
05-12-2024, 11:06 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,909
الدولة :
|
|
رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله

كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
المجلد السابع
الحلقة (323)
صــــــــــ 306 الى صـــــــــــ 314
تخطب وإذا رضيت المرأة الرجل وبدا لها وأمرت بأن تنكحه لم يجز أن تخطب في الحال التي لو زوجها فيها الولي جاز نكاحه، فإن قال قائل فإن حالها إذا كانت بعد أن تركن بنعم مخالفة حالها بعد الخطبة وقبل أن تركن فكذلك حالها حين خطبت قبل الركون مخالفة حالها قبل أن تخطب، وكذلك إذا أعيدت عليها الخطبة وقد كانت امتنعت فسكتت والسكات قد لا يكون رضا فليس ههنا قول يجوز عندي أن يقال إلا ما ذكرت بالاستدلال ولولا الدلالة بالسنة كانت إذا خطبت حرمت على غير خاطبها الأول أن يخطبها حتى يتركها الخاطب الأول
، ثم يتفرق نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهين فكل ما نهى عنه مما كان ممنوعا إلا بحادث يحدث فيه يحله فأحدث الرجل فيه حادثا منهيا عنه لم يحله وكان على أصل تحريمه إذا لم يأت من الوجه الذي يحله وذلك مثل أن أموال الناس ممنوعة من غيرهم وأن النساء ممنوعات من الرجال إلا بأن يملك الرجل مال الرجل بما يحل من بيع أو هبة وغير ذلك وأن النساء محرمات إلا بنكاح صحيح أو ملك يمين صحيح فإذا اشترى الرجل شراء منهيا عنه فالتحريم فيما اشترى قائم بعينه لأنه لم يأته من الوجه الذي يحل منه ولا يحل المحرم، وكذلك إذا نكح نكاحا منهيا عنه لم تحل المرأة المحرمة عنه من فعل شيء في ملكي أو شيء مباح لي ليس بملك لأحد فذلك نهي اختيار ولا ينبغي أن نرتكبه فإذا عمد فعل ذلك أحد كان عاصيا بالفعل ويكون قد ترك الاختيار ولا يحرم ما له ولا ما كان مباحا له وذلك مثل ما روي عنه أنه أمر الآكل أن يأكل مما يليه ولا يأكل من رأس الثريد ولا يعرس على قارعة الطريق، فإن أكل مما لا يليه أو من رأس الطعام أو عرس على قارعة الطريق أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحرم ذلك طعام عليه وذلك أن الطعام غير الفعل ولم يكن يحتاج إلى شيء يحل له به الطعام كان حلالا فلا يحرم الحلال عليه بأن عصى في الموضع الذي جاء منه الأكل ومثل ذلك النهي عن التعريس على قارعة الطريق.
الطريق له مباح وهو عاص بالتعريس على الطريق ومعصيته لا تحرم عليه الطريق وإنما قلت يكون فيها عاصيا إذا قامت الحجة على الرجل بأنه كان علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه.
والله أعلم.
[كتاب إبطال الاستحسان]
الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله وكما ينبغي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله بعثه بكتاب عزيز {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 42] فهدى بكتابه
، ثم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما أنعم عليه وأقام الحجة على خلقه {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] وقال {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة} [النحل: 89] وقال {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] وفرض عليهم اتباع ما أنزل عليه وسن رسوله لهم فقال {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله} [الأحزاب: 36] فاعلم أن معصيته في ترك أمره وأمر رسوله ولم يجعل لهم إلا اتباعه، وكذلك قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم - صراط الله} [الشورى: 52 - 53] مع ما أعلم نبيه بما فرض من اتباع كتابه فقال {فاستمسك بالذي أوحي إليك} [الزخرف: 43] وقال {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة: 49] وأعلمهم أنه أكمل لهم دينهم فقال عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] وأبان الله عز وجل لخلقه أنه تولى الحكم فيما أثابهم وعاقبهم عليه على ما علم من سرائرهم وافقت سرائرهم علانيتهم أو خالفتها وإنما جزاهم بالسرائر فأحبط عمل كل من كفر به
، ثم قال تبارك وتعالى فيمن فتن عن دينه {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] فطرح عنهم حبوط أعمالهم والمأثم بالكفر إذا كانوا مكرهين وقلوبهم على الطمأنينة بالإيمان وخلاف الكفر وأمر بقتال الكافرين حتى يؤمنوا وأبان ذلك جل وعز حتى يظهروا الإيمان
، ثم أوجب للمنافقين إذا أسروا نار جهنم فقال {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] وقال {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون - اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون: 1 - 2] يعني والله تعالى أعلم من القتل فمنعهم من القتل ولم يزل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان مما أظهروا منه وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار لعلمه بسرائرهم وخلافها لعلانيتهم بالإيمان فأعلم عباده مع ما أقام عليهم من الحجة بأن ليس كمثله أحد في شيء إن علمه بالسر والعلانية واحد فقال تعالى ذكره {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16] وقال عز وعلا {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: 19] مع آيات أخر من الكتاب (قال الشافعي) : فعرف جميع خلقه في كتابه أن لا علم إلا ما علمهم فقال عز وجل {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} [النحل: 78] وقال {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] (قال الشافعي) :
