
كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
المجلد السابع
الحلقة (328)
صــــــــــ 348 الى صـــــــــــ 355
[باب القصاص في القتل]
قال أبو حنيفة لا قصاص على قاتل إلا قاتل قتل بسلاح وقال أهل المدينة القود بالسلاح فإذا قتل القاتل بشيء لا يعاش من مثله يقع موقع السلاح أو أشد فهو بمنزلة السلاح، وإذا ضربه فلم يزل يضربه ولم يقلع عنه حتى يجيء من ذلك شيء لا يعيش هو من مثله أو يقع موقع السلاح أو أشد فهذا أيضا فيه القصاص قال محمد بن الحسن من قال القصاص في السوط والعصا فقد ترك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشهور المعروف وخطبته يوم فتح مكة حين خطب «ألا إن قتيل الخطأ العمد مثل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها» فإذا كان ما تعمد به من عصا أو حجر فقتله به ففيه القصاص بطل هذا الحديث فلم يكن له معنى إلا أن قتيل الخطأ العمد هو ما تعمد ضربه بالسوط أو بالعصا أو نحو ذلك فأتى على نفسه فإن كان الأمر كما قال أهل المدينة فقد بطلت الدية في شبه العمد إذا كان كل شيء تعمدت به النفس من صغير أو كبير فقتلت به كان فيه القصاص فالدية في شبه العمد في أي شيء فرضت إنما هو خطأ في قول أهل المدينة أو عمد فشبه العمد الذي غلظت فيه الدية أي شيء هو في النفس ما ينبغي أن يكون لشبه العمد في النفس معنى في قولهم. أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من قتل في عمية أو رمية تكون بينهم بحجارة أو جلد بالسوط أو ضرب بعصا فهو خطأ عقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل» .
(قال الشافعي) : القتل ثلاثة وجوه قتل عمد وهو ما عمد المرء بالحديد الذي هو أوحى في الإتلاف وبما الأغلب أنه لا يعاش من مثله بكثرة الضرب وتتابعه أو عظم ما يضرب به مثل فضخ الرأس وما أشبهه فهذا كله عمد والخطأ كلما ضرب الرجل أو رمى يريد شيئا وأصاب غيره فسواء كان ذلك بحديد أو غيره وشبه العمد وهو ما عمد بالضرب الخفيف بغير الحديد مثل الضرب بالسوط أو العصا أو اليد فأتى على يد الضارب فهذا العمد في الفعل الخطأ في القتل وهو الذي تعرفه العامة بشبه العمد وفي هذا الدية مغلظة فيه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة ما بين ثنية إلى بازل عامها.
(قال الشافعي) أخبرنا عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» .
(قال الشافعي) : فاحتج محمد بن الحسن على من احتج عليه من أصحابنا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا وتركه فإن كانت فيه عليهم حجة فهي عليه؛ لأنه يزعم أن دية شبه العمد أرباع خمس وعشرون ابنة مخاض وخمس وعشرون ابنة لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة فأول ما يلزم محمدا في هذا أن زعم «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دية شبه العمد أربعون خلفة في بطونها أولادها» وهو لا يجعل خلفة واحدة فإن كان هذا ثابتا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد حدد خلافه وإن كان ليس بثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس ينصف من احتج بشيء إذا احتج عليه بمثله قال هو غير ثابت عنده وروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثل ما قلنا في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة من حديث سلام بن سليم ومن حديث آخر ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون خلفة وروى عن عمر بن الخطاب في شبه العمد مثل ما قلنا وخالف ما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما روى عن علي وعن عمر واحتج عليهم بخلافهم ما قد خالف هو بعضه فإن كانت له عليهم به حجة فهي عليه معهم.
