الأسئلة
من آداب طالب العلم
السؤال في ضابط العقد اللازم والعقد الجائز، هل يمكننا أن نقول: إن العقد اللازم لا يصح إلا على مدة معلومة بخلاف الجائز؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمدة المعلومة قد تكون واردة في كثير من العقود، لأن عقد البيع لازم، وعقد الإجارة لازم ويحتاج إلى مدة معلومة، ونحوه من العقود المبنية على الآجال، لكن هذا الضابط ضعيف، لأنه غير جامع، والسبب في ذلك أنه حينما تقول: إن العقود اللازمة هي العقود التي تحتاج إلى مدة معينة أو تؤقت بمدة معينة، فهذا يصدق على جزء من العقود؛ لأنه ليس كل العقود تقوم على المدد، والعقود التي تقوم على المدد هي الإجارات مثل السكن ونحو ذلك، والعارية تقوم على مدة لكنها ليست بلازمة، وأيضا الإجارات جزء منها يقوم على المدة، وإلا قد تتأقت بالعمل مثل بناء البيوت وتشييدها، وبناء الجدران ونحو ذلك، فهذه لا ترجع إلى مدد، وهي لازمة.
فإذا: لو ضبطت العقد اللازم بكون مدته معلومة فهذا ضابط فيه قصور، ويسعك ما يسع علماءك وأئمتك.
وفي الحقيقة أنبه على مسألة: من الخبرة الضعيفة في الفقه، ومما قرأناه على مشايخنا وعلمائنا، والذي أدركنا عليه أهل العلم، أن الأفضل للإنسان في مسائل طرقت وضبطت للعلماء أن يأخذ عمن تقدم، وأن يأخذ عن الأئمة، وأن يعلم أنهم قد كفوه المئونة فيما بحث ومحص، لأن هؤلاء العلماء قل أن يتركوا جزئية متصلة بالأمر إلا وقد بينوها.
فكون الإنسان يأتي في القرن الرابع عشر لكي يضع ضابطا أو قاعدة -وما أكثر القواعد اليوم- فيه نظر، يأتينا طالب علم يقول: القاعدة كذا، بل حتى تجد بعض طلاب العلم أو بعض المعاصرين من طلاب العلم ونحوهم يأتي ويستدرك في تعاريف دقيقة جدا مضت عليها قرون، وعقول العلماء مضت على هذا التعريف أو الضابط، ويأتي يضيف قيدا من أوضح الواضحات.
ففي العبادات يأتي يقول: وهذا التعريف قاصر يحتاج زيادة (بنية التقرب إلى الله) ، العبادة أصلا ما سميت عبادة إلا للتقرب بها إلى الله، فالعلماء الأولون تركوا مثل هذه الضوابط للعلم بها بداهة.
ثقوا ثقة تامة أنه قل أن توجد لهم ثغرة، نحن لا نقول إنهم معصومون، لكن مر أكثر من عشرة قرون وأذهان الأئمة الذين توفر لهم من الإتقان والضبط ما لم يتوفر لغيرهم، أولا: صفاء ذلك الزمان، ثانيا: إتقان العلم وتحصيله على الأئمة الكبار الذين وضع الله لهم القبول حتى جاء سواد الأمة الأعظم تبعا لهم، ثم هذه المؤلفات تدرس في المساجد والمدارس والبيوت، وتدرس من الأشخاص والجماعات، ويؤلف عليها المؤلفات من الشروح والحواشي، والتقريرات أكثر من عشرة قرون وأذهان العلماء تعصر في العبارة، الآن في درس الفقه نحن نجلس بين المغرب والعشاء، سلفنا رحمة الله عليهم كانوا يجلسون من بعد الفجر إلى أذان الظهر، وهم في شرح سطر واحد.
أولا: شرح الغريب، يسأل كل طالب عما ضبط من هذا الغريب، ثم يفرع هذا الشرح ويبين معناه، ثم تذكر الأدلة للأحكام، ثم يبين وجه دلالتها، ثم يبين هل المسألة خلافية أو إجماعية، ثم ثم حتى يؤذن الظهر، ونحن ما شاء الله ندرس بين المغرب والعشاء، ونصبح أئمة.