، ثم من عليهم بما آتاهم من العلم وأمرهم بالاقتصار عليه وأن لا يتولوا غيره إلا بما علمهم وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] وقال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24] وقال لنبيه
{قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9]
، ثم أنزل على نبيه أن قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعني والله أعلم ما تقدم من ذنبه قبل الوحي وما تأخر أن يعصمه فلا يذنب فعلم ما يفعل به من رضاه عنه وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة وسيد الخلائق وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36] «وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل في امرأة رجل رماها بالزنا فقال له يرجم فأوحى الله إليه آية اللعان فلاعن بينهما» وقال الله تعالى {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] وقال {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} [لقمان: 34] الآية وقال لنبيه {يسألونك عن الساعة أيان مرساها - فيم أنت من ذكراها} [النازعات: 42 - 43] فحجب عن نبيه علم الساعة وكان من جاور ملائكة الله المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد الله أقصر علما من ملائكته وأنبيائه لأن الله عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه ولم يجعل لهم بعد من الأمر شيئا وأولى أن لا يتعاطوا حكما على غيب أحد لا بدلالة ولا ظن لتقصير علمهم عن علم أنبيائه الذين فرض الله تعالى عليهم الوقف عما ورد عليهم حتى يأتينهم أمره فإنه جل وعز ظاهر عليهم الحجج فيما جعل إليهم من الحكم في الدنيا بأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه وأن لا يجاوزوا أحسن ظاهره ففرض على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا وأن يحقن دماءهم إذا أظهروا الإسلام
، ثم بين الله
، ثم رسوله أن لا يعلم سرائرهم في صدقهم بالإسلام إلا الله فقال عز وجل لنبيه {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} [الممتحنة: 10] (قرأ الربيع) إلى قوله {فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] يعني والله تعالى أعلم بصدقهن بإيمانهن قال {فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] يعني ما أمرتكم أن تحكموا به فيهن إذا أظهرن الإيمان لأنكم لا تعلمون من صدقهن بالإيمان ما يعلم الله فاحكموا لهن بحكم الإيمان في أن لا ترجعوهن إلى الكفار {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة: 10] (قال الشافعي) :
، ثم أطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره ولم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14] الآية (قال الشافعي) : أسلمنا يعني أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسباء
، ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله يعني إن أحدثوا طاعة رسوله وقال له في المنافقين وهم صنف ثان {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] إلى {اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون: 2] يعني والله تعالى أعلم أيمانهم بما يسمع منهم من الشرك بعد إظهار الإيمان جنة من القتل وقال في المنافقين {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} [التوبة: 95] الآية فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم خلاف حكم الإيمان، وكذلك حكم نبيه - صلى الله عليه وسلم - على من بعدهم بحكم الإيمان وهم يعرفون أو بعضهم بأعيانهم منهم من تقوم عليه البينة بقول الكفر ومنهم من عليه الدلالة في أفعاله فإذا أظهروا التوبة منه والقول بالإيمان حقنت عليهم دماؤهم وجمعهم ذكر الإسلام وقد أعلم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنهم في الدرك الأسفل من النار فقال {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فجعل حكمه عليهم جل وعز على سرائرهم وحكم نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم بإظهار التوبة وما قامت عليه بينة من المسلمين بقوله وما أقروا بقوله وما جحدوا من قول الكفر مما لم يقروا به ولم تقم به بينة عليهم وقد كذبهم على قولهم في كل، وكذلك أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله عز وجل (قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار «أن رجلا سار النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ندر ما ساره حتى جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أليس
يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى ولا شهادة له فقال أليس يصلي؟ قال بلى ولا صلاة له فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك الذين نهاني الله تعالى عنهم» أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أسامة بن زيد قال شهدت من نفاق عبد الله بن أبي ثلاثة مجالس أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (قال الشافعي) : فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن فرض الله أن يقاتلهم حتى يظهروا أن لا إله إلا الله فإذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها يعني إلا بما يحكم الله تعالى عليهم فيها وحسابهم على الله بصدقهم وكذبهم وسرائرهم والله العالم بسرائرهم المتولي الحكم عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه وبذلك مضت أحكام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق وأعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون وأن الله يدين بالسرائر.