[باب قتل الغيلة وغيرها وعفو الأولياء]
قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - من قتل رجلا عمدا قتل غيلة أو غير غيلة فذلك إلى أولياء القتيل فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وقال أهل المدينة إذا قتله قتل غيلة من غير ثائرة ولا عداوة فإنه يقتل وليس لولاة المقتول أن يعفوا عنه وذلك إلى السلطان يقتل فيه القاتل وقال محمد بن الحسن قول الله عز وجل أصدق من غيره قال الله عز وجل {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء: 33] وقال عز وجل {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} [البقرة: 178] إلى قوله {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] فلم يسم في ذلك قتل الغيلة ولا غيرها فمن قتل وليه فهو وليه في دمه دون السلطان إن شاء قتل وإن شاء عفا وليس إلى السلطان من ذلك شيء. أخبرنا أبو حنيفة - رحمه الله - عن حماد عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى برجل قد قتل عمدا فأمر بقتله فعفا بعض الأولياء فأمر بقتله فقال ابن مسعود - رضي الله عنه - كانت لهم النفس فلما عفا هذا أحيا النفس فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره قال فما ترى قال أرى أن تجعل الدية عليه في ماله وترفع حصة الذي عفا فقال عمر وأنا أرى ذلك. أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن النخعي قال: من عفا من ذي سهم فعفوه عفو فقد أجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء ولم يسألوا أقتل غيلة كان ذلك أو غيره.
(قال الشافعي) : كل من قتل في حرابة أو صحراء أو مصر أو مكابرة أو قتل غيلة على مال أو غيره أو قتل نائرة فالقصاص والعفو إلى الأولياء وليس إلى السلطان من ذلك شيء إلا الأدب إذا عفا الولي.
[باب الرجل يمسك الرجل للرجل حتى يقتله]
قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - في الرجل يمسك الرجل للرجل فيضربه بسلاح فيموت مكانه إنه لا قود على الممسك والقود على القاتل ولكن الممسك يوجع عقوبة ويستودع في السجن وقال أهل المدينة إن أمسكه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا به جميعا وقال محمد بن الحسن كيف يقتل الممسك ولم يقتل وإذا أمسكه وهو يرى أن لا يريد قتله فتقتلون الممسك قالوا لا إنما نقتله إذا ظن أنه يريد قتله قيل لهم فلا نرى القود في قولكم يجب على الممسك إلا بظنه والظن يخطئ ويصيب أرأيتم رجلا دل على رجل فقتله والذي دل يرى أنه سيقتله إن قدر عليه أيقتل الدال والقاتل جميعا وقد دل عليه في موضع لا يقدر على أن يتخلص منه ينبغي في قولكم أن تقتلوا الدال كما تقتلون الممسك أرأيتم رجلا أمر رجلا بقتل رجل فقتله أيقتل القاتل والآمر ينبغي في قولكم أن يقتلا جميعا أرأيتم رجلا حبس امرأة لرجل حتى زنى بها أيحدان جميعا أو يحد الذي فعل الفعل؟ فإن كانا محصنين أيرجمان جميعا؟ ينبغي لمن قال يقتل الممسك أن يقول يقام الحد عليهما جميعا أرأيتم رجلا سقى خمرا أيحدان جميعا حد الخمر أم يحد الشارب خاصة؟ أرأيتم رجلا أمر رجلا أن يفتري على رجل فافترى عليه أيحدان جميعا أم يحد القاذف خاصة؟ ينبغي في قولكم أن يحدا جميعا هذا ليس بشيء، لا يحد إلا الفاعل ولا يقتل إلا القاتل ولكن
على الآخر التعزير والحبس. أخبرنا إسماعيل بن عياش الحمصي قال أخبرنا عبد الملك بن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر فقال يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت.
