله جل وعلا، ولمن أسداها إليه"[25].
ومن مضرَّات عدم شكر المعروف: ندم المحسن وتحسُّره، وتوجُّعه وتألُّمه، وقد ينقلب إحسانه إذا صادف لئيمًا سببًا للإساءة إليه وإيذائه.
فقد حُكِيَ أن قومًا من العرب خرجوا إلى الصيد إذ عَرَضت لهم أمُّ عامر - وهي الضبع - فطردوها حتى ألجؤوها إلى خِباء أعرابيٍّ، فاقتحمته، فخرج إليهم الأعرابي، وقال: ما شأنكم؟ قالوا: صيدَنا وطريدتَنا، فقال: كلا، والذي نفسي بيده لا تَصِلُون إليها ما ثبت قائمُ سيفي بيدي، فحماها منهم؛ لأنها استجارت بخبائه، قال: فرجعوا وتركوه، وقام إلى لِقْحَةٍ فحلبها، وماء فقرَّب منها، فأقبلت تلِغ مرةً في هذا ومرة في هذا حتى عاشت واستراحت، فبينا الأعرابي نائم في جوف بيته إذ وثبت عليه فبقرت بطنه، وشرِبت دمه وتركتْهُ، فجاء ابنُ عمٍّ له يطلبه، فإذا هو بَقيرٌ في بيته، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يَرَها، فأخذ قوسه وكنانته واتبعها، فلم يزل حتى أدركها فقتلها، وأنشأ يقول:
ومن يصنع المعروف مع غير أهله 
يلاقِ الذي لاقى مُجيرُ امِّ عامرِ
أدام لها حين استجارت بقربه 
لها محضَ ألبان اللقاح الدَّرائرِ
وأسْمَنَها حتى إذا ما تكاملت 
فَرَتْهُ بأنياب لها وأظافرِ
فقُل لذوي المعروف هذا جزاء من 
يجود بمعروفٍ إلى غير شاكر [26]
وصارت هذه القصة بعد ذلك مَثَلًا في سوء حال من صنع معروفًا إلى غير شاكرٍ.
أيها الأحِبَّة الكرام، علينا أن نعرف أهميةَ شكر المعروف والإحسان، وألَّا نكون من أهل الجحود والنسيان، بل نجزي أهل المعروف إلينا بما نقدر عليه من الجزاء؛ إما بالهدية والعطاء، وإما بالمدح والثناء، وإما بزيادة الودِّ والدعاء.
وأن نعلم أن لشكر الإحسان آثارًا حسنةً تحُثُّنا على الشكر الجزيل، ومضرَّاتٍ عديدةً تحذرنا من نكران الجميل.
وإيانا ثم إيانا أن نخُصَّ بالشكر كثيرَ المعروف، ونحجبه عن قليله، فهذا ليس من شِيَمِ الكِرام، بل الكريم من يشكر كل معروف قليلًا كان أم كثيرًا، ولا يخص المرءَ بشكره الكثير فقط، بل يشكر معه ما قلَّ من غير احتقار، ويُثني عليه بدون استصغار؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير))[27].
ومع هذا كله - يا عباد الله - فإن على الإنسان الذي يريد ثوابَ ربه عند لقائه، وحسن جزائه في حياته، أن يبذل المعروف ولو لم يجد له شاكرًا، وينتظر شكره من ربه الشكور لا من مُعطاه الكفور، ففي حسن جزاء الآخرة على خالص العمل سَلْوَةٌ تُنسي ألم الجحود والنكران، وراحة للنفس من خيبة الضياع والخسران.
قال الشاعر:
بُثَّ الصنائع لا تحفِل بموقعها 
في آملٍ شَكَرَ المعروف أو كَفَرَا [28]
نسأل الله أن يُصلح أمرنا، ويجبُر كسرنا.
هذا، وصلوا وسلموا على النبي الكريم.
[1] أُلقِيَت في مسجد الشوكاني في: 6/ 5/ 1446هـ، 8/ 11/ 2024م.
[2] تعليق من أمالي ابن دريد (ص: 173).
[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 273).
[4] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وهو صحيح.
[5] رواه أحمد، وأبو داود الطيالسي، والبيهقي، وهو صحيح.
[6] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 263).
[7] الدر الفريد وبيت القصيد (7/ 33).
[8] الزهرة (ص: 181).
[9] الإعجاز والإيجاز (ص: 62).
[10] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 266).
[11] رواه البخاري.
[12] سيرة ابن هشام (1/ 229).
[13] ) البَدْرَةُ: كِيسٌ فِيهِ أَلْفٌ أَو عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ أَو سَبْعةُ آلَاف دِينارٍ، [تاج العروس (10/ 142)].
[14] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 263).
[15] رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وهو صحيح.
[16] رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح.
[17] رواه أبو داود، وهو صحيح.
[18] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 267).
[19] رواه البخاري (3139).
[20] رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي، وهو صحيح.
[21] رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي، وهو صحيح.
[22] الرسائل للجاحظ (1/ 109).
[23] أمالي القالي (1/ 123).
[24] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 65).
[25] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 264).
[26] مجمع الأمثال (2/ 144).
[27] رواه البيهقي، وهو حسن.
[28] الدر الفريد وبيت القصيد (5/ 167).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|