أخبرنا مالك عن هشام بن عروة «وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العجلاني وهو أحيمر سبط نضو الخلق فقال يا رسول الله رأيت شريك ابن السحماء يعني ابن عمه وهو رجل عظيم الأليتين أدعج العينين حاد الخلق يصيب فلانة يعني امرأته وهي حبلى وما قربتها منذ كذا فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شريكا فجحد ودعا المرأة فجحدت فلاعن بينها وبين زوجها وهي حبلى، ثم قال ابصروها، فإن جاءت به أدعج عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحيمرا كأنه وحرة فلا أراه إلا قد كذب فجاءت به أدعج عظيم الأليتين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا إن أمره لبين لولا ما قضى الله»
يعني أنه لمن زنا لولا ما قضى الله من أن لا يحكم على أحد إلا بإقرار أو اعتراف على نفسه لا يحل بدلالة غير واحد منهما وإن كانت بينة.
وقال «لولا ما قضى الله لكان لي فيهما قضاء غيره» ولم يعرض لشريك ولا للمرأة والله أعلم وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب
، ثم علم بعد أن الزوج هو الصادق (قال الشافعي) أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد أن «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية ألبتة، ثم أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيمة ألبتة والله ما أردت إلا واحدة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لركانة والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان - رضي الله عنهما -»
(قال الشافعي) : وفي جميع ما وصفت ومع غيره مما استغنيت بما كتبت عنه مما فرض الله تعالى على الحكام في الدنيا دليل على أن حراما على حاكم أن يقضي أبدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وأخفه على المحكوم عليه وإن احتمل ما يظهر منه غير أحسنه كانت عليه دلالة بما يحتمل ما يخالف أحسنه وأخفه عليه أو لم تكن لما حكم الله في الأعراب الذين قالوا آمنا وعلم الله الإيمان لم يدخل في قلوبهم وما حكم الله تعالى به في المنافقين الذين أعلم الله أنهم آمنوا ثم كفروا وأنهم كذبة بما أظهروا من الإيمان وبما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتلاعنين حين وصف قبل أن تلد إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق فجاء به على الوصف الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجها فلا أراه إلا قد صدق.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أمره لبين» أي لقد زنت وزنى بها شريك الذي رماه زوجها بالزنى
، ثم لم يجعل الله إليهما سبيلا إذا لم يقرا ولم تقم عليهما بينة وأبطل في حكم الدنيا عليهما استعمال الدلالة التي لا يوجد في الدنيا دلالة بعد دلالة الله على المنافقين
والأعراب أقوى مما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مولود امرأة العجلاني قبل يكون
، ثم كان كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأغلب على من سمع «الفزاري يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن امرأتي ولدت غلاما أسود وعرض بالقذف أنه يريد القذف، ثم لم يحده النبي - صلى الله عليه وسلم -»
إذ لم يكن التعريض ظاهر قذف فلم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حكم القاذف والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته أنت طالق ألبتة أنه يعقل أنه قد أوقع الطلاق بقوله طالق وأن ألبتة إرادة شيء غير الأول أنه أراد الإبتات بثلاث ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بظاهر الطلاق وذلك واحدة (قال الشافعي) : فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على أن ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة وذلك أن يقول قائل من رجع عن الإسلام ممن ولد على الإسلام قتلته ولم أستتبه ومن رجع عنه ممن لم يولد على الإسلام استتبته ولم يحكم الله تعالى على عباده إلا حكما واحدا مثل أن يقول من رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينا يظهر كالمجوسية استتبته، فإن أظهر التوبة قبلت منه ومن رجع إلى دين يخفيه لم أستتبه (قال الشافعي) : وكل قد بدل دينه دين الحق ورجع إلى الكفر فكيف يستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض وكل باطل، فإن قال لا أعرف توبة الذي يسر دينه.