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : حد الله الناس على الفعل نفسه وجعل فيه القود فقال تبارك وتعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178] وقال {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء: 33] فكان معروفا عند من خوطب بهذه الآية أن السلطان لولي المقتول على القاتل نفسه وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «من اعتبط مسلما يقتل فهو قود يده» وقال الله تبارك وتعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] وقال {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] ولم أجد أحدا من خلق الله تعالى يقتدى به حد أحدا قط على غير فعل نفسه أو قوله فلو أن رجلا حبس رجلا لرجل فقتله قتل به القاتل وعوقب الحابس ولا يجوز في حكم الله تعالى إذا قتلت القاتل بالقتل أن أقتل الحابس بالحبس والحبس غير القتل ومن قتل هذا فقد أحال حكم الله عز وجل لأن الله إذا قال {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178] فالقصاص أن يفعل بالمرء مثل ما فعل. وقلنا أرأيت الحابس إذا اقتصصنا منه والقصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل هل ثم قتل فيقتل به وإنما ثم حبس والحبس معصية وليس فيها قصاص فيعزر عليها وسواء حبسه ليقتله أو لا يقتله ولو كان الحبس يقوم مقام القتل إذا نوى الحابس أن يقتل المحبوس انبغى لو لم يقتل أن يقتله لأنه قد فعل الفعل الذي يقيمه مقام القتل مع النية ولكنه على خلاف ما قال صاحبنا وعلى ما قال محمد بن الحسن في الجملة وعامة ما أدخل محمد على صاحبنا يدخل وأكثر منه ولكن محمد لا يسلم من أن يغفل في موضع آخر فيدخل في أكثر مما عاب على صاحبنا فيكون جميع ما احتج به على صاحبنا في هذا الموضع حجة عليه فإن قال قائل: وما ذلك؟ قيل يزعم أن قوما لو قطعوا الطريق فقتلوا ولهم قوم ردء حيث يسمعون الصوت وإن كانوا لا يرون ما فعل هؤلاء من القتل قتل القاتلون بقتلهم والرادون بأن هؤلاء قتلوا بقوتهم.
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : فقلت لمحمد بن الحسن - رحمه الله - أو رويت في هذا شيئا؟ فلم يذكر رواية فقلت له أرأيت رجلا شديدا أراد رجل ضعيف أن يقتله فقال لرجل شديد لولا ضعفي قتلت فلانا فقال أنا أكتفه لك فكتفه وجلس على صدره ورفع لحيته حتى أبرز مذبحه وأعطى الضعيف سكينا فذبحه فزعمت أنك تقتل الذابح لأنه هو القاتل ولا تلتفت إلى معونة هذا الذي كان سببه لأن السبب غير الفعل وإنما يؤاخذ الله الناس على الفعل أكان هذا أعون على قتل هذا أو الردء على قتل من مر في الطريق؟ ثم تقول في الردء لو كانوا حيث لا يسمعون الصوت وإن كانوا يرون القوم ويعززونهم ويقوونهم لم يكن عليهم شيء إلا التعزير فمن حد لك حيث يسمعون الصوت قال فصاحبكم يقول معي مثل هذا في الردء يقتلون قلت فتقوم لك بهذا حجة على غيرك إن كان قولك لا يكون حجة أفيكون قول صاحبنا الذي تستدرك عليه مثل هذا حجة؟ قال فلا تقله قلت لا ولم أجد أحدا يعقل يقوله ومن قاله خرج من حكم الكتاب والقياس والمعقول ولزمه كثير مما احتججت به فلو كنت إذا احتججت في شيء أو عبته سلمت منه كان.
(قال الشافعي) : وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت وهو لا يحبسه حتى يموت فخالف ما احتج به.
[باب القود بين الرجال والنساء]
قال أبو حنيفة لا قود بين الرجال والنساء إلا في النفس. وكذلك أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم وقال أهل المدينة نفس المرأة بنفس الرجل وجرحها بجرحه قال محمد بن الحسن أرأيتم المرأة في العقل أليست على النصف من دية الرجل؟ قالوا بلى: قيل لهم فكيف قطعت يده بيدها ويده ضعف يدها في العقل؟ قالوا أنت تقول مثل هذا أنت تقتله بالمرأة ودية المرأة على النصف من دية الرجل قيل لهم ليست النفس كغيرها ألا ترى أن عشرة لو قتلوا رجلا ضربوه بأسيافهم حتى قتلوا به جميعا. ولو أن عشرة قطعوا يد رجل واحد لم تقطع أيديهم فلذلك اختلفت النفس والجراح. فإن قلتم إنا نقطع يدي رجلين بيد رجل فأخبرونا عن رجلين قطعا يد رجل جميعا جزها أحدهما من أعلاها والآخر من أسفلها حتى التقت الحديدتان في النصف منها أتقطع يد كل واحد منهما وإنما قطع نصف يده؟ ليس هذا مما ينبغي أن يخفى على أحد.
