
04-12-2024, 07:33 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة :
|
|
رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله
«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ... ﴾ [آل عمران: 5 - 9]
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾[آل عمران: 5 - 9].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾: ﴿ إِنَّ ﴾: حرف توكيد ونصب، واسمها لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾، وخبرها جملة النفي: ﴿ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾، وهي جملة منفية تدل على ثبوت ضدها وهو ظهور كل شيء له سبحانه وتعالى، وكمال علمه وإحاطته؛ لأن الخفاء يقابله ويضاده الظهور.
و﴿ شيء ﴾: نكرة في سياق النفي، فيعم كل شيء أيًّا كان، صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا.
﴿ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾: متعلق بـ ﴿ يَخْفَى ﴾؛ أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا يخفى عليه شيء في السماء.
والمراد جنس الأرض وجنس السماء؛ أي: لا يخفى عليه شيء في الكون كله، ومن ذلك إيمان مَن آمن، وكُفر مَن كفر، وغير ذلك؛ لكمال علم الله - عز وجل - الدال على كمال حياته.
وفي هذا وعد لمن آمن بآيات الله، ووعيد لمن كفر بها، وترغيب في الثواب، وترهيب من العقاب.
قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
هذا من الأدلة على كمال ربوبيته وقيوميَّته - عز وجل - وتقرير علمه.
قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ ﴾: ﴿ هُوَ ﴾ يعود إلى «الله»؛ أي: الله الذي ﴿ يُصَوِّرُكُمْ ﴾؛أي: يجعلكم على صور معينة في أرحام أمهاتكم.
﴿ فِي الْأَرْحَامِ ﴾: حال من ضمير الخطاب « الكاف »، أي: يصوركم حال كونكم في الأرحام.
و﴿ الْأَرْحَامِ ﴾: جمع رحم، وهو موضع تكون الجنين في بطن أمه، وهو القرار المكين، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [المرسلات: 20 - 22].
﴿ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾: حال من فاعل ﴿ يُصَوِّرُكُمْ ﴾؛ أي: يصوركم في أرحام أمهاتكم، ويخلقكم على أي كيفية أراد كونًا، نطفًا، ثم علقًا، ثم مُضغًا، ثم تنفخ فيه الروح.
هذا شقي وهذا سعيد، هذا ذكر وهذه أنثى، هذا طويل وهذا قصير، هذا أبيض وهذا أسود، هذا جميل وهذا قبيح، هذا مكتمل الخلقة وهذا ناقص الخلقة.
هذا يشبه أباه وهذا يشبه أمه، وهذا يشبههما وهذا لا يشبه واحدًا منهما، وهذا يشبه جده أو جدته، وهذا يشبه عمه أو خاله، ونحو ذلك، وهذا لا يشبه أحدًا من أقاربه، وهذا يشبه بعض الأبعدين، وهذا لا يشبه أحدًا.
ولا تنافي بين كونه تعالى يُصور الجنين كيف يشاء، وبين كونه يشبه أباه أو أمه أو نحو ذلك؛ لأن الله - عز وجل - قد جعل لكل شيءٍ سببًا، وربط المسببات بأسبابها؛ ولهذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود- كأنه يُعرِّض بزوجته[1]- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟»، قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال: حمر، قال: «فهل فيها من أورق؟» قال: نعم، قال: «أنى لها ذلك؟»، قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم: «فلذلك ابنك لعله نزعه عرق»[2].
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي: لا معبود حق إلا هو، وقد كرر هذا؛ لتوكيد تفرده - عز وجل - بالألوهية، والمبالغة في الرد على النصارى الذين ادَّعوا إلهية عيسى عليه السلام، وعلى غيرهم من المشركين. وقد قرن فيما سبق بتقرير ألوهيته وكمال حياته وقيومته وإنزاله الكتب السماوية.
وقرن هنا بذكر تصويره الخلق في الأرحام كيف يشاء وخلقهم، وكمال عزته، وكمال حكمه وحكمته، وهذا وذاك مما يوجب إفراده بالعبادة دون سواه.
﴿ الْعَزِيزُ ﴾: اسم من أسماء الله - عز وجل - على وزن «فعيل» يدل على أنه سبحانه ذو العزة التامة.
﴿ الْحَكِيمُ ﴾: اسم من أسماء الله - عز وجل - على وزن «فعيل» يدل على أنه الحاكم ذو الحكم التام بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزئي، وعلى أنه المحكم المتقن ذو الحكمة البالغة بقسميها: الحكمة الغائية، والحكمة الصورية.
