
13-12-2024, 04:34 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,090
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
الحلقة (518)
صــ 351 إلى صــ 365
القول في تأويل قوله ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( 149 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه "إن تبدوا" أيها الناس" خيرا " ، يقول : إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم ، فتظهروا ذلك شكرا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم ، "أو تخفوه" ، يقول : أو تتركوا إظهار ذلك [ ص: 351 ] فلا تبدوه "أو تعفوا عن سوء" ، يقول : أو تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته ، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به" فإن الله كان عفوا " ، يقول : لم يزل ذا عفو عن خلقه ، يصفح عمن عصاه وخالف أمره "قديرا" ، يقول : ذا قدرة على الانتقام منهم .
وإنما يعني بذلك : أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده ، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه .
يقول : فاعفوا ، أنتم أيضا ، أيها الناس ، عمن أتى إليكم ظلما ، ولا تجهروا له بالسوء من القول ، وإن قدرتم على الإساءة إليه ، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم ، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره .
وفي قوله جل ثناؤه : " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " ، الدلالة الواضحة على أن تأويل قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، بخلاف التأويل الذي تأوله زيد بن أسلم ، في زعمه أن معناه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأهل النفاق ، إلا من أقام على نفاقه ، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول . وذلك أنه جل ثناؤه قال عقيب ذلك : " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء " ، ومعقول أن الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن المنافقين على نفاقهم ، ولا نهاهم أن يسموا من كان منهم معلن النفاق"منافقا" . بل العفو عن ذلك ، مما لا وجه له معقول . لأن"العفو" المفهوم ، [ ص: 352 ] إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من حق . وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لأحد قبله ، فيؤمر بعفوه عنه ، وإنما هو اسم له . وغير مفهوم الأمر بالعفو عن تسمية الشيء بما هو اسمه .
القول في تأويل قوله ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ( 150 ) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( 151 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إن الذين يكفرون بالله ورسله " ، من اليهود والنصارى " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " ، بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه ، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم . وذلك هو معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله ، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله ، وادعائهم عليهم الأباطيل"ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" ، يعني أنهم يقولون : "نصدق بهذا ونكذب بهذا" ، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم ، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم . وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم" ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " ، يقول : ويريد المفرقون بين الله ورسله ، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، أن يتخذوا بين أضعاف [ ص: 353 ] قولهم : "نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض""سبيلا" ، يعني : طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها ، والبدعة التي ابتدعوها ، يدعون أهل الجهل من الناس إليه .
فقال جل ثناؤه لعباده ، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم : " أولئك هم الكافرون حقا " ، يقول : أيها الناس ، هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم ، هم أهل الكفر بي ، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقا . فاستيقنوا ذلك ، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ، ودعواهم أنهم يقرون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل ، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كذبة . وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل ، هو المصدق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق ، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن . فأما من صدق ببعض ذلك وكذب ببعض ، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء به جاحد ، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب . وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء ، وزعموا أنهم مصدقون ببعض ، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون ، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم ، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون ، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون كافرون ، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوة أنبيائه حق الجحود ، المكذبون بذلك حق التكذيب . فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم ، فإنا قد أعتدنا لهم عذابا مهينا .
وأما قوله : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " ، فإنه يعني : "وأعتدنا" لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم ، أيها الناس ، أمرهم من أهل الكتاب ، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار "عذابا" ، في الآخرة"مهينا" ، [ ص: 354 ] يعني : يهين من عذب به بخلوده فيه .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10765 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " ، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى . آمنت اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى . وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى ، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم . فاتخذوا اليهودية والنصرانية ، وهما بدعتان ليستا من الله ، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله .
10766 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " ، يقولون : محمد ليس برسول لله! وتقول اليهود : عيسى ليس برسول لله! فقد فرقوا بين الله وبين رسله"ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" ، فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
10767 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " إن الذين يكفرون بالله ورسله " إلى قوله : "بين ذلك سبيلا" ، قال : اليهود والنصارى . آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى ، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزير . وكانوا يؤمنون بالنبي ويكفرون بالآخر"ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا" ، قال : دينا يدينون به الله .