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : إذا قتل الرجل المرأة قتل بها وإذا قطع يدها قطعت يده بيدها فإذا كانت النفس التي هي الأكثر بالنفس فالذي هو أقل أولى أن يكون بما هو أقل وليس القصاص من العقل بسبيل. ألا ترى أن من قتل الرجل بالمرأة فقد يقتله بها وعقلها نصف عقله. قال محمد بن الحسن يقتل الحر بالعبد ودية الحر عنده ألف دينار ولعل دية العبد خمسة دنانير فلو كان تفاوت الدية يمنع القتل لم يقتل رجل بامرأة ولا حر بعبد لأنه لا يكون في العبد عنده إلا أقل من دية حر ولا عبد بعبد إذا كان القاتل أكثر قيمة من المقتول. فإن زعم أن القصاص في النفس ليس من معنى العقل بسبيل فكذلك ينبغي له أن يقول في الجراح لأن الله تبارك وتعالى ذكرها ذكرا واحدا فلم يفرق بينهما في هذا الموضع الذي حكم بها فيه فقال جل ثناؤه {النفس بالنفس} [المائدة: 45] إلى {والجروح قصاص} [المائدة: 45] فلم يوجب في النفس شيئا من القود إلا أوجب فيما سمى مثله. فإذا زعم محمد أن من حجته أن عشرة يقتلون رجلا واحدا فيقتلون به ولو قطعوا يده لم تقطع أيديهم فلو قالوا معه قوله لم تكن عليهم حجة بل كانت عليه بقوله وذلك أنهم يقدرون على أن يقتلوه فإذا جعلت العشرة كل واحد منهم يقتل كأنه قاتل نفس على الكمال فكذلك فاجعل عليهم عشر ديات إذا قتلوا إنسانا فإن قلت معنى القصاص غير معنى الدية قلنا وكذلك في النفس أيضا فإن قلت نعم قالوا لك لا نسمع ما احتججت به إلا عليك مع أنهم يقطعون أو من قطع منهم يدين بيد وإذا يدين بيد فإنما يشبه أن يكونوا قاسوها على النفس فقالوا إذا أفاتا شيئا لا يرجع كإفاتة النفس التي لا ترجع قضينا عليهما باشتراكهما في الإفاتة قضاء كل من فعل فعلا على الانفراد.
[باب القصاص في كسر اليد والرجل]
قال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا قصاص على أحد كسر يدا أو رجلا لأنه عظم ولا قود في عظم إلا السن وقال أهل المدينة من كسر يدا أو رجلا أقيد منه ولا يعقل ولكنه لا يقاد حتى يبرأ جرح صاحبه وقال محمد بن الحسن الآثار في أنه لا قود في عظم أكثر من ذلك. أخبرنا محمد بن أبان القرشي عن حماد عن إبراهيم قال ليس في عظم قصاص إلا السن وقال أبو حنيفة لا قصاص في شيء من ذلك وفي اليد نصف الدية في ماله وفي الكسر حكومة عدل في ماله ولم أكن لأضع الحديد في غير
الموضع الذي وضعها فيه القاطع ولا أقتص من عظم فلذلك جعلت في ذلك الدية قال وقد اجتمعنا نحن وأهل المدينة أنه لا قود في مأمومة فينبغي لمن رأى القود في العظام أن يرى ذلك في المأمومة لأنها عظم كسر فوصل إلى الدماغ ولم يصب الدماغ وينبغي له أيضا أن يجعل في المنقلة القود وإن اقتص من عظم اليد والرجل ولم يقتص من كسر عظم الرأس فقد ترك قوله وليس بينهما افتراق وينبغي له أيضا أن يقتص من الهاشمة وهي الشجة التي هشمت عظم الرأس فإن لم يقتص من هذا فقد ترك قوله في كسر اليد والرجل وقد قال مالك بن أنس - رضي الله عنه - ذات يوم كنا لا نقص من الأصابع حتى قص منها عبد العزيز بن المطلب قاض عليهم فقصصنا منها فليس يعدل أهل المدينة في الأشياء بما عمل به عامل في بلادهم.