قيل ولا يعرفها إلا الله وهذا مع خلافه حكم الله ثم رسوله كلام محال يسأل من قال هذا هل تدري لعل الذي كان أخفى الشرك يصدق بالتوبة والذي كان أظهر الشرك يكذب بالتوبة؟ ، فإن قال نعم قيل فتدري لعلك قتلت المؤمن الصادق بالإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الإيمان، فإن قال ليس علي إلا الظاهر قيل فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة محالة والمنافقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية بل كانوا يستسرون بدينهم فيقبل منهم ما يظهرون من الإيمان فلو كان قائل هذا القول حين خالف السنة أحسن أن يعتل بشيء له وجه ولكنه يخالفها ويعتل بما لا وجه له كأنه يرى النصرانية واليهودية لا تكون إلا بإتيان الكنائس.
أرأيت إذا كانوا ببلاد لا كنائس فيها أما يصلون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم؟ قال وما وصفت من حكم الله
، ثم حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في المتلاعنين إن جاءت به المتلاعنة على النعت المكروه يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل له الأضعف من الذرائع كلها وأبطل الحد في التعريض بالدلالة.
فإن من الناس من يقول: إذا تشاتم الرجلان فقال أحدهما ما أبي بزان ولا أمي بزانية حد لأنه إذا قاله على المشاتمة فالأغلب إنما يريد به قذف أم الذي يشاتم وأبيه وإن قاله على غير المشاتمة لم أحده إذا قال لم أرد القذف مع إبطال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم التعريض في حديث الفزاري الذي ولدت امرأته غلاما أسود، فإن قال قائل فإن عمر حد في التعريض في مثل هذا قيل واستشار أصحابه فخالفه بعضهم ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة ويبطل مثله من قول الرجل لامرأته أنت طالق ألبتة لأن طالق إيقاع طلاق ظاهر والبتة تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة فعليه الظاهر والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر حتى لا يحكم عليه أبدا إلا بظاهر، ويجعل القول قوله في غير الظاهر قال وهذا يدل على أنه لا يفسد عقد أبدا إلا بالعقد نفسه لا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بأغلب، وكذلك كل شيء لا تفسده إلا بعقده ولا نفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال متى خالف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل كان أن يكون اليقين من البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يرد به من الظن ألا ترى أن رجلا لو
اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به كان الشراء حلالا وكانت النية بالقتل غير جائزة ولم يبطل بها البيع.
قال، وكذلك لو باع البائع سيفا من رجل يراه أنه يقتل به رجلا كان هكذا، وكذلك لو اشترى فرسا وهو يراها عقوقا فقال هو والله ما اشتريتها بمائة إلا لعقاقها وما تسوى لولا العقاق خمسين وقال البائع ما أردت منها العقاق لم يفسد البيع بهذه النية إذا انعقدت صفقة البيع على الفرس ولم يشترط فيها العقاق ولو اشترط فيها العقاق فسد البيع لأنه بيع ما لا يدري أيكون أو لا يكون ألا ترى لو أن رجلا شريفا نكح دنية أعجمية، أو شريفة نكحت دنيا أعجميا فتصادقا في الوجهين على أن لم ينو واحد منهما أن يثبتا على النكاح أكثر من ليلة لم يحرم النكاح بهذه النية لأن ظاهر عقدته كانت صحيحة إن شاء الزوج حبسها وإن شاء طلقها فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها ولا يفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها
ثم، سيما إذا كان توهما ضعيفا والله تعالى أعلم.
باب إبطال الاستحسان (قال الشافعي) : وكل ما وصفت مع ما أنا ذاكر وساكت عنه اكتفاء بما ذكرت منه عما لم أذكر من حكم الله ثم حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -
، ثم حكم المسلمين دليل على أن لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكما أو مفتيا أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم وذلك الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا لا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان إذ لم يكن الاستحسان واجبا ولا في واحد من هذه المعاني، فإن قال قائل فما يدل على أن لا يجوز أن يستحسن إذا لم يدخل الاستحسان في هذه المعاني مع ما ذكرت في كتابك هذا؟ قيل قال الله عز وجل {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: 36] فلم يختلف أهل العمل بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معاني السدى وقد أعلمه الله أنه لم يتركه سدى ورأى أن قال أقول بما شئت وادعى ما نزل القرآن بخلافه في هذا وفي السنن فخالف منهاج النبيين وعوام حكم جماعة من روى عنه من العالمين، فإن قال فأين ما ذكرت من القرآن ومنهاج النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين؟ قيل قال الله عز وجل لنبيه - عليه الصلاة والسلام - {اتبع ما أوحي إليك من ربك} [الأنعام: 106] وقال {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة: 49] الآية ثم جاءه قوم فسألوه عن أصحاب الكهف وغيرهم فقال أعلمكم غدا يعني أسأل جبريل ثم أعلمكم فأنزل الله عز وجل {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24] الآية وجاءته امرأة أوس بن الصامت تشكو إليه أوسا فلم يجبها حتى أنزل الله عز وجل {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] وجاءه العجلاني يقذف امرأته قال لم ينزل فيكما وانتظر الوحي فلما نزل دعاهما فلاعن بينهما كما أمره الله عز وجل وقال لنبيه {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وقال عز وجل {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26] الآية.
وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق ولا يكون الحق معلوما إلا عن الله نصا أو دلالة من الله فقد جعل الله الحق في كتابه ثم سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليس تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصا أو جملة، فإن قال وما النص والجملة؟ قيل النص ما حرم الله وأحل نصا حرم الأمهات والجدات والعمات والخالات ومن ذكر معهن وأباح من سواهن وحرم الميتة والدم
ولحم الخنزير والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأمر بالوضوء فقال {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} [المائدة: 6] الآية فكان مكتفى بالتنزيل في هذا عن الاستدلال فيما نزل فيه مع أشباه له، فإن قيل فما الجملة؟ قيل ما فرض الله من صلاة وزكاة وحج فدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الصلاة وعددها ووقتها والعمل فيها وكيف الزكاة وفي أي المال هي وفي أي وقت هي وكم قدرها وبين كيف الحج والعمل فيه وما يدخل فيه وما يخرج به منه (قال الشافعي) : فإن قيل فهل يقال لهذا كما قيل للأول قبل عن الله؟ قيل نعم، فإن قيل فمن أين قيل؟ قبل عن الله لكلامه جملة وقبل تفسيره عن الله بأن الله فرض طاعة نبيه فقال عز وجل {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] وقال {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] مع ما فرض من طاعة رسوله، فإن قيل فهذا مقبول عن الله كما وصفت فهل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوحي؟ قيل الله أعلم أخبرنا مسلم بن خالد عن طاوس قال الربيع هو عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي.
(قال الشافعي) : وما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط إلا بوحي فمن الوحي ما يتلى ومنه ما يكون وحيا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستن به أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فأحملوا في الطلب» (قال الشافعي) : وقد قيل ما لم يتل قرآنا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله فكان وحيا إليه وقيل جعل الله إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم أن يسن وأيهما كان فقد ألزمهما الله تعالى خلقه ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم وفرض عليهم اتباع سنته (قال الشافعي) : فإن قال قائل فما الحجة في قبول ما اجتمع الناس عليه؟ قيل لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلزوم جماعة المسلمين لم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا لزوم قول جماعتهم وكان معقولا أن جماعتهم لا تجهل كلها حكما لله ولا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الجهل لا يكون إلا في خاص وأما ما اجتمعوا عليه فلا يكون فيه الجهل فمن قبل قول جماعتهم فبدلالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل قولهم.
(قال الشافعي) : - رحمه الله - وإن قال قائل أرأيت ما لم يمض فيه كتاب ولا سنة ولا يوجد الناس اجتمعوا عليه فأمرت بأن يؤخذ قياسا على كتاب أو سنة أيقال لهذا قبل عن الله؟ قيل نعم قبلت جملته عن الله، فإن قيل ما جملته؟ قيل الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة، فإن قيل أفيوجد في الكتاب دليل عن ما وصفت؟ قيل نعم نسخ الله قبلة بيت المقدس وفرض على الناس التوجه إلى البيت فكان على من رأى البيت أن يتوجه إليه بالعيان وفرض الله على من غاب عنه البيت أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام لأن البيت في المسجد الحرام فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة والمتوجه قصد البيت ممن غاب عنه قابلين عن الله معا التوجه إليه وأحدهما على الإحاطة والآخر متوجه بدلالة فهو على إحاطة من صواب جملة ما كلف وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت ولم يكلف الإحاطة (قال الشافعي) : فإن قيل فيم يتوجه إلى البيت؟ قيل قال الله تعالى {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97] وقال {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16] وكانت العلامات جبالا يعرفون مواضعها من الأرض وشمسا وقمرا ونجما مما يعرفون من الفلك ورياحا يعرفون مهابها على الهواء تدل على قصد البيت الحرام فجعل عليهم طلب الدلائل على شطر المسجد الحرام فقال {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150] وكان معقولا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|