قال ابن كثير: «وهذه الآية فيها تعريض، بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهًا - كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله، وقد تقلب في الأحشاء، وتنقَّل من حالٍ إلى حال، كما قال تعالى: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [الزمر: 6].
قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
ذكر عز وجل في الآية السابقة نعمته على العباد بتصويرهم في الأرحام وخلقهم، ثم أتبع ذلك بما هو أعظم، وهو نعمته عليهم بإنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم لهدايتهم.
قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ تأكيدٌ لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [آل عمران: 3]، وتمهيد لقوله: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ الآية.
وفي قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى، وإبطال لزعم المشركين أنه إنما يعلمه بشر، أو أساطير الأولين.
﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾: أي من هذا الكتاب آيات، و﴿ آيَاتٌ ﴾ جمع آية، وهي في اللغة: العلامة، وفى الشرع: القطعة من كلام الله تعالى ذات بداية ونهاية معلومة.
﴿ مُحْكَمَاتٌ ﴾: الإحكام: الإتقان؛ أي: منه آيات متقنات معلومات واضحات المعنى والدلالة، لا اشتباه فيهن ولا التباس، وجُل القرآن على هذا؛ كما قال تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1].
﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾: الجملة في محل نصب حال من ﴿ آيَاتٌ ﴾، أو في محل رفع صفة لـ﴿ آيَاتٌ ﴾، والضمير ﴿ هنَّ ﴾ يعود إلى قوله: ﴿ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾.
وأم الشيء أصله ومعظمه ومرجعه، أي: هن أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه.
قال تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]؛ أي: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل شيء، وهو مرجع وأصل كل الكتب.
ومنه سُمِّيت الفاتحة «أم الكتاب»؛ لأنها أصل القرآن الكريم وابتداؤه، ومشتملة على جميع معاينه[3].
ومنه سُمِّيت خريطة الرأس الجامعة له «أم الرأس» وهي الدماغ، وسُمِّيت الراية «الأم»؛ لأن الجيش ينضوى إليها، كما قال ذو الرمة[4]:
على رأسه أم لنا نقتدي بها
جماع أمور لا نعاصي لها أمرًا
قال الطبري[5]: «يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق الحاجة إليه من أمر دينهم، وما كُلِّفوا من الفرائض والحدود وسائر ما يحتاجون إليه في عاجلهم وآجلهم».
﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾: أي وآيات أُخر متشابهات، و«أُخر» ممنوع من الصرف؛ لأنه وصف معدول عن الآخر.
ومعنى ﴿ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾؛أي: فيهن اشتباه من حيث عدم وضوح المعنى والدلالة، أو لكونهن مما استأثر الله تعالى بعلمه، كحقائق صفات الله وكيفياتها؛ فهذه لا يعلمها إلا الله، وما يتعلق بعلم الغيب، كقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158]، وكقيام الساعة، فهذا مما لا يعلمه إلا الله، وعدَّ بعض أهل العلم من هذا الحروف المقطعة في أوائل بعض السور.
وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: «المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به»[6].
فأما قوله تعالى في سورة (الزمر): ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، فليس المراد بقوله: ﴿ مُتَشَابِهًا ﴾ التشابه الذي هو هذا الإحكام، وإنما المراد أنه يشبه بعضه بعضًا في الكمال والحسن والبلاغة، وما فيه من الهدى والبيان والمواعظ والحكم والأحكام والدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر والوعد والوعيد... ونحو ذلك.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾: الفاء: استئنافية، و«أما» حرف شرط وتفصيل، أي: فأما الناس الذين في قلوبهم زيغ، و«القلوب» جمع قلب، وهو محل الإدراك وهو العقل، و«الزيغ»: الميل والانحراف عن القصد، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]؛ أي: ما مال البصر وما انحرف عن المقصود، ويُقال: «زاغت الشمس»؛ أي: مالت وزالت عن كبد السماء.
والمعنى: فأما الناس الذين في قلوبهم ميل عن الحق وقصد للباطل، كما هو حال كثير من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم من أهل البدع والأهواء من الرافضة المجوسية والخوارج والقدرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم.
﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ « ما »: موصولة، أي: فيتبعون الذي تشابه منه، ويأخذون به، ويحملون المحكم على المتشابه، ويضربون الآيات بعضها ببعض.