هذا هو واقعنا، ووالله أقولها محبة للخير لكم، نحن لا نقول: إن العلماء معصومون، صحيح إذا خالف العالم النص أو الحجة، فالحجة لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا ينبغي لأحد أن يستهين بعلم العلماء، ولا يتزبب طالب العلم قبل أن يتحصرم، كما يقال في المثل: (تزبب قبل أن يتحصرم) ، وهو مثل لمن يضع نفسه في الشيء قبل أن يكمل فهمه وضبطه، فمن كمل فهمه وعلمه عرف قدر العلماء، وكنت أعرف دقة العالم من تحفظه في نقد غيره، وأعرف تهور من يكتب أو يؤلف في جرأته على تخطئة الغير: وكم من عائب قولا سليما وآفته من الفهم السقيم ووالله إنك لترى الثغرات في مثل هذا النقد بسبب عدم وعي كلام العلماء المتقدمين، وعدم الضبط والتمحيص، ولذلك نقول: وضع القواعد ليس بالأمر السهل، فالقواعد كليات، وغالبا ما توضع القاعدة تحت أصول عديدة من الكتاب والسنة.
ثم ينبغي في القاعدة أول شيء أن تفهم الأصل الذي تريد أن تقعد له، فمثلا: اللزوم، ما معنى لازم؟ وما ضده؟ الذي هو الجواز، وهل هناك قسيم بينهما؟ أي: ما يجمع بين الجواز واللزوم، فبعد ما تفهم النظائر الثلاث تنظر في حقيقة اللزوم، وأصله، ودليله، حتى تفهم مقصود الشرع فتضع الشيء على أساس: تعرف حقيقته وتتصوره، وتتصور أضداده، وتعرف دليله الشرعي، ومستنده الذي أخذ منه، هل هذا اللزوم يجعله الشرع خاصا أو عاما؟ أعني: هل اللزوم خاص بعقد معين أم أنه يشمل عقودا؟ ثم إذا كان عاما هل هو عام في جنس معين مثل العقود المالية أو عام في العقود المالية وغيرها؟ فالنكاح عقد لازم، وعليه فاللزوم لا يختص بالعقود المالية، بل يشمل الأنكحة مثلا، فتنظر إلى لزومه من جهة الأصل العام.
بعد ما تفهم هذا كله تأتي وتنظر كيفية وضع الضابط، فيحتاج أولا إلى عبارة دقيقة جدا، يمكن من خلال هذه العبارة بإضافتها إلى غيرها أن تكون جامعة لهذا اللزوم مانعة من دخول غيره.
في الحقيقة يا إخوان! القاعدة شيء، والضابط شيء؛ القاعدة قضية كلية لا تختص بباب، كأن تقول: (المشقة تجلب التيسير) .
فتستخدمها في الطهارة، فتقول: تيمم إذا كنت عاجزا عن الغسل.
وتستخدمها في الصلاة نفسها، فتصلي قاعدا إذا لم تستطع القيام، وتستخدمها في كثير من العقود والمعاملات.
فهذه قاعدة؛ لأنها كلية لا تختص بباب، ولا تختص بمسألة، لكن الضابط يختص بباب أو يختص بمسألة.
فتقول مثلا: الكفارة عند الحنابلة والشافعية في الجماع تختص برمضان، وفي حال القتل العمد على تفصيل، هذا الضابط تستفيد منه لو سألك سائل وقال: جامع الرجل في قضاء رمضان ما كفارته؟ فتقول: الضابط عندي أن الكفارة لا تجب إلا في الجماع في نهار رمضان، فلا يأخذ القضاء حكم الأداء في هذه المسألة، فهذا ضابط، لكنه خاص، ولذلك فالضوابط تحتاج إلى نوع من الدقة في نفس الباب.
فتدرس الباب مثلا وتقول: الحنفية والمالكية يقولون: الكفارة وجبت عندنا في نهار رمضان لحرمة الشهر، ولانتهاك الواجب.
وإذا نظرت إلى وجود الانتهاك تجد أن الحنابلة يشترطون الجماع في نهار رمضان، فلو جامع في غير نهار رمضان في صيام واجب مثل صيام الكفارات أو قضاء رمضان، أو نذر جامع فيه فتقول: لا كفارة، لأن الكفارة عندهم لا يقاس عليها وتختص بنهار رمضان.