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : معقول في كتاب الله عز وجل في القصاص إذ قال جل وعلا {النفس بالنفس} [المائدة: 45] الآية إنما هو إفاتة شيء بشيء فهذا سواء وفي قوله {والجروح قصاص} [المائدة: 45] إنما هو أن يفعل بالجارح مثل ما فعل بالمجروح فلا نقص من واحد إلا في شيء يفات من الذي أفات مثل عين وسن وأذن ولسان وغير هذا مما يفات فهذا يفات إفاتة النفس أو جرح فيؤخذ من الجارح كما أخذ من المجروح فإذا كان على الابتداء يعلم أنه يقدر على أنه يقص منه فلا يزاد فيه ولا ينقص اقتص منه وإذا كان لا يقدر على ذلك فلا قصاص فيه قال وأولى الأشياء أن لا يقص منه كسر اليد والرجل لمعنيين أحدهما أن دون عظمهما حائلا من جلد وعروق ولحم وعصب ممنوع إلا بما وجب عليه فلو استبقينا أن نكسر عظمه كما كسر عظمه لا نزيد فيه ولا ننقص فعلنا ولكنا لا نصل إلى العظم حتى ننال مما دونه مما وصفت مما لا يعرف قدره مما هو أكثر أو أقل مما نال من غيره والثاني أن لا نقدر على أن يكون كسر ككسر أبدا فهو ممنوع من الوجهين والمأمومة والمنقلة والهاشمة أولى أن يكون فيها قصاص من حيث إن من جناها فقد شق بها اللحم والجلد فنشق اللحم والجلد كما شقه ونهشم العظم أو ننقله أو نؤمه فنخرقه، فإن قال لا يقدر على العظم وهو بارز فهو لم يتعذر دونه فكذلك لا يقدر على العظم دونه غيره.
[كتاب سير الأوزاعي]
(أخبرنا الربيع بن سليمان) قال أخبرنا الشافعي محمد بن إدريس قال: قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو من المشركين فلا يقتسمونها حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحوزوها وقال الأوزاعي لم يقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة أصاب فيها مغنما إلا خمسه وقسمه قبل أن يقفل من ذلك غزوة بني المصطلق وهوازن ويوم حنين وخيبر وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر حين افتتحها صفية وقتل كنانة بن الربيع وأعطى أخيه دحية ثم لم يزل المسلمون على ذلك بعده وعليه جيوشهم في أرض الروم في خلافة عمر بن الخطاب وخلافة عثمان - رضي الله عنهما - في البر والبحر ثم هلم جرا وفي أرض الشرك حين هاجت الفتنة وقتل الوليد قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - أما غزوة بني المصطلق فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح بلادهم وظهر عليهم فصارت بلادهم دار الإسلام وبعث الوليد بن عقبة فأخذ صدقاتهم وعلى هذه الحال كانت خيبر حين افتتحها وصارت دار الإسلام وعاملهم على النخل وعلى هذا كانت حنين وهوازن ولم يقسم فيء حنين إلا بعد منصرفه عن الطائف حين سأله الناس وهم بالجعرانة أن يقسمه بينهم.