[ ص: 355 ] القول في تأويل قوله ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ( 152 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والذين صدقوا بوحدانية الله ، وأقروا بنبوة رسله أجمعين ، وصدقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه"ولم يفرقوا بين أحد منهم" ، يقول : ولم يكذبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم ، ولكنهم أقروا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حق "أولئك" ، يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله"سوف يؤتيهم" ، يقول : سوف يعطيهم "أجورهم" ، يعني : جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه ، وما جاءت به من عند الله "وكان الله غفورا" ، يقول : ويغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه ، فيستر عليه بعفوه له عنه ، وتركه العقوبة عليه ، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورا"رحيما" ، يعني ولم يزل بهم رحيما ، بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل الحق ، وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رقابهم من النار .
[ ص: 356 ] القول في تأويل قوله ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( 153 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "يسألك" يا محمد "أهل الكتاب" ، يعني بذلك : أهل التوراة من اليهود "أن تنزل عليهم كتابا من السماء" .
واختلف أهل التأويل في "الكتاب" الذي سأل اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء .
فقال بعضهم : سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا ، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله .
ذكر من قال ذلك :
10768 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، قالت اليهود : إن كنت صادقا أنك رسول الله ، فآتنا كتابا مكتوبا من السماء ، كما جاء به موسى .
10769 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك! فأنزل الله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، إلى قوله : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " .
[ ص: 357 ]
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزل عليهم كتابا ، خاصة لهم .
ذكر من قال ذلك :
10770 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، أي كتابا ، خاصة" فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " .
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالأمر بتصديقه واتباعه .
ذكر من قال ذلك :
10771 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، وذلك أن اليهود والنصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : "لن نتابعك على ما تدعونا إليه ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله ، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله"! قال الله جل ثناؤه : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق ، آمرة لهم باتباعه .
وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابا مكتوبا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم وجائز أن يكون ذلك كتبا إلى أشخاص بأعينهم . بل الذي هو أولى [ ص: 358 ] بظاهر التلاوة ، أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم ، لذكر الله تعالى في خبره عنهم"الكتاب" بلفظ الواحد بقوله : "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء" ، ولم يقل"كتبا" .
وأما قوله : " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " ، فإنه توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتاب الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزله عليهم من السماء ، في مسألتهم إياه ذلك وتقريع منه لهم . يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا يعظمن عليك مسألتهم ذلك ، فإنهم من جهلهم بالله وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه ، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم ، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم ، فعبدوا العجل واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم ، لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم .
ثم قص الله من قصتهم وقصة موسى ما قص ، يقول الله : " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " ، يعني : فقد سأل أسلاف هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام ، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء ، فقالوا له : " أرنا الله جهرة " ، أي : عيانا نعاينه وننظر إليه .
وقد أتينا على معنى"الجهرة" ، بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك ، بما : - [ ص: 359 ]
10772 - حدثني به الحارث قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن هارون بن موسى ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، إنما قالوا جهرة : "أرنا الله" . قال : هو مقدم ومؤخر .
وكان ابن عباس يتأول ذلك : أن سؤالهم موسى كان جهرة .
وأما قوله : " فأخذتهم الصاعقة " ، فإنه يقول : "فصعقوا""بظلمهم" أنفسهم . وظلمهم أنفسهم ، كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة ، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته .
وقد بينا معنى : "الصاعقة" ، فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها ، والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب .
وأما قوله : " ثم اتخذوا العجل " ، فإنه يعني : ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة ، بعد ما أحياهم الله فبعثهم من صعقتهم العجل الذي كان السامري نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام إلها يعبدونه من دون الله .
وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل ، وكيف كان أمرهم وأمره ، فيما مضى بما فيه الكفاية .
[ ص: 360 ]
وقوله : " من بعد ما جاءتهم البينات " ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا ، البينات من الله ، والدلالات الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا .
وإنما عنى ب "البينات" : أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة . وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك : إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة ، ثم إحياؤه إياهم بعد مماتهم ، مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالة على ذلك .
يقول الله مقبحا إليهم فعلهم ذلك ، وموضحا لعباده جهلهم ونقص عقولهم وأحلامهم : ثم أقروا للعجل بأنه لهم إله ، وهم يرونه عيانا ، وينظرون إليه جهارا ، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم : أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا ، فعكفوا على عبادته مصدقين بألوهته!!
وقوله : " فعفونا عن ذلك " ، يقول : فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه ، وللمصدقين منهم بأنه إلههم بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك ، بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسهم ، وصبرهم في ذلك على أمر ربهم" وآتينا موسى سلطانا مبينا " ، يقول : وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه ، وحقيقة نبوته ، وتلك الحجة هي : الآيات البينات التي آتاه الله إياها .