لكن الحنفية والمالكية عندهم الأصل أن الذي جامع في رمضان قد انتهك حرمة صوم واجب، فكل من جامع في صيام واجب فعليه كفارة، فصار الضابط عندهم الصيام الواجب، فلم يختص برمضان ولم يتقيد به، وإنما شمل كل صيام لأن هذا ضابط لهم يضبطون به الحكم.
فإذا الضوابط لها منهج، والقواعد لها منهج.
ولذلك يا طلاب العلم! افقهوا نصوص الكتاب والسنة، وافهموا ما قاله العلماء في هذه المتون دون تعصب إذا صح الدليل بخلاف هذا القول، وافهموا كلام العلماء واضبطوه، وسيفتح الله عليكم من واسع فضله، وستجدون إن شاء الله من أبواب الخير التي يمكن أن يبرز بها طالب العلم الشيء الكثير، فيفتح الله لك من أبواب رحمته، ونشهد لله من واسع فضله وكرمه أنه لا يخذل من أراد وجهه في هذا العلم أبدا.
مثلما فتح الله على الأولين رحمة الله عليهم في التأصيل والتقعيد سيفتح الله على من بعدهم، ومن بعدهم إلى قيام الساعة، كما قال ابن المنير رحمه الله: وفضل الله عظيم، ومن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعا، والليالي حبالى يلدن كل غريب.
فالله عز وجل فضله عظيم، فقد يكون الأولون يقعدون كذا، ثم يفتح الله عليك في الفهم والتحصيل، ولكن بالإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل والبعد عن الغرور، وإياك أن تضع نفسك في موضع تستدرك فيه على العلماء حتى تنظر فيما أنت فيه من الأهلية، وتنظر إلى شهادة أهل العلم أنك أهل أن تقعد أو تنظر، أما اليوم فاقرأ وتعلم، ومثلما قالوا: يتعلم الإنسان ثم يتكلم أول شيء يأخذ الإنسان ويتلقى، ولا يكتب ولا يؤلف، فإذا حرص على ذلك فإن الله يبارك له.
وبالمناسبة أن التقعيد والتفريع ينبغي لطالب العلم أن لا يستعجل فيه، كذلك التدريس والفتوى والحرص على الظهور قبل الضبط، وكنا نرى من بعض الأقران والزملاء من يحرص على أن يفتي بمجرد ما يقرأ مسألة ليبرز، فكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول له: لا تستعجل، واترك الفتوى في زمانك لمن هو أهل لها، فحري بك إن شاء الله إن وضع الله لك قبولا في الفتوى أن يرجع الناس إليك، وأن لا يزاحمك الغير كما لم تزاحم من هو أهل للفتوى وأحق بها منك، انتظر وأتقن واضبط، ثم بعد ذلك تفرغ للتدريس والتعليم.
وهذا مما أحببت أن أنبه إليه بمناسبة هذا السؤال، فبعض طلاب العلم -أصلحهم الله- بمجرد ما يقرأ كتاب الطهارة أو كتاب الصلاة أخرج المذكرة وعلق عليها، وأضاف ونقح، وزاد! فهذا كله من الآفات التي ينبغي لطالب العلم أن يتجنبها، وأن يحفظ حقوق أهل العلم، لا يختص هذا بعالم، إنما يشمل كل أهل العلم المتقدمين والمتأخرين.
وينبغي للإنسان أن يكون حريصا على إرادة وجه الله؛ لأن العلم فيه فتنة، والشيطان حريص، ومما ذكره العلماء أن الدين يفسده نصف فقيه وعابد جاهل.
فنصف العالم عنده علم، لكنه لم يكتمل علمه، فيلفق، فهو ما بين الهلاك والنجاة، فتارة يأخذ قولا صحيحا فيعجب الناس من صحته وصوابه، ثم يوردهم المهالك، فإذا قال لهم أحد: إنه أخطأ في هذه المسألة، قالوا: لا، قد أصاب في غيرها فهو من أهل العلم.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن لا يستعجل، ونصف العالم ونصف الفقيه يقع في أثناء الطلب، ولذلك كان من الحكم المشهورة: (أول العلم طفرة وهزة، وآخره خشية وانكسار) .