فإذا ظهر الإمام على دار وأثخن أهلها فيجري حكمه عليها فلا بأس أن يقسم الغنيمة فيها قبل أن يخرج وهذا قول أبي حنيفة أيضا وإن كان
مغيرا فيها لم يظهر عليها ولم يجر حكمه فإنا نكره أن يقسم فيها غنيمة أو فيئا من قبل أنه لم يحرزه ومن قبل أنه لو دخل جيش من جيوش المسلمين مددا لهم شاركوهم في تلك الغنيمة ومن قبل أن المشركين لو استنقذوا ما في أيديهم ثم غنمه جيش آخر من جيوش المسلمين بعد ذلك لم يرد على الأولين منه شيء وأما ما ذكر عن المسلمين أنهم لم يزالوا يقسمون مغانمهم في خلافة عمر وعثمان - رضي الله تعالى عنهما - في أرض الحرب فإن هذا ليس يقبل إلا عن الرجال الثقات فعمن هذا الحديث وعمن ذكره وشهده وعمن روى؟ ونقول أيضا إذا قسم الإمام في دار الحرب فقسمه جائز فإن لم يكن معه حمولة يحمل عليها المغنم أو احتاج المسلمون إليها أو كانت علة فقسم لها المغنم ورأى أن ذلك أفضل فهو مستقيم جائز غير أن أحب ذلك إلينا وأفضله أن لا يقسم شيئا من ذلك إذا لم يكن به إليه حاجة حتى يخرجه إلى دار الإسلام. قال أبو يوسف عن مجاهد بن سعيد عن الشعبي عن عمر أنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص إني قد أمددتك بقوم فمن أتاك منهم قبل تنفق القتلى فأشركه في الغنيمة.
قال أبو يوسف وهذا يعلم أنهم لم يحرزوا ذلك في أرض الحرب قال محمد بن إسحاق سئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنزلت {يسألونك عن الأنفال} [الأنفال: 1] الآية انتزعه منا حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فجعله الله عز وجل إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجعله حيث شاء. قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - وذلك عندنا لأنهم لم يحرزوه ويخرجوه إلى دار الإسلام الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم غنائم بدر إلا من بعد مقدمه المدينة والدليل على ذلك أنه ضرب لعثمان وطلحة في ذلك بسهم سهم فقالا وأجرنا فقال وأجركما ولم يشهدا وقعة بدر» أشياخنا عن الزهري ومكحول «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقسم غنيمة في دار الحرب» قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - وأهل الحجاز يقضون بالقضاء فيقال لهم عمن؟ فيقولون بهذا جرت السنة وعسى أن يكون قضى به عامل السوق أو عامل ما من الجهات وقول الأوزاعي على هذا كانت المقاسم في زمان عمر وعثمان - رضي الله عنهما - وهلم جرا غير مقبول عندنا الكلبي من حديث رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه بعث عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة فأصاب هنالك عمرو بن الحضرمي وأصاب أسيرا أو اثنين وأصاب ما كان معهم من أدم وزيت وتجارة من تجارة أهل الطائف فقدم بذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقسم ذلك عبد الله بن جحش حتى قدم المدينة وأنزل الله عز وجل في ذلك {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} [البقرة: 217] حتى فرغ من الآية فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغنم وخمسه» محمد بن إسحاق عن مكحول عن الحارث بن معاوية قال قيل لمعاذ بن جبل إن شرحبيل ابن حسنة باع غنما وبقرا أصابها بقنسرين نحلها الناس وقد كان الناس يأكلون ما أصابوا من المغنم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يبيعونه فقال معاذ لم شرحبيل إذا لم يكن المسلمون محتاجين إلى لحومها فقووا على خلتها فليبيعوها فليكن ثمنها في الغنيمة والخمس وإن كان المسلمون محتاجين إلى لحومها فلتقسم عليهم فيأكلونها «فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أموال أهل خيبر وفيها الغنم والبقر فقسمها وأخذ الخمس وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم الناس ما أصابوا من الغنم والبقر إذا كانوا محتاجين» .