وقد كنت أكتب في تفسير هذه الآية جوار بيت الله الحرام يوم الثلاثاء 11/ 8/ 1432هـ، فخرجت لصلاة الظهر في الحرم، وبعد صلاة الظهر جلس بجواري أحد الإخوة، فسألته: من أين أنت؟ فقال: أنا إيراني شيعي، وأخذ يُثني على الشيعة، فقلت له: الشيعة فيهم أناس طيبون، وفيهم غُلاة يزعمون أن القرآن مُـحرَّف، وأن الأئمة يدبرون الكون مع الله، ويُكَفِّرون كثيرًا من الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم- فقام وأحضر مصحفًا، وفتح على قول الله تعالى في سورة (الرعد): ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]، وأشار بأصبعه إلى قوله: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ ﴾، وقال: «كل المفسرين من أهل السنة يقولون: المراد بهذا علي بن أبي طالب، قلت: ليس هذا بصحيح، فلا أحد من أهل السنة يقول بهذا، وإنما يقولون: الضمير يعود إلى الله تعالى؛ أي: قل كفى بالله شهيدًا على رسالتي، وهو الذي عنده علم الكتاب، أي: علم اللوح المحفوظ.
وقال بعض المفسرين: المراد بالضمير في قوله: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ ﴾: عبدالله بن سلام، والمراد بالكتاب: التوراة، فهو شهيد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة التوراة بذلك، فأخذ يقلِّب في المصحف، فأخرج الآية في سورة التوبة ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ ﴾ [التوبة: 40]، فقال: «من صاحبه؟» قلت: أبوبكر - رضي الله عنه - فقال: «كيف يحزن؟!»، كأنه يريد أن ينتقص من أبي بكر- رضي الله عنه - قلت له: الحزن ليس عيبًا، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]، وقال تعالى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [فاطر: 7]، فخرج من الموضوع وقال: «كيف تسلمون في المدينة على أبي بكر وعمر، وتمنعوننا أن نسلم على بعض الصحابة في البقيع؟»، فقلت له: لأنكم نجس تتبولون على قبور بعض الصحابة كما فعل بعضكم عند قبر عثمان - رضي الله عنه - فقام وانصرف منهزمًا، فقلت: يا سبحان الله، صدق الله العظيم: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾.
قوله: ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾: مفعول لأجله، أي: لأجل الفتنة ولأجل تأويله، أي: طلب الفتنة وطلب تأويله، فاتبعوا ما تشابه منه لأجل هذين الغرضين الفاسدين.
والضمير في ﴿ تَأْوِيلِهِ ﴾ يعود إلى المتشابه، والفتنة: الصد عن دين الله والشرك، أي: طلب فتنة الناس وصدهم عن دينهم، وإيقاعهم في الكفر والشرك والشك والإلحاد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 191]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]، وقوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10].
﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾: أي وطلب تأويله التأويل المذموم، وتحريفه تبعًا لأهوائهم المنحرفة، وإيهام أتباعهم أنهم يحتجون بالقرآن نظرًا لتشابهه، بخلاف المحكم فلا يتبعونه لأنه دامغ لهم، وحجة عليهم لوضوحه وعدم احتماله للتأويل.
عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم»[7].
﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ﴾ الواو: حالية، و«ما»: نافية، والضمير في ﴿ تَأْوِيلَهُ ﴾ يعود إلى ما تشابه من القرآن، والحال أنه لا يعلم تأويل المتشابه من القرآن، ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾: أداة حصر، أي: وما يعلم تأويله إلا الله وحده، أي: لا يعلم حقيقته وما يؤول إليه إلا الله وحده.
والتأويل يأتي بمعنى التفسير، والتعبير، وبيان الشيء، كما قال أحد صاحبي السجن ليوسف عليه السلام: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ [يوسف: 36]؛ أي: بتفسير وتعبير الرؤيا التي رأى كل منهما.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: «اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل»[8]؛ أي: تأويل القرآن وتفسيره.
ويأتي التأويل بمعنى العاقبة والغاية التي يؤول إليها الشيء، والتي لا يعلمها إلا الله، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأعراف: 53].
فالمراد بـ﴿ تَأْوِيلِهِ ﴾ في الموضعين: عاقبته وما يؤول إليه، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 39]، عاقبته وما يؤول إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100]، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 39] ؛ أي: أحسن مآلًا وعاقبة.
﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ الواو: استئنافية، والوقف عند أكثر السلف على قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾؛ أي: لا يعلم عاقبته وما يؤول إليه إلا الله.
﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾: مبتدأ، وخبره جملة ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾، والراسخون: جمع راسخ، والرسوخ بمعنى الثبات والتمكن، فالراسخون في العلم هم الثابتون فيه، المتمكنون منه، العارفون بدقائقه.
﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾: الضمير في ﴿ بِهِ ﴾ يعود إلى قوله: ﴿ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾؛ أي: إلى المتشابه، أي: صدقنا به وإن لم نعلم تأويله، ورددنا علم هذا المتشابه إلى المحكم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|