أول العلم فيه غرور، فإذا ثبت الله قدم صاحبه ومشى فيه حتى أتمه، وحرص على أنه لا يخرج ولا يكتب ولا يتصدر للناس إلا على أرض ثابتة، وبينة من ربه، فإ
حكم الضمان إذا تلفت الثمرة بتفريط أو آفة سماوية
السؤال إذا فرط العامل وتلفت الثمرة، أو تلفت بآفة سماوية، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فإن العامل كما نص العلماء في المساقاة أمين، وبناء على ذلك لا يضمن إلا إذا فرط، فإذا فرط في الثمرة فإنه يضمن.
مثال ذلك إذا تشقق النخل أطلع وبدا الطلع فيه، هناك نخل يحتاج إلى أن تبكير في تأبيره، ونخل يحتاج إلى تأخير، فهناك أنواع بمجرد ما يخرج الكوز على النخلة حتى ولو لم يتشقق تأتي وتشقه وتؤبره، وهذا ما يسمى بالشره من النخل، وإذا لم تفعل ذلك فانتظرت إلى أن تتشقق تخرج الثمرة صغيرة، ولربما لا تخرج الثمرة.
والعكس فهناك نوع آخر ينتظر حتى يتشقق، ثم ينقسم إلى أنواع، فمنه نوع بمجرد ما يتشقق تؤبره، ومنه ما تنتظره يومين، ومنه ما تنتظره ثلاثة أيام، ومنه ما تنتظره أربعة أيام، ومنه ما لا يقبل التأبير أصلا، بل تؤبره الريح بقدرة الله عز وجل.
وكل هذا يدل على الوحدانية، ولذلك يقولون: إن من أعظم الأدلة التي تدمغ الطبيعيين الذين يقولون إن الحياة طبيعية، ولا إله، وكل شيء وجد هكذا طبيعة، هو هذا الاختلاف، فاختلاف الأشياء يدل على وجود من وضعها بهذا الترتيب، إذ لو كانت النخل تثمر من نفسها، والثمرة تخرج من نفسها لكانت على وتيرة واحدة، ولكن كون بعضها يحتاج إلى تبريد وبعضها إلى استعجال وبعضها يحتاج إلى وبار كثير وبعضها يحتاج إلى وبار قليل وبعضها يحتاج إلى وبار بين بين، فإنه يدل على أن هناك قدرة إلهية، فخلق كل شيء وأتقنه، {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل:88] ، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنه أحسن الخالقين، وتبارك الله رب العالمين.
ولذلك عند التساهل والتفريط يضمن العامل، فلو كان يعلم أن هذا النوع -مثلا- يحتاج إلى تبكير في التأبير، فمثلا الروثانة تحتاج إلى تبريد ثلاثة أيام، فأخرها إلى سبعة أيام، فهذا قد يفسد الثمرة، فيضمن.
كذلك أيضا هناك انواع كالخشيمي يحتاج إلى مبادرة، فهذا النوع لو تأخر وتركه يوما أو يومين أو ثلاثة فإنه يفسد.
فالشاهد أن كل نوع له حاله وحكمه، فإذا قصر العامل ضمن، ولا يمكن أن نحكم بتقصير العامل إلا بشهادة أهل الخبرة، فإذا قال أهل الخبرة بأن هذا النخل يبكر وما بكر، وهذا يحتاج إلى تأخير ولكن العامل عجل ونحو ذلك؛ فإنه يضمن ويتحمل المسئولية، هذا إذا كان عمل العامل بتفريط.
أما لو تلفت بآفة سماوية فمذهب بعض العلماء أنها تنفسخ وليس له شيء، والله تعالى أعلم.