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : القول ما قال الأوزاعي وما احتج به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروف عند أهل المغازي لا
يختلفون في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم غير مغنم في بلاد الحرب فأما ما احتج به أبو يوسف من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على بني المصطلق وصارت دارهم دار إسلام فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغار عليهم وهم غارون في نعمهم فقتلهم وسباهم وقسم أموالهم وسبيهم في دارهم سنة خمس وإنما أسلموا بعدها بزمان وإنما بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدقا سنة عشر وقد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم ودارهم دار حرب وأما خيبر فما علمته كان فيها مسلم واحد وما صالح إلا اليهود وهم على دينهم إن ما حول خيبر كله دار حرب وما علمت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فقلت من موضعها حتى تقسم ما ظهرت عليه ولو كان الأمر كما قال لكان قد أجاز أن يقسم الوالي ببلاد الحرب فدخل فيما عاب وأما حديث مجالد عن الشعبي عن عمر أنه قال من جاءك منهم قبل تنفق القتلى فأسهم له فهو إن لم يكن ثابتا داخل فيما عاب على الأوزاعي فإنه عاب عليه غير الثقات المعروفين ما علمت الأوزاعي قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا إلا ما هو معروف، ولقد احتج على الأوزاعي بحديث رجال وهو يرغب عن الرواية عنهم فإن كان حديث مجالد ثابتا فهو يخالفه هو يزعم أن المدد إذا جاءه ولما يخرج المسلمون من بلاد الحرب والقتلى نظراؤهم لم ينفقوا ولا ينفقون بعد ذلك بأيام لم يكن لهم سهم مع أهل الغنيمة فلو كانت الغنيمة عنده إنما تكون للأولين دون المدد إذا نفقت القتلى انبغى أن يعطي المدد ما بينهم وبين أن تنفق القتلى قال وبلغني عنه أنه قال وإن قسم ببلاد الحرب كان جائزا وهذا ترك لقوله ودخول فيما عاب على الأوزاعي وبلغني عنه أنه قال وإن قسم ببلاد الحرب ثم جاء المدد قبل تنفق القتلى لم يكن للمدد شيء وهذا يناقض قوله وحجته عليه بحديث عن عمر لا يأخذ به ويدعه من كل وجه وقد بلغني عنه أنه قال وإن نفقت القتلى وهم في بلاد الحرب لم يخرجوا منها ولم يقتسموا شركهم المدد وكل هذا القول خروج مما احتج به.
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : وإنما الغنيمة لمن شهد الوقعة لا للمدد وكذلك روى عن أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - وأما ما احتج به من «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم غنائم بدر حتى ورد المدينة» وما ثبت من الحديث بأن قال والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم لعثمان وطلحة - رضي الله تعالى عنهما - ولم يشهدا بدرا فإن كان كما قاله فهو يخالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه لأنه يزعم أن ليس للإمام أن يعطي أحدا لم يشهد الوقعة وليس كما قال غنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم بدر بسير شعب من شعاب الصحراء قريب من بدر وكانت غنائم بدر كما يروي عبادة بن الصامت غنمها المسلمون قبل أن تنزل الآية في سورة الأنفال فلما تشاحوا عليها انتزعها الله من أيديهم بقوله عز وجل {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: 1] فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها خالصة وقسمها بينهم وأدخل معهم ثمانية نفر لم يشهدوا الوقعة من المهاجرين والأنصار وهم بالمدينة وإنما أعطاهم من ماله وإنما نزلت {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 41] بعد غنيمة بدر ولم يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم لخلق لم يشهدوا الوقعة بعد نزول الآية ومن أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المؤلفة وغيرهم فإنما من ماله أعطاهم لا من شيء من أربعة الأخماس وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش وابن الحضرمي فذلك قبل بدر وقبل نزول الآية وكانت وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام فوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} [البقرة: 217] وليس مما خالفه فيه الأوزاعي بسبيل.