[ ص: 361 ] القول في تأويل قوله ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ( 154 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ورفعنا فوقهم الطور " ، يعني : الجبل ، وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى فيها "بميثاقهم" ، يعني : بما أعطوا الله الميثاق والعهد : لنعملن بما في التوراة " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " ، يعني"باب حطة" ، حين أمروا أن يدخلوا منه سجودا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم "وقلنا لهم لا تعدوا في السبت" ، يعني بقوله : "لا تعدوا في السبت" ، لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم ، كما :
10773 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " ، قال : كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس .
"وقلنا لهم لا تعدوا في السبت" ، أمر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها ، وأحل لهم ما وراء ذلك .
[ ص: 362 ]
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام : ( لا تعدوا في السبت ) ، بتخفيف"العين" من قول القائل : "عدوت في الأمر" ، إذا تجاوزت الحق فيه ، "أعدو عدوا وعدوا وعدوانا وعداء" .
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة : ( وقلنا لهم لا تعدوا ) بتسكين"العين" وتشديد"الدال" ، والجمع بين ساكنين ، بمعنى : تعتدوا ، ثم تدغم "التاء" في"الدال" فتصير"دالا" مشددة مضمومة ، كما قرأ من قرأ ( أم من لا يهدي ) [ سورة يونس : 35 ] ، بتسكين "الهاء" .
وقوله : " وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " ، يعني : عهدا مؤكدا شديدا ، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به ، وينتهون عما نهاهم الله عنه ، مما ذكر في هذه الآية ، ومما في التوراة .
وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدا ، وما كان من أمرهم في ذلك وخبرهم وقصتهم وقصة السبت ، وما كان اعتداؤهم فيه ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
[ ص: 363 ] القول في تأويل قوله ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 155 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب"ميثاقهم" ، يعني : عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة "وكفرهم بآيات الله" ، يقول : وجحودهم"بآيات الله" ، يعني : بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله وحقيقة ما جاءوهم به من عنده "وقتلهم الأنبياء بغير حق" ، يقول : وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوتهم"بغير حق" ، يعني : بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها "وقولهم قلوبنا غلف" ، يعني : وبقولهم" قلوبنا غلف " ، يعني : يقولون : عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه ، فلا نفقه ما تقول ولا نعقله .
وقد بينا معنى "الغلف" ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل .
" بل طبع الله عليها بكفرهم " ، يقول جل ثناؤه : كذبوا في قولهم : " قلوبنا غلف " ، ما هي بغلف ، ولا عليها أغطية ، ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله .
[ ص: 364 ]
وقد بينا صفة "الطبع على القلب" ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .
" فلا يؤمنون إلا قليلا " ، يقول : فلا يؤمن - هؤلاء الذين وصف الله صفتهم ، لطبعه على قلوبهم ، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله - إلا إيمانا قليلا يعني : تصديقا قليلا وإنما صار "قليلا" ، لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب ، وكذبوا ببعض . فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه ، فهم به مكذبون من وجه آخر ، وذلك من وجه تكذيبهم من كذبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله ، ورسل الله يصدق بعضهم بعضا . وبذلك أمر كل نبي أمته . وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويحقق بعض بعضا . فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها ، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقر بصحته . فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10774 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم"وقولهم قلوبنا غلف" ، أي لا نفقه ، "بل طبع الله عليها بكفرهم" ، ولعنهم حين فعلوا ذلك .
[ ص: 365 ]
واختلف في معنى قوله : " فبما نقضهم " ، الآية ، هل هو مواصل لما قبله من الكلام ، أو هو منفصل منه .
فقال بعضهم : هو منفصل مما قبله ، ومعناه : فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم .
ذكر من قال ذلك :
10775 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فلا يؤمنون إلا قليلا " ، لما ترك القوم أمر الله ، وقتلوا رسله ، وكفروا بآياته ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم .
وقال آخرون : بل هو مواصل لما قبله . قالوا : ومعنى الكلام : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم الأنبياء بغير حق ، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة . قالوا : فتبع الكلام بعضه بعضا ، ومعناه : مردود إلى أوله . وتفسير"ظلمهم" ، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله ، بما فسر به تعالى ذكره ، من نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء ، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|