وصية في التفكر في آيات الله الكونية
السؤال إن التفكر في الآيات المنثورة في الكون والفلوات مما يزيد من إيمان العبد، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل تلا أواخر آل عمران، فهل من وصية حول هذا الأمر؟
الجواب سعادة الدنيا وبهجتها وسرورها وأنسها بذكر الله جل جلاله، وأسعد الناس في هذه الدنيا من عمر الله قلبه بذكره، ولا حلاوة ولا لذة لهذه الدنيا إلا إذا عرف العبد ربه، وبمعرفة الله جل جلاله بأسمائه وصفاته، ودلائل وحدانيته، وشواهد قدرته وعظمته، تحبه صدق المحبة، وتخافه كمال الخوف، ومن عرف الله أحبه وهابه ومن أحب الله وهابه تكفل الله له بسعادة لا يشقى بعدها أبدا.
ولذلك أمر الله بذكره، وندب كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكثر من ذكره سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} [الأحزاب:41] * {وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب:42] * {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [الأحزاب:43] .
فهذا الإله العظيم، من عظمته جل جلاله، بل من عظيم كرمه وجوده علينا، أن جعل هذا الكون كله يذكر به سبحانه وتعالى، فإذا نظرت أمامك أو نظرت خلفك، أو عن يمينك أو عن شمالك أو من فوقك أو من تحتك؛ وجدت شواهد عظمته ودلائل ألوهيته ووحدانيته سبحانه وتعالى.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وفي كل شيء له دليل وشاهد على أنه المتفرد بالملكوت والجبروت سبحانه وتعالى، فإذا نظرت إلى السماء وهي مظلمة في الليل تتلألأ كواكبها ونجومها، وكيف قدرت ونظمت ورتبت السماء ليس فيها فطور، تتعاقب عليها الليل والنهار، وتتابعت عليها الدهور والعصور، وما اختلفت، ولا تغيرت ولا تبدلت، ولا أصبحت ضعيفة بمرور الأزمان: {صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} [النمل:88] سبحانه وتعالى؛ لأن الله خلقها وقال لها: كوني، أي: كوني على أتم الوجوه وأكملها، فكانت وما زالت على أتم الوجوه التي صنعها الله وقدرها عليها.
وإذا نظرت إليها وقد أشرقت شمسها، واستبان ضوؤها، وكيف أصبح الإنسان في وضح النهار يرى عظمة الله سبحانه وتعالى في كل شيء يراه بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يحسه في جسده، كل ذلك يدل على عظمة الله ووحدانيته وقدرته.
سعادة المؤمن أن لا يغفل عن الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى جعل الآيات حتى في النفس.
وقف الأطباء حائرين أمام عظمة إله الأولين والآخرين، وقفوا أمام العين وهي جزء من البدن، تجدهم يبحثون ويتعبون ويكدحون دهورا وقرونا وأزمنة تلو الأزمنة، ومع ذلك يقفون على طرف البحر ولم يخوضوه.
في كل زمان جديد، وفي كل زمان مكتشف، ومع ذلك قل أن تجد من يقول: لا إله إلا الله! وقل أن تجد من يقول: آمنا بالله، فإذا نظرت إلى العين فقط ودلائل عظمة الله سبحانه وتعالى فيها كيف أنها تميز بين الألوان! وكيف أنها تفرق بين الأشكال والأحجام، تتصور الأشياء ثم تنقل هذه الصورة إلى دماغ الإنسان في أقل من طرفة عين.
يقفون أمام الكمبيوترات والمصنوعات التي خلقها المخلوق الضعيف، والذي إذا أخطأ وقف كل شيء، ولا يقفون أمام عظمة الله جل جلاله، ولا يسبحون الله ولا يمجدونه سبحانه وتعالى، بل أكثر الناس عن آيات ربهم غافلون.
ولذلك فسعادة المسلم أن ينظر إلى عظمة الله.
وقف الأطباء أمام العين وهي مريضة سقيمة، فعجبوا من أمراضها المتعددة، وأسقامها المختلفة، وما تصاب به على اختلاف الإصابات، وإذا بكل مرض له حدود، وله قدر، وله مكان، لأن الله قدره وحدده، لا يزيد ولا يمكن أن يجاوز هذا الحد بعينه.