[أخذ السلاح]
قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب ثم يرده في المغنم وقال الأوزاعي يقاتل ما كان الناس في معمعة القتال ولا ينتظر برده الفراغ من الحرب فيعرضه للهلاك وانكسار سنه من طول مكثه في دار الحرب. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إياك إياك الغلول أن تركب الدابة حتى يحسر قبل أن يؤدى إلى المغنم أو تلبس الثوب حتى يخلق قبل أن ترده إلى المغنم» قال أبو يوسف قد بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال الأوزاعي ولحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاني ووجوه تفسير لا يفهمه ولا يبصره إلا من أعانه الله تعالى عليه فهذا الحديث عندنا على من يفعل ذلك وهو عنه غني يبقي بذلك على دابته وعلى ثوبه أو يأخذ ذلك يريد به الحاجة فأما رجل مسلم في دار الحرب ليس معه دابة وليس مع المسلمين فضل يحملونه إلا دواب الغنيمة ولا يستطيع أن يمشي فإذا كان هذا فلا يحل للمسلمين تركه ولا بأس بتركيبه إن شاءوا وإن كرهوا وكذلك هذه الحال في السلاح. والحال في السلاح أبين وأوضح ألا ترى أن قوما من المسلمين لو تكسرت سيوفهم أو ذهبت ولهم غناء في المسلمين أنه لا بأس أن يأخذوا سيوفا من الغنيمة فيقاتلوا بها ما داموا في الحرب أرأيت إن لم يحتاجوا إليها في معمعة القتال واحتاجوا إليها بعد ذلك بيومين وأغار عليهم العدو يقومون هكذا في وجه العدو بغير سلاح؟ أرأيت لو كان المسلمون كلهم على حالهم كيف يصنعون يستأسرون؟ هذا الرأي توهين لمكيدة المسلمين ولجنودهم وكيف يحل هذا ما دام في المعمعة ويحرم بعد ذلك وقد بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثقات حديث مسند عن الرجال المعروفين بالفقه المأمونين عليه أنه كان يغنم الغنيمة فيها الطعام فيأكل أصحابه منها إذا احتاج الرجل شيئا يأخذه وحاجة الناس إلى السلاح في دار الحرب وإلى الدواب وإلى الثياب أشد من حاجتهم إلى الطعام. أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن أبي المجالد «عن ابن أبي أوفى قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر يأتي أحدنا إلى الطعام من الغنيمة فيأخذ حاجته» .
(قال الشافعي) : كان أبو حنيفة إنما جعل السلاح والثياب والدواب قياسا على الطعام من غني يجد ما يشري به طعاما أو فقير لا يجد ما يشري به أحل لهم أكله، وأكله استهلاك له فهو إن أجاز لمن يجد ما يشتري به طعاما أن يأكل الطعام في بلاد العدو فقاس السلاح والدواب عليه جعل له أن يستهلك الطعام ويتفكه بركوب الدواب كما يتفكه بالطعام فيأكل فالوذا ويأكل السمن والعسل وإن اجتزأ بالخبز اليابس بالملح والجبن واللبن وأن يبلغ بالدواب استهلاكها ويأخذ السلاح من بلاد العدو فيتلذذ بالضرب بها غير العدو وكما يتلذذ بالطعام لغير الجوع وكان يلزمه إذا خرج بالدواب والسلاح من بلاد العدو أن يجعله ملكا له في قول من قال يكون ما بقي من الطعام ملكا له ولا أحسب من الناس أحدا يجيز هذا وكان له بيع سلاحه ودوابه وأخذ سلاح ودواب كما تكون له الصدقة بطعامه وهبته وأكل الطعام من بلاد العدو فقد كان كثير من الناس على هذا ويصنعون مثله في دوابهم وسلاحهم وثيابهم. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لو نزعت سهما من جبل من بلاد العدو ما كنت بأحق به من أخيك» وما أعلم ما قال الأوزاعي إلا موافقا للسنة معقولا لأنه يحل في حال الضرورة الشيء، فإذا انقضت الضرورة لم يحل وما علمت قول أبي حنيفة قياسا ولا خبرا.