علمهم سبحانه ودلهم، فإذا بهم يحارون من هذه العين وهي سليمة، ويحارون منها وهي سقيمة، ثم بعد ذلك كله تفضل وتكرم فأعطاهم الدواء، ودلهم على عظمته ووحدانيته وقدرته، أنها إذا تعطلت فهو قادر على أن يعيدها، وقادر على أن يجعلها كأحسن مما كانت عليه، فيقفون في طب القديم أو طب الحديث أمام عروقها وأعصابها فيعالجونها بدوائها، فإذا بها قد تفتحت وأبصرت، وإذا بالمواعيد التي تحدد للعمليات الجراحية وللعلاجات محددة، مقدرة يقال: ضع هذا الدواء ثلاثة أيام افعل كذا ثلاثة أيام، ولا تفعل كذا، واحجبها عن النور، وافعل وافعل، وإذا بها بعد ثلاثة أيام تشفى.
إن الله هو الشافي، ووالله لا طبيب ولا مداو يستطيع أن يجاوز قيد شعرة من عظمة الله جل جلاله.
ثم لما تفضل عليهم بذلك اغتروا فقالوا: علمنا طب العيون، فقال لهم: خذوا من عظمتي ودلائل وحدانيتي، فأوقفهم حائرين أمام كفيف لا يبصر، فقال لهم: أعيدوا له البصر، فإذا بهم يقفون أمامه، ويصفقون الأيدي، فقالوا: خلقك الله أعمى فلا نستطيع أن نرد لك البصر، فجاءهم بصحيح كان يبصر بالأمس، وفجأة طفئ نوره فأصبح لا يرى، وانفصلت شبكيته فقال لهم: ردوا البصر إن كنتم قادرين، فقالوا: آمنا بالله رب العالمين.
هذا حدود الطب.
فتجد أقوى طبيب يقف أمامه ويقول له: لا أملك لك شيئا، فعلنا المستحيل ولا نستطيع أن نجاوز عظمة الله الجليل، وقفوا حائرين أمام عظمة الله جل جلاله في كل شيء.
لو قرأت عن عالم الطب في الأعصاب، وما جعل الله في هذا الجسم من الأعصاب الدقيقة في جميع أجزاء الجسم، تنقل الأحاسيس الحار والبارد ينقل إلى دماغ الإنسان في أقل من طرفة عين، وتقف أمام أي موقف فتنقل أحاسيسك إلى الدماغ، فلو كنت أمام نار فإن ما تراه العين ينقل إلى الدماغ: أنني أمام نار، وإذا بالدماغ يفهم أن النار محرقة، فيأتيك الأمر من الدماغ: ارجع فر ابتعد، خذ الماء، وذلك في طرفة عين.
هذا الجهاز -جهاز العصب- في دراستي لبحث الدكتوراة، جلست مع طبيب متخصص في مسألة التخدير الجراحي، كان متخصصا فقط في مسألة الأعصاب وكيفية تخديرها، والله حار العقل من عظمة الله جل جلاله، فيقف ويقول: سبحان الله رب العالمين، ما أغفلنا عن الله! ووالله إن التفكر في عظمة الله ودلائل وحدانية الله هو لذة الدنيا وسرورها، ينتقل المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، ولا يزال يتفكر في ملكوت الله حتى يملأ الله قلبه بالمعرفة بالله، وعندها يطمئن ويرضى بالله، إن أصابته ضراء صبر، وأحس أن الكون كون الله، فلم يجزع ولم يتسخط، لأنه يحس بعظمة الله جل جلاله، ويفر من الله إلى الله، وإن أصابته سراء ذل لله جل جلاله، فإذا بك تراه غنيا في ثوب فقير، وإذا بك تراه عزيزا في ثوب ذليل، فيقول: الله أعطاني والله أغناني والله أولاني فيثني على الله بما هو أهله، فإذا هي كلمات تفتح لها أبواب السماوات، يراها أمام عينيه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن التفكر في عظمة الله وملكوته، أمر ينبغي للمسلم أن لا يغفل عنه في جميع الشئون والأحوال، فإذا وفق الله العبد لذلك فقد أعطاه سعادة الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تملأ قلوبنا بالإيمان بك، اللهم إنا نسألك حلاوة الإيمان ولذة اليقين، ونسألك بعزتك وأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل لنا من ذكرك وشكرك وحسن عبادتك أوفر الحظ والنصيب، حتى تتوفانا وأنت راض عنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.